«مشروع ليلى»: ثارات الجيل المعلنة

حجم الخط
0

بيروت – محمد شبارو: من الصعب وصف حفل مشروع ليلى الأخير في إطار مهرجانات جبيل الدولية. بعيداً عن الفن المقدم، والرأي فيه، الأكيد أن ثمة حالة فنية – سياسية – إجتماعية باتت ناضحة. تتماهى إلى حد الكل، مع نبض جيل كامل وتطلعاتهم وآمالهم وحرياتهم، التي ثاروا في العام 2011 من أجل تحصيل ما أمكن منها.
في جبيل كان المشهد مختلفاً عن السائد. مساحة الحرية لم تكن فيما يقدمه حامد سنو ورفاقه فقط. الحاضرون سبقوا الفرقة. بدا ما يقدم جزءاً من مشهد «لبناني – عربي» حاضر، يعبر عنه بالكلمة والموسيقى. يحاول الخروج إلى الضوء وكسر «جدار برلين». كل ما في جبيل في تلك الليلة كان يغرد خارج المعتاد لبنانياً وعربياً. الأغنية العاطفية تتحدث بعلن عن الجنس والخمر، وليس عن الحب الأفلاطوني المقدم منذ عقود في العالم العربي، والأغنية السياسية تتحدث بوضوح عن الوطن بوصفه أولاً مساحة حرية ومدنية، وليس رموزا، أو غزلا بصدام حسن وجمال عبدالناصر وحافظ الأسد.
على بعد امتار شمال جبيل كانت ماجدة الرومي حاضرة في مهرجانات الأرز في اليوم ذاته. يمكن بسهولة تصور ما قدمته من فن لا يخرج عن اطار الـ»كليشيهات» التي فرضتها الأنظمة العربية على مدار العقود الماضية. حتى اسلوبها في الحديث السياسي خلال كل مهرجان يمكن توقعه. لا شك أنها تحدثت عن الجمهورية، وعن رأسها الغائب، ولا شك أنها روجت بما يكفي لـ»السيستم» اللبناني، بكل تناقضاته بوصفه والدها الروحي.
في جبيل غنت الفرقة سياسياً، لكنها كسرت تلك الصنمية التي تعبر عنها ماجدة الرومي وصحبها (أبناء الأنظمة العربية) فنياً. السياسة هنا تعني الناس وحرياتهم ومستقبلهم ورفضهم للطائفية وللعنف والذكورية ولرهاب المثلية، وغيرها من القيم المدنية – الإجتماعية. كان حامد في هذه الليلة كعادته حراً جسدياً. يطير. يتماهى بصخب وجنون مع الموسيقى. وكأنه يرقص وحيداً ولنفسه. لا تصنع هنا، ولا صنمية، ولا محرمات. لكن الجمهور سبق حامد أيضاً. أختارت الغالبية الوقوف بدلاً من الجلوس على المقاعد الزرقاء التي عادت ما تحتل الصدارة في المهرجانات التقليدية. حتى من قرر الجلوس في الخلف ترك مقاعده لاحقاً لصالح الذات والتماهي معها.
استغلت الأنظمة العربية الفن على مدار العقود المنصرمة. قدمت ما يخدمها، وما يبقيها على قيد الحياة، وبعيداً عن تهديد المجتمع لها. سخفت الحب، وحقرت الجنس، وكفرت الجسد، وشيطنت كل ما هو جديد، وكل ما يتحدث عن الحريات، رابطة اياها دوماً بالجنس، وكأن الحريات تتجزأ. ومن قال أن الجنس حرام؟ هنا كسرت ليلى وجمهورها المحرمات. بدءاً من الجنس. نعم الجنس. بوصفه هاجساً أبدياً في العالم العربي. ولاحقاً مرت على الجسد رقصاً وجنساً وخمراً. وبدا ان اختزال الحريات وسقفها جنسياً وحده حراماً، خصوصاً أن الحرية الجسدية والجنسية لا تتحقق إلا في دول ديمقراطية ومجتمعات مدنية، تحترم الفرد، وخصوصيته وفرديته، ولا يشيطن كل ما هو مختلف.
بدا المشهد ممتداً. من بين الحاضرين خليط سياسي واضح، بعض ليبرالي، وبعض يساري، وثلة من المراهقين. هي الوجوه ذاتها التي إختارت «بيروت مدينتي» خياراً بديلاً في الإنتخابات البلدية الأخيرة، وقبل ذلك اختارت مشروع ليلى خياراً موسيقياً بديلا، ومنذ اشهر حاولت أن تقدم ثورة بديلة اثر ازمة النفايات وان فشلت. هذا المشهد الممتد لا يمكن فصله عن بعضه بعضاً. ثمة حالة في المجتمع اللبناني بدأت تنضج فنياً، وسياسياً، وإجتماعياً، وثقافياً، حالة تمتد إلى «كفى» ضد العنف الممارس ضد النساء، وإلى «جنسيتي حق لي ولطفلي» لمساواة المرأة اللبنانية بالرجل على صعيد منح الجنسية للأطفال، وإلى الحملات الداعية إلى كشف مصير المفقودين خلال الحرب الأهلية اللبنانية أو في السجون السورية، وإلى الحملات البيئية التي تكافح من أجل احترام أكبر للبيئة، وإلى حملات حماية التراث، ومنع هدم الأبينة التراثية، وغيرها من عشرات الحملات التي بدأت في السنوات العشر الأخيرة بإحتلال المشهد العام لبنانياً.
بدت مشروع ليلى جزءاً من هذه الثورة الكامنة. تحاول تحصيل ما أمكن. وأبعد. بدت جزءاً من نبض شباب عربي. في تونس التي نجحت وتجاوزت الإمتحان. وفي مصر التي فشلت ثورتها وسرقها ديمقراطياً التيار الإسلامي قبل أن يعود العسكر إلى المشهد مجدداً. وجزءاً من فئة شبابية عربية تبحث لذاتها عن بقعة ضوء، بين العسكر والدين، بين «تنظيم الدولة» أو الأسد، بين «الإخوان» أو السيسي، بين إيران أو السعودية!. وبين العسكر والدين تتنقل مشروع ليلى في تعبيرها عن الرفض. هنا اهانة لرموز القمع والإستبداد الديني والأمني، وهي المحرمات الأساسية التي تكسرها الفرقة وجمهورها، وهو ايضاً ما تخشاه الأنظمة، بما أن الإستبداد الأمني – السياسي كان ينطلق دوماً من استبداد مجتمعي يقتات على فتات الدين والعادات والتقاليد.
وللمناسبة كان باسم يوسف يتحدث قبل اسبوع في مهرجان بيت الدين عن اساليب غسل الدماغ إعلامياً وفنياً لتنظيم العقل وضبطه وتأطيره. وللمناسبة كان باسم سباقاً في استضافة مشروع ليلى في مصر في برنامجه الشهير «البرنامج»، على الرغم من الحملة الموجهة التي شنت ضده «اعلامياً» على خلفية ميول أحد أعضاء الفرقة جنسياً، وهو ما رد عليه لاحقاً برفض الحكم عن الناس وفق ميولهم الجنسية.
يمكن اختصار الواقع العربي في الحملة التي شنت ضد مشروع ليلى وباسم يوسف في ذلك الوقت، بوصفها محاولة لحرق الإثنين وخطرها سياسياً وإجتماعياً على «السيستم». السيناريو ذاته تكرر في الأردن، التي منعت الفرقة من دخول البلاد، قبل أشهر، بحجة الترويج لـ»عبدة الشياطين». «عبد الشياطين»؟! كلمات كافية لبث الذعر في المجتمع، وتالياً الإبتعاد عن الفرقة، لكن في العام 2016 يبدو ذلك مستحيلاً. محاولات الشيطنة عبر الدعاية السياسية تبدو مضحكة لجيل يجوب العالم عبر الـ»كيبورد».
على مدار السنوات ما قبل العام 2005 كان النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك، يستعمل هذا الإتهام: «عبدة الشياطين» للقمع والإضهاد. يكفي هذا المثال لإختزال المشهد. ويكفي مشهد جبيل لإختزال «المشروعية» التي يمنحها جيل كامل لما تقدمه مشروع ليلى وما يعتقدون أنه حق لهم.
وحده الرفض فنياً للفرقة يبدو مبرراً. ثمة من يرفض من منطلقات تتعلق بالموسيقى، وبما يرونه غير مفهوم موسيقياً ولغوياً، ويتحمل سنو جزءاً من هذه المسؤولية، بوصفه فشل بعد 8 اعوام، في تحسين مخارج لفظه للحروف، لكن الإستبداد المجتمعي الذي عادة ما يبرر الإستبداد الأمني – السياسي لا يحق له النقد، بوصفه جزءاً من «السيستم»، وجزءاً من الصراع.
في جبيل ثمة من قال بوضوح: «لكم رموزكم الفنية ولنا مشروع ليلى».

«مشروع ليلى»: ثارات الجيل المعلنة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية