مسلمو أوروبا… خطر الإرهاب وإشكالية التعايش

مع كل موجة إرهاب تضرب احدى مدن الغرب، يعود الرأي العام إلى طرح إشكالية التعايش بين مسلمي الغرب ومجتمعاتهم الجديدة التي منحتهم فرص حياة آمنة وقيم الديمقراطية التي لم يحظوا بها في بلدانهم الأصلية، ويعود بعض العازفين على نغمة النظرة النمطية (الستريوتايب) التي ترى المسلم إرهابيا أو متطرفا لتضع بذلك عشرات الملايين من المواطنين الصالحين في قفص الاتهام ولتحاسبهم على أفعال قام بها حفنة متطرفين مهووسين لا يمتون بصلة لا للإسلام ولا للإنسانية. منذ ان أطلق صامويل هنتنغتون نظريته حول (صدام الحضارات) والتي جادل فيها أن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون متمحورة حول خلاف ايديولوجيات بين الدول القومية بل سيكون محركها الاختلاف الثقافي والديني بين الحضارات الكبرى في العالم، ودوائر المخابرات والأمن القومي الغربية تضع مواطنيها المسلمين من المهاجرين تحت المجهر الأمني في محاولة لتشكيل درع استراتيجي ضد انتشار الحركات الإسلامية المتشددة في بلدانها، ما دفع كما يلاحظ بعض الباحثين بالجاليات المسلمة إلى الانعزال في تجمعات خاصة بهم تكاد تتحول إلى نوع من غيتو، كما هو الحال في حي مولنبيك الشعبي في العاصمة بروكسل، الذي يعيش فيه آلاف المسلمين من المهاجرين، والذي سلطت وسائل الإعلام الضوء عليه مؤخرا بعد ان اكتشفت قوات الأمن ان عددا من إرهابيي عمليات باريس الأخيرة قد جاؤوا من هذا الحي، ومن الاطلاع على التقارير الصحافية نستطيع تلمس الحلقة المفرغة التي يدور فيها الحدث، فالمهاجر يشعر بالتهميش في أحياء الضواحي التي تحولت إلى نوع من الغيتوات دون ان يمتلك من الوسائل ما يمكنه من الاندماج في مجتمعه، يقابله اهمال حكومي تجاه هذه الأحياء التي تتحول بمرور الوقت إلى حاضنات نموذجية لانتشار التطرف الإسلامي.
ويشير العديد من المتابعين إلى ان الحكومات الغربية كانت تغض النظر عن نشاط عدد كبير من إسلامييها المتطرفين وهم يلتحقون بالحركات الإرهابية في المناطق الساخنة في العالم مثل العراق وسوريا، وقد تم توجيه اللوم للأجهزة الأمنية في أوروبا واتهامها بالتقصير في متابعة هذه الملفات حين انطلق خطر العائدين من مناطق القتال إلى مجتمعاتهم وقد تحولوا إلى قنابل موقوتة يمكن ان تنفجر في أي لحظة، وهذا ما حصل في أحداث باريس الأخيرة. وتلعب أحزاب وحركات اليمين المتطرف في أوروبا والغرب على ورقة التخويف والإسلاموفوبيا لأغراض انتخابية، وهي كثيرا ما صبت زيت الكراهية على نار الأحداث لتصل الأمور إلى اعتداءات لا إنسانية على تجمعات اللاجئين والمهاجرين كما حصل في دول الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه تطالب بعض تيارات اليمين المعتدل من الجاليات المسلمة في الغرب إعلان براءتها من الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الإرهابيون باسم الدين الإسلامي، وهذا ما نقرأه على سبيل المثال في تغريدة امبراطور الصحافة الغربية روبرت مردوخ على حسابه في «تويتر» بعد أحداث «شارلي ايبدو» في فرنسا إذ كتب «إن المسلمين وإن كان معظمهم مسالمين، ما لم يعترفوا، ويدمروا سرطان التطرف، فإنهم مسؤولون عما يحدث». وردا على مثل هذه الطروحات، عادة ما تقوم المؤسسات الإسلامية الرسمية في أوروبا بالتصريح بموقفها الرافض للتصرفات الراديكالية التي يقوم بها قلة من الشباب المتطرف، ودائما ما يشير إلى ان هذه القلة لا تمثل الإسلام الحقيقي الذي يدين به ملايين المسلمين الأوروبيين سواء كانوا من اصول إسلامية أو أوروبيين اعتنقوا الإسلام لسبب أو آخر.
من اللافت للنظر ان علاقة الغرب بالمسلمين ما زال يكتنفها سلوك متبادل بين الطرفين تحكمه أنواع مختلفة من نظرية المؤامرة، ونظرية المؤامرة ظاهرة قديمة عرفتها مختلف الأمم، غير أنها في العقود الأخيرة أصبحت أكثر انتعاشا مع تداخل الأحداث وتعقد فهم مجريات الحياة البشرية. لكن نظريات المؤامرة التي تروج في العالم العربي والإسلامي بالرغم من تعددها فانها تحوم حول فكرة واحدة وهي أن (الغرب وأمريكا ـ الماسونيين ـ يهدفون دائما وأبدا إلى القضاء على الإسلام والمسلمين)، ونتيجة تبني قطاع واسع من الشعوب العربية لهذه الفكرة فإن الإنسان العربي يفسر وفقا لها كل الأحداث المتعلقة بالغرب، إلى درجة أن البعض يرى ان المنتجات التقنية والثقافية والفنية والإعلامية هي جزء من المؤامرة (لتدمير هوية المسلمين). في المقابل هنالك اشتغال إعلامي غربي حثيث على إنتاج وترسيخ صورة نمطية للمسلم بشكل عام وللعربي بشكل خاص، صورة تقدمه على انه إنسان همجي، مفرط في شهوانيته، بدائي السلوك، لا يمتلك سيطرة على غرائزه، وتحركه العواطف بشكل كبير، بالإضافة إلى امتلاكه الثروات الهائلة التي هبطت عليه من السماء دون سعي أو عمل أو حتى اجتهاد في الحصول عليها، وخصوصا الثروة النفطية المتدفقة في بلاد العرب، وبالتالي هذه الصورة النمطية التي تروج لها العديد من مؤسسات الإعلام الغربي تخلق رأيا عاما يتطابق مع طروحات الساسة اليمينيين في ان الغرب يجب ان يفرض سيطرته على المنطقة العربية والإسلامية لمحاولة تهذيب هؤلاء «الأوباش» وهو الوصف الذي نعتت به جريدة «ليبيرو» الايطالية ذات التوجه اليميني المسلمين بشكل عام بعد أحداث باريس الأخيرة.
ومن الاشكاليات التي تقف حائلا ضد تعايش وتأقلم مسلمي الغرب مع مجتمعاتهم الجديدة هي سياسة الغرب تجاه قضايا بلدانهم الأصلية، ويقف في مقدمة ذلك موضوع النزاع العربي الإسرائيلي، كما ان ما حدث في العراق منذ عام 2003 بعد الغزو الأمريكي والتحالف الغربي المساند له، جعل مسلمي أوروبا ينظرون بعين ملؤها الكراهية لسياسات بلدانهم الجديدة، وبالرغم من موقف بعض قوى الغرب المهمة الرافضة للعدوان الأمريكي مثل فرنسا وروسيا والمانيا، إلا ان ما حصل بعد ذلك من تطبيع لمواقف الغرب للحصول على جزء من الكعكة العراقية جعل كل دول الغرب توضع في خانة المعتدي في نظر الجاليات المسلمة في أوروبا. لكن هل حالة العداء أو على الأقل الرفض لسلوك الغرب تجاه قضايا العالم العربي والإسلامي غيرت من تعاطي شعوب الشرق الأوسط أو رغبتها في العيش في الغرب؟ والجواب هو بالتأكيد لا، ففي الوقت الذي لا تخفي فيه شعوب العالم العربي والإسلامي عداءها مع الغرب، تهاجر منها مئات الآلاف سنويا إلى أمريكا ودول أوروبا بعد أن ضاقت بهم بلدانهم من شدة القمع والفقر والجهل، كما أنها تتناول بنهم منتجات الثقافة الغربية المادية والمعنوية، مما ينبه إلى أن هذا العداء ليس على مستوى الممارسة، وقد تناول المفكر المغربي محمد عابد الجابري حالة الفصام التي تعيشها الشخصية العربية في سلسلة كتبه «نقد العقل العربي» ذاكرا أن مفهوم الزمن يغيب لديها فترتكس دائما نحو الماضي لتنتقي منه حقبا تاريخية دون أخرى وتتمنى العيش أو توهم نفسها بالعيش وفق أمجاد خلت وانتهت مما يشكل نوعا من الجرح النرجسي المتمثل دائما بـ «كنتم خير امة اخرجت للناس».
لقد حدثت عدة اعتداءات على مواطنين مسلمين في عدد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وبلجيكا والمانيا بعد أحداث باريس، ونال التهديد أو الشتائم الأشخاص الذين يدل مظهرهم الخارجي على انتمائهم الديني مثل المحجبات أو الملتحين، لكن حتى الآن تبدو هذه الحالات ردات فعل فردية ومتفرقة، وقد أقدم شاب فرنسي مسلم من أصول شرق أوسطية في ميدان الجمهورية في باريس قريبا من مسرح باتكلان الذي شهد مقتل العديد من الضحايا، حيث أصبح المكان مزارا لآلاف الفرنسيين الذين يوقدون الشموع ويضعون الزهور تأبينا للضحايا، بتغطية وجهه وتعليق يافطة على صدره كتب عليها أنا مسلم، أنا ضد الإرهاب، فإذا كنت مقتنعا بأني لست إرهابيا فاقترب وعانقني، وقد حصل على آلاف المعانقات من مختلف شرائح المجتمع الفرنسي في بادرة تشير إلى تماسك المجتمع بوجه الإرهاب، لكن يبقى التخوف من الآتي الذي جاء على لسان أحد مسلمي فرنسا في لقاء معه في احدى قنوات التلفزيون عندما قال «مسلمو أوروبا هم من سيدفعون ثمن هذه الهجمات. فالعزلة والعنصرية التي يعيشونها ستزداد مما يصعب من عملية اندماجهم في الغرب، ومن رحم تلك العزلة تتولد بؤر إنتاج التشدد عبر الأحياء الهامشية التي يسكنها غالبية المسلمين. الأخطاء التي ترتكبها الأقلية المتشددة تدفع ثمنها الأغلبية الصامتة».

صادق الطائي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بسم الله الرحمن الرحيم – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) آل عمران

    ميزة هذه الأمة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والايمان بالله
    فهل قتل الأبرياء من الناس معروف ؟

    وهل من المعروف مجازاة أدخلنا لبلاده أن نغدر بهم ؟
    أليس الغدر من المنكر ومن شيم اللئام ؟

    وهل من الايمان بالله مخالفة أوامره كهذا الأمر بهذه الآية الكريمة :
    لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة

    قال الشافعي: “إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم – الأم (4 / 263) .

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول ماهر الوكيل:

    فكرة هؤلاء الأشخاص بيافطاتهم و عناقهم أصبحت فجه و ممله و مكرره .و اصبحوا كالايتام علي موائد اللئام . كما اصبحوا اكتر إساءة للدين باشكالهم و يافطاتهم التي بشكل او باخر تربط الإسلام بالإرهاب .

  3. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    لا أحد يبرر الإرهاب ….غير أن مواجهة الإرهاب لا يجب أن ينتج عنها سقوط أبرياء عشرات مضاعفة عن المجرمين
    و لا يمكن القضاء على الإرهاب دون دراسة جذوره ، وإلاّ للأسف يصبح ….” قتل إمرئ في غابة جريمة لا تغتفر و قتل شعب آمن مسألة فيها نظر!”
    وعندما يسير أناس مثل جورج بوش و توني بلير أحرار في الشوارع بعد أن تسببوا بدفع مئات الألوف من الأبرياء الي حتفهم قبل أوانهم لا يستبعد أن يهيمن ذلك على عقول بعض الشباب الغر …….مع شديد الأسف هذا العالم يسير وفق مقولة باسكال ” عندما أدرك العالم إستحالة تبرير الحق ، فقد برر حق القوة .. و عندما إستحال تبرير العدالة فقد برر عدالة القوة”….. هناك الكثير ممن لا يقبل هذا المنطق، و لكن المؤلم أن من هؤلاء يخرج البعض القليل منحرفاً، نحو الأجرام أو الأسوأ ، نحو الأرهاب

إشترك في قائمتنا البريدية