هل ثمة متسع من الوقت، كي تجدد الذات بحثها عن أسئلتها الخاصة بمصائرها، بعيدا عن السلطة الرمزية والفعلية، التي تمارسها علينا خطاباتُ المراكز الكونية الكبرى، رفقة ما يتخللها، ويتقاطع معها من هوامش ظلامية؟
إنه الأفق الذي يتعذر استشرافه، خارج إمكانية تحقيق الحد الأدنى من الاستقلالية الحضارية والاقتصادية عن سلطة هذه المراكز، وهذه الهوامش على حد سواء. لكن على أي أرضية نظرية، وثقافية يمكن تحقيق هذه الاستحالة، وبأي وتيرة؟ من المؤكد أن استقامة السؤال الكفيلة بتبلوره في رؤية قابلة للتفعيل، تظل بدورها وقفا على حدود ضبط عقلانية هذا الطرح الذي سيظل مسيجا بأوهامه، في قلب لحظة تاريخية ملتبسة، ليس من السهل على الذات تحقيق حضورها الفعلي داخلها، حيث يتحول الاختلاف إلى عامل تدميري، يطارد بعنفه كل من يلح على امتلاك رؤية خاصة به، في تصريف مفهوم المشترك الذي لا يمكن بحال، أن يحيل إلى تنازل مجاني عن قناعاته، أو عن انصهار لا مشروط في إطاره الذي يمارس هنا وظيفته الأساسية، المتمثلة في اختباره المسبق، لمدى اندماج القناعات الفردية في أفقه، وحدود قدرتها على مراجعة ذاتها، في حالة انتباهها إلى حضور فراغات، وبياضاتِ ما، في تضاعيفها.
إن المشترك هنا، ربما يكون الوسيط المثالي، لاكتشاف القناعات المؤهلة لأن تكون النماذج العليا المقتدى بها، من حيث قابليتها للاستجابة إلى تعاليمه، وليس من حيث مصداقية انبثاق اختياراتها، من قلب ما تطرحه إشكالاتها الثقافية والحضارية من أسئلة.
إن المشترك هنا، يختلف باختلاف الشرائح الموجودة فيه، حيث ثمة مشترك الخلق والإبداع، مشترك العقل، ومشترك القتل، إلى جانب حضور مشترك التدليس والابتزاز. وبصرف النظر عن نوعية وخصوصية تفريعات المشترك، فإنه سيكون بالضرورة وتبعا لذلك، مجردا من كل العوامل التي يمكن أن تساهم في الارتقاء به إلى مقام الاندماج والانسجام المتكاملين، كي يظل بالتالي، موجها بقوانين تناقضاته وتجاذباته. إذ لا وزن لمشترك سكوني، مشروط بسلطة متعالية، تخضعه لإرادتها. ولا مكان لمشترك، تحاول الأطراف المتصارعة فيه، إيهامك بحضور تناقضات وتضادات ذات أفق إبداعي وخلاق، في ما هي مجرد زوابع مفتعلة، تخفي وتضمر خطابا جاهزا ومسكوكا ومتعاليا، مزروعا في تفاصليها. بمعنى استحالة القول بحضور مشترك بريء، متحرر من إكراهات قيم الهيمنة والاحتواء، لأنه سيظل – شئنا أم أبينا- مشتركا مجتمعيا وحضاريا، تتعارض فيه الانتماءات، والقناعات والمصالح. ومهما حاولت الذات، ومعها الآخر، أن يكونا موضوعيين ومنسجمين، مع قيم المشترك، فإنهما لن يفلحا في تحقيق تجاوزِ متفاعل مع تناقضات انتماءاتهما، واختياراتهما، ومؤهل لأن يتيح لهما فرصة انصهارهما المطلوب في بوتقة الضرورة.
إن مكونات المشترك، تظل عاجزة عن الاحتفاظ بثوابتها، كما أن مسارات تحولها من مشترك لآخر، تضعنا أمام تعدداته المختلفة، بدءا من تلك المندرجة في سياق الاختصاصات التقنية الدقيقة، انتهاء بتلك المنفتحة على الخطابات الفكرية والمتداولة، التي يتشكل بها ومنها الرأي العام. لذلك ليس للكائن أن يتمترس وراء أوهام المثالية والحلم، فيتوقع من المشترك مدَّهُ بالحلول الجذرية أو الناجعة لأسئلة المعيش، والمفكر فيه، أو أن يستمر في اعتباره البديل المحتمل لكل نزوعات فردية تغريبية، أو الملاذ الأخير، الذي لا غنى لأي ذات مصابة بداء العزلة، عن ترياقه وبلسمه. إذ على الرغم من الأهمية التي يحظى بها المشترك، ضمن تلك الحدود الأولية التي تسعف الكائن في التخلص النسبي من مأزق الفردية المغلقة، ومأزق الآخر المختلف، فإنه سيظل دائما مدعوا للانسحاب، كلما كان مقبلا على التحول إلى أداة قهر، وكبح عشوائي، لِما يمكن أن تبثه الذات من إشارات ورسائل. ذلك أن التمثل الدائم لدلالات المشترك، ولأبعاده الرمزية، وخاصة في السياق الإلزامي لشرط ظرفيته، ينبغي أن يكون محكوما بتلك المسافة التي تحتفظ معها الذات بحريتها، في منأى عن أي توريط أو إلزام محتمل، بفضل تلك الأصبع الصغيرة، القادرة ضمن المسافة الممتدة بينها وبين شاشته، على محو المشهد تماما من حقل الرؤية والإنصات، من دون أن تأخذ بالضرورة شكل رد فعل، مسكون بفوبيا الآخر، بصفته نِدّاً مفسدا لإيقاع الذات.
طبعا، لا أحد يجادل في شأن مشروعية تلك التعاقدات المسبقة، الإرادية واللاإرادية، التي تحكم علاقتنا بمشترك الآخر، حيث سيكون من الصعب تجاهلها، وتجاوزها، لأننا حالما نشرع في التقدم باتجاهه نكون بصدد بناء تصور معين عنه، تمهيدا لمنازلته أو محاورته ثقافيا، أو عقديا. إنه ليس بالمجهول تماما، وليس بالمعلوم تماما، كما أننا، وفي كل خطوة نخطوها حيث يوجد، نعيد صياغة وجهة نظرنا، حول محتمل هويته وكينونته، وردود أفعاله تجاهنا نحن أيضا. بمعنى أننا نعيد رسم صورته، وفق ما سبق أن أطرناه به من سلوكات وقناعات. هذه المعرفة المسبقة والقبلية، تتكامل بشكل لاإرادي، لأنها نتاج الحالات التي تقوم بتنشيطها مجموع تلك الأسئلة الكبرى، التي ما يفتأ العقل والإدراك والحواس أيضا، تطرحها تجاه هذا المشترك الذي يشهره الآخر في وجهي. إننا كلما تقدمنا باتجاهه، رفعنا من وتيرة التوصيف. هذا الرفع، أو هذا التسريع قد يؤدي إلى أحد احتمالين متناقضين، هما احتمال التواصل والتصالح، أو احتمال القطيعة والتصادم. فتسريع مبدأ الإقبال، هو ما يتحكم بشكل أو بآخر في مجرى الحوار، وفي تحديد وجهة الأهداف والغايات. إن المقلق في كل تَعرُّفِ قبلي ومسبق، هو الإنتاج الآلي لصورة جد مضببة، ومشوهة عن الآخر، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى فشل وبطلان ما كان مرجوا من هذا الإقبال. أن تصبح صديقا للذئب، أو أن تكون في حضرة الحمامة، حيث من المحتمل جدا، أن تأخذ أنت أيضا شكل ثعلب بشري.
إن هذا الإشكال الشائك، هو الذي يستقطب حاليا اهتمام المراكز العالمية الكبرى، من منطلق إضماره لحالة مزمنة من حالات تواصل مشوب بذلك التوجس الحذر، وباستعداد شبه همجي، لإنزال الأذى على مجموع مكونات الآخر، بذريعة حماية مشترك، هو في عرف هذه المراكز عرضة دائمة للتهديد. إنه التواصل المعزز بروح الهيمنة التي تُسيِّج من خلالها ثغراتك، عيوبك وأخطاءك الزاحفة عليها من ظلمات سلالاتك، وبكل ما يمنح للمراكز ذاتها تبريرا حقيقيا وموضوعيا للإجهاز عليك. إنه التواصل الإقصائي المشبع بروح سوء الظن، وبتاريخية قناعة مطلقة، على اعتبارك المصدر الفعلي والحقيقي لكل ما يمكن أن يصاب به الحضارة الكونية من مخاطر ورجَّات. وهو ما يؤكد استحالة استشراف أي أفق مشترك، في واقع يعوزه الحد الأدنى من العقلانية العاقلة والموضوعية، والمنزهة عن بؤس مرجعياتها العمياء، علما بأن الأمر لا ينحصر في معجم أو في لغة هذا التواصل، بالمعنى الرمزي للكلمة، بقدر ما يتعلق بتقليب عناصر هذا المعجم، وهذه اللغة على كافة ما تزخر به من محمولات ومن أوجه دلالية وتعبيرية، بحثا عن أسرار هذا المعجم، التي قد تكون واعدة بثرائها وبسخائها المعلقين دائما في سماء الاستحالة.
ذلك هو ما يجعل الطريق منفتحة أبدا على تشارك بنكهة التدجين، حيث سيكون على الهامش المتبرئ من ظلامياته، ودونما كلل، أن يغض الطرف عن تلك الانحرافات الحضارية التي يمكن أن تصدر عن الآخر، بصرف النظر عن تعدد تداعياتها المدمرة والإقصائية، حيث يتضح وبالملموس، البعد الملتبس والفضفاض لملفوظ التشارك، بكل مشتقاته الدلالية واللغوية، كما أن حدود تقبل ظاهرة الانحراف الجزئي والموضوعي لمسار التشارك، تكون رهينة باستبعاد تحولها إلى قانون، وإلى واقع حال، وكذلك إلى ممارسة مضادة لكل توجه ثقافي أو حضاري، علما بأنها تجنح خارجه إلى إعادة بناء القيم، ضمن منطق تبريري وتحريفي، يسمح لها بالتحول إلى رافد أساسي لحرية غامضة ومتوحشة، لا تتورع في تكريس ممارساتها المتعالية ذات البعد الهيمني والإقصائي، الذي يحدث أن يكون سببا في هدم كيانات، وتقزيم ثقافات وحضارات، وأيضا في إبادة شعوب، واجتثاث جذور.
في هذا الإطار تحديدا، تتم مفهمة التشارك من قبل التوظيف المبيت، ضمن معادلة مشبوهة، محكومة بسلطة الإرادات العليا، قوامها امتثال المغلوب لمنهجية الغالب، حيث يتحول بموجبها الشعار، إلى قناع يخفي رعب احتمال خروج الآخر عن السيطرة، كما يخفي رهاب تعَذُّرِ إخضاعه أو مواجهته وتحجيمه، من دون أن يلغي هذا الواقع لعبة التظاهر المؤقت، بإمكانية تبادل الإحساس بالأمان، على أساس هدنة اضطرارية، قد يتحقق بموجبها انتزاع بعض المكتسبات، من قبل هذا الطرف أو ذاك، بدافع من إكراهات نفعية، لا أثر فيها لسؤال الاطمئنان إلى أي اعتراف وشيك، أو محتمل.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني