يعد البروفيسور مشير باسيل عون – أستاذ تاريخ الفلسفة الألمانية والهرمينوطيقا في الجامعة اللبنانية – من الأسماء البارزة في المشهد الثقافي العربي. تعنى كتاباته بتأصيل التعددية الكونية تأصيلاً فلسفيا، وبالبحث عن مراتب المعنى في أفق المسعى الاستفساري الإنساني الأرحب.
كتبه تناهز الثلاثين باللغتين العربية والفرنسية، تناول فيها، إبان الحقبة الأولى من مسيرته الفكرية، مسائلَ الفكر الديني، ولاسيما في شقيه المسيحي والإسلامي. ثم، ابتعد عن هذه القضايا ابتعادَ التحول الجذري في التناول لا ابتعادَ التحول عن الموضوع نفسه، وأخذ يخوض في مسائل الفِسارة الفلسفية (الهِرمِنوطيقا) ومسائل التأصيل الفلسفي المحض للتعددية الكونية.
وفي كتابه النقدي: «أهؤلاء هم اللبنانيون؟ عوارض الاضطراب البنيوي في الذات اللبنانية» الصادر حديثا عن دار سائر المشرق 2016، يجتهد مشير عون في تناول عوارض الإعضال البنيوي في الأحوال اللبنانية، ويترصد عمق الخلل الذي يعتريها، فيسمي الاسماء بمسمياتها المزعجة، ويفصح عن الاختلالات دون أن يسلك مسالك التجريح والتعنيف، نتيجة إيمانه القوي بأن الخطر الأعظم الذي يتهدد المجتمع اللبناني بأسره وينذر بآفات الهدم والتقسيم والتفكك، هو تعطل الإرادة اللبنانية الجامعة في الإصلاح الحقيقي.
ويقارب مشير عون قضايا كتابه المتشعبة ( الطائفية/ الفكر/الوجدان/الدين/ السياسة/ الاجتماع/ العلمنة)، وفق منهج واقعي نقدي، يتخذ من أسلوب الملاحظة سبيلا لرصد مسببات العطالة في الذات اللبنانية، إنها واقعية نقدية «تعاين أسباب الإعضال في صميم قوامه الذاتي، لا في انتسابه إلى كتلة مرصوصة من التصورات الأيديولوجية، أو المسلمات التاريخية، أو البديهيات المتواترة. فإذا انتقد الكتاب الطائفية على سبيل المثال فلأن هذه التركيبة أفسدت المسلك اللبناني الفردي والجماعي إفسادا عظيما. أما القول بفوائد التنوع الطائفي، فلا يؤيده الفكر النقدي إلا إذا عاين إيجابياته الشاملة. والحال أن هذه الطائفية، من بعد أن ضمنت للجماعات اللبنانية شيئا من الديمومة التاريخية وقسطا من الاشتراك في السلطة، عادت فأسقطت الاجتماع اللبناني في آفات التصارع والاقتتال. وليس ينفع القول بفرضية التشويه اللبناني لمبدأ الطائفية. فاللبنانيون ليسوا ملائكة الله على الأرض. هم بشر موسومون بانعطاب الجلبة البشرية، لذلك لا يجوز أن يمتحنوا بنظام طائفي فيه ما فيه من عناصر التشنج، وقابليات الفساد وانعدام المحاسبة الفردية، ومخاطر تشويه العلاقات بين الأفراد المنتمين إلى طوائف مختلفة، ومظالم التمييز بين لبناني من الصف الطائفي الأول، ولبناني من الصف الطائفي الثاني، ولبناني من الصف الطائفي الثالث. فلا يعقل أن يطلب من اللبنانيين أن يتعقلوا ويتسالموا، فيما نظامهم الطائفي مبتلى بهذا القدر من قابليات المواجهة والمعانفة».
ويجب ألا يفهم من ذلك أن مشير عون من دعاة تجريم الطائفية ونعتها بأبشع الأوصاف، بيد أنه لا يرى فيها منبعا وأصلا لما يسميه بـ»الإعضال اللبناني»، وإنما هو راجع إلى طبيعة الاجتماع السامي المشرقي العربي الذي منه ينحدر الاجتماع اللبناني في وجوه كثيرة. ويضرب لنا في ذلك مثالا للطائفية المستنيرة في سويسرا وبلجيكا وكندا – رغم اختلاف السياقات والقرائن – حيث «تهب المجتمعات الإنسانية القدرة على إثراء الوعي الفردي بتراثات الجماعات وتصوراتها المتنوعة». على النقيض من الطائفية في المشرق العربي، الخاضعة «لتوترات الوعي الديني المذهبي، ولتشنجات الفكر الأحادي الاستئثاري، ولانعطابات المجتمعات العربية البنيوية. هي الطائفية المبتلية بأسقام الوعي العربي تتهدد الأفراد والجماعات، وتقذف بالجميع في لجة الفساد والانحطاط».
وعن علاقة اللبنانيين بالفكر يرى مشير عون، أنه رغم تعلقهم وافتخارهم بما أبدعه بعض نجبائهم من المفكرين، إلا انهم سرعان ما يتنصلون منهم ويكشرون لهم عن أنيابهم، خصوصا حين يقف هؤلاء المفكرون موقف الرفض من تملص اللبنانيين من أكلاف المسؤولية الفردية، وواجبات الإنسان الكريم الأخلاق والمواطن والمواطن الصالح. بيد أن «اللبنانيين لا يكترثون بسلامة العمارة الفكرية التي يستندون إليها في تدبير وجودهم الإنساني، في جميع تجلياته. فهم لا يواظبون على القراءة الفكرية الراقية، ولا يتذوقون المجالس الفكرية الرفيعة، ولا يستبصرون بآراء أهل الاستنارة الفكرية، بل تراهم يتعجلون كل شيء حتى يظفروا بمبتغاهم من كل شيء. فإذا بهم في انفصام كياني خطير يجعلون ما انعقدت عليه البناءات الفكرية التي ينتظم بها وجودهم التاريخي، فيعبثون بالأصول والمبادئ والقيم الهادية، ويخلطون المواضيع بعضها ببعض، ويضعون المقدمات في مقام النتائج والنتائج في مقام المقدمات. ومما يستثير الغضب أنهم يخضعون خضوعا أعمى لفتاوى بعض أهل الدين وأهل التنجيم والعرافة، ويستخفون بآراء أهل الاختصاص الفكري اللامعين. وإذا ما اجتمع سياسي وفيلسوف في مجلس واحد، أصغى الناس إلى آراء السياسي المبتسرة في الكون والإنسان والاجتماع والسياسة، وأعرضوا عن آراء الفيلسوف الصائبة. ودليلهم في ذلك أن سلطة السياسي وحنكة دهائه في ميدان التزاحم السياسي تخولانه البت في مسائل الوجود كلها».
أما الهوية فهي معطى غير ثابت لدى اللبنانيين، بيد أنها تتغير بتغير الوضعيات، فالفرد لا يتحدد إلا بالنسبة لوضعية معينة، أو فئة معينة. وبما أن الوضعيات تتغير باستمرار، فإن الهوية تتغير بدورها، حيث يمكن للشخص أن يكون عدوا أو صديقا حسب الظروف. «ومعنى ذلك أن اللبنانيين يتلونون في هويتهم بتلون الأوضاع التي تكتنفهم. ولكل مقام قول في الهوية. ولكثرة الأقوال في الهوية، انقلب الوعي اللبناني وعيا متوعكا مضطربا مترجرجا. فاللبناني في الصباح ابن عشيرته، وفي الظهيرة نصير مذهبه، وفي العصر مؤيد حزبه، وفي المساء رفيق منتداه، وفي غشاوة الليل خليل مؤتلفه. ولا تتحول هذه الولاءات كلها، على تباين مقاديرها، إلى المنصهر اللبناني إلا في حالات الاستثناء التي توطد قاعدة الهوية الانتثارية».
وفي حديثه عن المسألة الدينية لدى اللبنانيين، يرى مشير عون أن المجتمع اللبناني لم يتمكن بعد من استثمار معاييره الثقافية وقيمه المجتمعية من أجل صياغة تعابير جديدة للإيمان وصيغ متطورة للتدين ومسالك جريئة للممارسة، نتيجة تقهقر الفكر الديني في المجتمع اللبناني، فاللبنانيون يرعبهم «التساؤل الجدي الرصين في قضايا الإيمان ويقلقهم التغيير في موروثات الطقوس وأعراف المعاملات. ومن ثم، يظل تدينهم أشبه بحالة من التشنج في الوعي والالتباس في الهوية والاضطراب في الإقبال على تحديات الحياة المستجدة. ومن بعد أن كانت الذهنية اللبنانية تقليدية في تدينها على كثير من الطيبة والهناءة، أضحت في الزمن الحاضر تقليدية في تدينها على كثير من التشنج والعدوانية».
وبخصوص السياسات فهي تكبل الوجود اللبناني على كافة الأصعدة، فهي طريق ملكي نحو السلطة ومراكمة الجاه والغنى «فاللبناني يهوى السلطة في المخدع وفي الأسرة وفي المهنة وفي المعبد وفي المعهد وفي الملعب وفي المقهى. وندر عندي أن ألتقي لبنانيا لا تراوده أوهام لاواعــــية في التسلط. وقد بلغ الأمر باللبناني إلى تشويه مراتب المعنى في الوجود. فأصبح نضاله في هذه المعتركات لا تبرره إلا غاية واحدة، عنيت بها السلطة. ولذلك تراه يمارس السياسة حتى في أشد الحقول مناقضة للسياسة، كالفكر والدين والفن. فاللبناني الناجح في الاقتصاد محروم حتى يلج عرين السياسة».
ولعل المخرج الأعظم من هذا المرض الذي تتخبط فيه الذات اللبنانية، هو تفويض مستبد مستنير يوجه اللبنانيين نحو القطع مع مآتم ماضيهم القريب، ومن ثمة تهييئ شروط انبعاثهم الحضاري بالقذف بهم في أفق وعي متجدد، على ألا تطول هذه المرحلة الاستبدادية وتترسخ في الوعي الفردي والجماعي. وذلك لن يتم دون «أن يميز اللبنانيون تمييزا صريحا فاعلا حقل الديانات من حقل السياسات. والحال أن كثيرا من اللبنانيين يدركون معنى ارتباط الدين بالسياسة وارتباط الدين بالثقافة إدراك الشيوع والإبهام والغفلة. ولذلك ينبغي الاجتهاد في بناء تصور فكري سليم يوضح طبيعة العلاقة الناشطة في الاجتماع الإنساني بين ظاهرة الدين وظاهرة السياسة. والثقافة اللبنانية تكره على وجه العموم الخوض في مثل هذا التحليل لحرصها الشديد على صدارة الشأن الديني ولتخوفها المتفاقم من فساد السياسات اللبنانية. وما بناء مثل هذا التصور سوى سد لحاجة فكرية كان لا مناص من سدادها.
إننا أمام كتاب نشأ من التحسر على كثرة الاضطرابات التي تعصف بالذات اللبنانية وفي بنيتها الاجتماعية، همه الأعظم تناول الواقع اللبناني تناولا نقديا من أجل استخراج أسباب الإعضال الديمقراطي الذي يوشك أن يقضي عليه.
٭ كاتب من المغرب
المهدي مستقيم