في المعاجم الأوروبية يترجم الجذر اللغوي لكلمة «بروتستانت» بالرفض أو الاحتجاج، أما في الاصطلاح فإننا نعني بالكلمة الحركة الدينية التي بدأها القس الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر، والتي أنتجت مذهباً جديداً كان يهدف لإعادة القدسية للديانة المسيحية، بعد أن تم تشويهها عبر تحالف شرير بين رجال الدين ورجال السلطة.
عبر هذا التحالف منحت الكنيسة، بما لها من مكانة في قلوب عامة الشعب، الحكام شرعية وقدسية مستمدة من كونهم مفوّضين من قبل الله، الذي تمثله الكنيسة، في رعاية شؤون الرعية. هذا الوضع جعل رجال الدين يسيطرون على الشعب وعلى الحاكم. بالنسبة للأخير كان كسب القساوسة والرهبان مهماً لتثبيت السلطة السياسية. كانوا يعلمون أن من السهل على رجال الكنيسة أن يثيروا القلاقل، وأن يسحبوا عن أيٍ كان عرشه وملكه عبر القول بأنه مارق عن طاعة الكنيسة.
بالإضافة إلى الفساد المالي والأخلاقي الذي انتشر وازدهر في تلك الفترة من خلال ذلك المزج الجهنمي بين سلطة دينية فاسدة وحكام لا يقلون فساداً وطمعاً، كانت هنالك مشكلة أكبر حملت مارتن لوثر على القيام بحركته التصحيحية التي تعد من أهم الانشقاقات عبر مجمل تاريخ الديانة المسيحية. تمثلت هذه المشكلة في الفساد الذي وصل حدود العقيدة، حيث ارتبط الغفران والتكفير عن الخطايا برضا رجال الكنيسة، الذين منحوا أنفسهم هذه السلطة واستغلوها أبشع استغلال في ابتزاز البسطاء من المؤمنين، حتى وصلوا درجة بيع هذا الغفران عبر صكوك تضمن لصاحبها الابتعاد عن النيران والخلود في النعيم.
استغل تحالف الدين والسلطة الجهل المستشري بين الناس لإقناعهم بأن قدرهم هو أن يكونوا ضعفاء وفقراء ومظلومين في الدنيا، وأن هذا هو ما نص عليه الكتاب المقدس، الذي يبشر البؤساء بالتعويض في الحياة الآخرة إذا ما صبروا.
كان مارتن لوثر يؤمن بأن تشويهاً وتحريفاً متعمداً قد طرأ على الكلمات المقدسة، وأن أهم خطوة لإقناع الناس بذلك تتمثل في ترجمة الإنجيل إلى اللغة الألمانية المبسطة، التي تجعله متاحاً للجميع وليس فقط لرجال الدين الذين يقرأونه بلغته القديمة، التي لا يفهمها أحد ثم يفسرونه على هواهم، وبحسب مصالحهم. جمع لوثر أفكاره هذه في مجموعة من النقاط التي اشتهرت باسم «لاهوت التحرير» نسبة للنقطة الأهم التي عالجتها والمتعلقة بكيفية التحرر والتخلص من الخطايا من دون الارتهان لوسيط بشري. منذ ذلك الوقت تطورت البروتستانتية من مجرد حركة احتجاج إلى عقيدة كاملة، وساهم هذا التطور وهذه الأفكار المعبأة بالحرية في مساءلة الأصول التي تستند إليها العلاقة بين الحكام والشعوب والكنيسة في أوروبا. بتحييد العامل الديني الذي كان يكبل الناس عن مناقشة أمور الفكر والسياسة، والذي كان يضفي قدسية كبيرة على الحكام فيمنع أي محاولة للمساس بهم أو حتى انتقادهم، بدأت تظهر الأفكار التي انتقلت بأوروبا من عهد الدولة الدينية التي تسيطر فيها الكنيسة على كل شيء إلى عهد المدنية والحداثة، الذي يمتلك الناس فيه حق اختيار حكامهم وحق منحهم الشرعية، بل إن بالإمكان الاتفاق مع ماكس فيبر على أن نشأة الرأسمالية والليبرالية الحديثة قد ارتبطت بشكل أو بآخر بولادة البروتستانتية.
هناك أبحاث كثيرة تناولت شخصية مارتن لوثر ودوافعه من نشر أفكاره في ذلك التوقيت، خاصة لجهة علاقته الملتبسة مع ولاة أمر زمانه. ما يهمنا هنا هو نجاح الرجل في بناء ركن منافس للكاثوليكية والأرثوذكسية اللتين طالما تفردتا بسطوة مطلقة على قلوب المؤمنين. الرجل أيضاً وضع لبنات مهمة في سبيل تحرير الدين المسيحي من الاستغلال، وهو ما ستتبلور عنه لاحقاً المدرسة التي سترى أن ذلك لن يتحقق إلا بالفصل التام بين ما هو ديني مقدس وما هو دنيوي سياسي.
بالمقابل، وعلى الضفة الأخرى من العالم، برزت خلال القرنين الأخيرين آراء تزعم وجود «مشكلة» مشابهة تتعلق بالدين الإسلامي. مشكلة تحتاج إلى مصلح يمتلك الشجاعة لوضع نسخة جديدة من هذا الدين، الذي لم يطرأ على منهجه أي تغيير أصولي منذ وفاة النبي (ص). الإحساس بالمشكلة ظهر عند احتكاك النخبة المثقفة الأول بالعالم الغربي، حيث تبين لهم حجم المسافة التي تفصلهم عن ذلك العالم. كانت المسافة كبيرة فعلاً، لكن أولئك المثقفين لم يرجعوا السبب في تخلف المسلمين للسياسات والمفاهيم الخاطئة التي كانت تمنعهم من الانفتاح على الآخر، وتوصد أمامهم أبواب العلم والاجتهاد على صعيدي الدنيا والدين، ولكنهم اعتبروا أن المشكلة مشكلة دينية بالأساس وأن هذا الدين، الإسلام، يشكّل عائقاً في طريق التقدم والحداثة، ما يوجب إجراء بعض «التعديلات» عليه بشكل يجعله متماشياً مع روح العصر، أو إذا تعذّر ذلك، تحجيمه ضمن أصغر نطاق ممكن أسوة بالتجربة الأوروبية، إلا أن المستعمر سبق جميع أولئك في حديثهم عن «مشكلة الإسلام»، فقد تحدثت كتابات المستشرقين الذين سبقوا أو رافقوا حملات الغزو الاستعمارية عن الخصوصية التي يتمتع بها أصحاب الدين الإسلامي، التي تجعلهم مختلفين عن غيرهم من أصحاب العقائد الأخرى التي يمكن أن تكون قد واجهت الاستعمار.
يتمتع المسلمون بحسب ملاحظات المستشرقين بانتمائهم الذي لا ينازع إلى دينهم، بحيث تصبح جميع استراتيجيات التنصير أو الترهيب عندهم بلا جدوى. أكثر ما يمكن فعله هو التشكيك بالأدبيات الدينية ونشر الاختلافات وتشجيع الفرق والجماعات الشاذة لكسر وحدة الصف المسلم، الذي أظهر في معظم بقاع العالم مقاومة لا تنسى للاحتلال والعدوان متسلحاً بعقيدة ثورية لا تعرف الاستسلام. من هنا نشأت الحاجة لتطوير العقيدة الإسلامية بشكل يجعلها تتماشى مع العصر الحديث وتنشئ حالة من الذوبان التي تجعل المسلم لا يكاد يختلف عن غيره من أصحاب العقائد الأخرى إلا في بعض التفاصيل. يمكن أن ينجح ذلك من خلال توظيف عبارات فضفاضة من قبيل «صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان» أو من خلال دعوات لما بات يعرف «بتجديد الخطاب الديني».
إلا أن هذا «التطوير» يجب أن يتم بأيدٍ مسلمة، فشتان ما بين أن يشكّك عالم منتمٍ لأحد المعاهد الإسلامية بطرق جمع الحديث، أو بصحيحي البخاري ومسلم، وما بين أن يقوم بالمهمة مستشرق معروف بموقفه العدائي من الإسلام. بالقدر نفسه فإن الدعوة لمؤتمر في بلد مسلم لتعريف معنى السنة وجمع «علماء» وباحثين له يخلصون في ختامه إلى إخراج الكثير من المسلمين من معنى أهل السنة يأخذ وقعاً أكبر مما لو كان عقد في مكان آخر وبحضورٍ آخرين.
يناقش المنشغلون بتجديد الدين اليوم فشلهم وقلة منجزهم، رغم توفر المعينات المادية اللازمة والغطاء السياسي الذي يشجّع ويدعم في أكثر من بلد هذه المحاولات. بنظري فإن المشكلة التي تواجه هؤلاء «المسلمين البروتستانت»، الرافضين أو المحتجين على بعض ما ورد في العقيدة أو الشريعة الإسلامية من قطعيات، تكمن في انعدام الأصالة وانطلاق أولئك من منصة النقد الغربية ومن الغرب وقيمه كمعيار وأساس. وهكذا، ورغم أنهم كثيراً ما يحتفون بمارتن لوثر، آملين في وضع نقطة فارقة مثله في مسار التاريخ الإسلامي، إلا أن أحداً منهم لم ينجح في ذلك نجاحاً يستحق الذكر رغم ما حظي به بعضهم من تبجيل وسمعة وألقاب.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
شكرا للدكتور الفاتح على هذا المقال الجيد
الذي حدث هو عكس ما تمناه الكاتب بالضبط ,, لان ظهر تنظيم الدوله الذي طبق نصوص القران و السنه كما هي على ارض الواقع ,,جعلنا نرى الخلافه الاسلاميه الان , و انظم اليهم كثير من المسلمين و دون عناء اقناعهم بمبادئ الاسلام , لانهم يعرفونها و مقتنعين بها منذ صباهم , بل و يستشهدون من اجلها , ولا يمكن ثنيهم عن قناعاتهم , ولاتزال فكرة قيام دوله الخلافه موجودة في عقول كثير من المسلمين .
في المقابل , لا يمكن شطب ايات او سنه نبويه لا تتفق مع الحياه العصريه , لانها موثقه و باقية في الكتب و الوثائق , فكيف نشطبها؟؟؟
الامر في الاسلام يختلف عن ثورة لوثر , لان لوثر ابقى على الكتاب المقدس ولكن ازاح القسس و الرهبان
في الاسلام و حيث نبقي على القران , نجد فيه ما لا يمكن نطبيقه الان ولا يمكن الغائه ايضا !
نحن في متاهه , لا نعرف اين نتجه في قراراتنا ,
شكرا
يجب تحرير الاسلام من الكهنوت و تجار الدين و السياسة ….بحصره فى المجال الخاص …لان العلاقة بين العبد و ربه لا تهم أحد غيره ….و انتهى وقت فرض معتقد معين على الناس بحد السيف …..تحيا تونس تحيا الجمهورية
كلام جميل ولكن اسباب فشل هؤلاء الذين تسميهم المسلمون البروتستانت ليس في انعدام الاصالة او انهم مقلدين للغرب على العكس فهم يتناولوم خطابهم التجديدي من شروحات جديدة لالايات القرانية ولكنهم مهددين في حياتهم بسبب تكفيرهم من المؤسسة الديتية فيلجؤن للهجره من اوطانهم وبالتالي يكون عملهم دون اي نتيجة تذكر على مستوى العامة اما على مستوى المتعلمين فهم مؤثرين, فالقرانيين موجودين رغم قلتهم ولكنهم مطلوبين للعدالة فتم محاكمة احدهم في السودان حسب علمي ,ولكن الامور مع وجود ثورة الاتصالات الحالية لن تبقى على هذا الحال وكذلك بعض المسلمين والمسلمات في اوربا وامريكا اصبح لهم اسلامهم غير التقليدي فهناك نساء تتقدم المصلين
لماذا اكاد ان اقول بفصل الدين عن السياسة و فصل السياسة عن الدين؟
نرى و نسمع بل و نشارك يوميا في سجالات و مماحكات مبتذلة تمس الدين ابطالها ما يقال عنهم علمانيون او يساريون او اسلاميون او حتى عامة الناس.
يحلو للعلمانيين و اليساريين (او ما يسمون انفسهم بذلك) انتقاد الدين من حيث بعض الفروع لتحقيق مكاسب سياسية و خاصة عند جمهور النساء البسيطات و من ذلك اثارة مواضيع الميراث و شهادة المرأة و الطلاق الشفوي و زواج القاصرات و تعدد الزوجات. و يطربون لمن يرد عليهم وخاصة من المتنطعين بالدين و نسي هؤلاء و اولئك القضايا الاساسية الكبرى و المهددة لوجودنا كله.
يمكن تشبيه هذا الوضع باسرة تسكن في بيت معرض للانهيار او الغرق او الحريق في اي قت و تسكنهم الامراض و لكن تشغلهم الوان الجدران او اوقات التنظيف او سلوك بنت الجيران او اوقات زيارة الاهل.
مشكلتنا كأمة هي تخلفنا المستمر و المتسارع بالنسبة لكل امم العالم. و ان مستقبلنا كارثي مظلم اذا بقينا على مانحن فيه. و الامم المتقدمة المحترمة قوية بمواردها البشرية اولا وآخرا بينما تبلغ نسبة الاميين في العالم العربي 39% و اغلب ال 61% الباقية بما فيهم الكثير من حملة الشهادات العليا غير قادرين على الابداع او الابتكار او حتى قراءة كتاب كل سنة. الامم الاخرى قوتها في جامعاتها و مراكز البحوث فيها و براءات الاختراع (مثلا في عام 2015 تم تسجيل 20155 براءة اختراع في كوريا الجنوبية مقابل 30 في مصر التي فيها ضعف سكان كوريا و فيها اكثر من مليون من حملة الماجستير و الدكتوراة).
الامم تتقدم في التعليم والصحة و الزراعة و الصناعة و التكنولوجيا و نحن فيها مجرد مستهلكين هذا اذا توفرت لنا بعض فوائض النفط وبعض الموارد الاخرى، او ما يتفضلون به علينا من مساعدات مقابل ان نضرب رقاب بعض..
اليس من الاجدر الانتباه الى مشكلة الامية. فالبنسبة للمتدينين فان هذا يعني ان 39% لا يجيدون قراءة سورة الفاتحة ناهيك عن الصلاة. و لا يعني ان ال 61% الباقين يجيدونها. اليس من الاجدر بالغيورين على الدين و المتشددين اخراج اكثر من نصف الشعب من ظلماته. اليس هذا جهاد اعظم. ام انها مماحكات؟
اما بالنسبة لمن يقال انهم علمانيون او يساريون الا يدركون ان تزويج القاصرات ناتج عن الفقر و الجهل. و ان معظم النساء في بلادنا لا يحصلون على اي ميراث اصلا بسبب تحكم تقلياليد اجتماعية اخرى؟؟ . يتبع لطفا
@خليل: أنا كعلمانى أرفض توضيف الدين الإسلامى لذالك اطالب بحصره فى المجال الخاص ….لان تركه فى المجال العام ….سوف نرى ما نراه اليوم ….توضيف الدين من تجار الفتاوى للارتزاق منه و توضيف نوع آخر من تجار الدين وهو توضيف سياسي او ما يسمى الإسلام السياسي الذى يؤدى حتما للخراب الذى نراه ….
على المؤسسات الدينية ان تصلح نفسها و تنظف من حولها اذا ارادت ان يكون لها مستمعين و هنا أتحدث عن الأزهر مثلا الذى أقام الدنيا و لم يقعدها لان تونس تتجه المساواة التامة فى الميراث و حق التونسية فى الزواج من غير المسلم لنكون منسجمين مع دستورنا التونسي ….و فى نفس الوقت لا يحرك ساكنا تجاه المآسي التى تخص الميراث فى مصر بلاده و التى تحرم فيها المرأة حتى من الميراث “الشرعى” الذى ينادون به ….!!!! و ميئات القضايا الأخرى التى لا ينظر لها فى مصر …. انا حسب رأى يجب أن نخرج من هذه الأممية الدينية و كل واحد يصرف أموره الداخلية حسب وضعه الداخلى و هذا ما سلطانه فى تونس لان ما يصلح هنا لا يصلح هناك ….و نحن عشرات القضايا المجتمعية التى لها ارتباط بالدين تجاوزناها منذ سنين و لكن فى بلدان أخرى لا يمكن حتى التفكير فى الخوض فيها ….و اهل أهل مكة ادرى بشعابها ….تحيا تونس تحيا الجمهورية
تابع:
ما بالنسبة لمن يقال انهم علمانيون او يساريون الا يدركون ان تزويج القاصرات ناتج عن الفقر و الجهل. و ان معظم النساء في بلادنا لا يحصلون على اي ميراث اصلا بسبب تحكم تقلياليد اجتماعية اخرى؟؟ . و ان تعدد الزوجات كان لضرورات اجتماعية اغلبها اقتصادي بمعنى ان المراة غير قادرة على الكسب لعدم التأهيل او للانشغال بتربية الاطفال؟؟ ام انها مماحكات مبتذلة للتهجم على الدين مقابل مكاسب انتخابية سريعة.
هل الدين هو سبب التخلف ام استعمال الدين الخاطئ من هؤلاء و اولئك؟ هل سيكون المجتمع افضل بلا دين؟ بل العلة في السياسة. قاتل الله السياسة فهي بلا اخلاق و لا ضمير.
الحقيقة اننا نواجه مخاطر ماحقة اخرى كثيرة اهمها وجود اسرائيل و ليس حدودها، و البيئة، وخطر الوقوع تحت الاحتلال المباشر من قبل ايران وروسيا و تركيا خاصة لملأ الفراغ. و لكني ركزت على مسألة الامية و جهالة المتعلمين لدينا لاني احس انها متعمدة فهؤلاء كنز استرتيجي للسياسيين يسهل تعبئتهم و الصعود على جماجمهم ثم الادعاء بانهم يتحدثون باسمهم.