تنهض رواية «مصائر» لربعي المدهون ـ الحاصلة على جائزة البوكر العربية ـ على ذلك الإحساس الملازم للفلسطيني بالاقتلاع، كما يتجلى سردياً عبر مُتخيّل يتأسس على مواقف وحوارات تحتمل قدراً من الاغتراب الداخلي والخارجي، على حد سواء، وهذا يشمل مفردات كولونيالية، كالتمثيل العرقي، والتمييز العنصري، والتضاد، والذاكرة، علاوة على الوعي بالاقتلاع والتهجير الذي يطال كل فلسطيني أينما كان:
«لملمت فاطمة ما همست به من بين شفتيها واستهجنته «إيش حبيبي؟ إمك ماتت في لندن ؟ إحمدي ربك واشكريه، تعي شوفينا هون، غربا في بلادنا ولاجئين، ما في فرق بين الميتين منا واللي عايشين».
تنفتح الرواية على «إيفانا أردكيان» التي رحلت عن فلسطين مع حبيبها البريطاني المستعمر سنة 1948، ولهذا دلالة مهمة، تتمثل بتزامن هذا الارتحال مع النكبة الفلسطينية، وكأن ثمة في هذا التاريخ إحالة لمعنى الاقتلاع، حتى إن اختلف السبب، إن خروج إيفانا مع الضابط البريطاني يعني أن ثمة نسقاً من الغفران «التسامح»، كما أتت عليه دراسات الخطاب ما بعد الكولونيالي، حيث لم يعد الطبيب ذلك المستعمر البريطاني الكريه. ولكن هذا مرتهن بأفق تلقي الخطاب السردي الذي يتناول هذه الثيمة في باقي أجزاء الرواية، ولكن من منظور آخر كما سوف نختبر في متن هذه المقاربة.
في رواية «مصائر» نقرأ سرداً افتتاحياً يتمحور حول حياة والدة جولي «إيفانا» في فلسطين، لنعاين ضمن هذا الفصل من الرواية نموذجاً نوستالجياً يتضمن قيماً جمالية ترتبط بالتكوين الفلسطيني ووجوده على أرض فلسطين، بالتوازي مع الأحداث التي أدت إلى خروج إيفانا واستحالة عودتها مرة أخرى إلا في زجاجة تحمل رمادها كي ينثر على أرض فلسطين، ولكن عبر نموذج رمزي، فقد أوصت من خلال محاميها أن ينثر جزء من رماد جثتها في بريطانيا، وتحديداً في نهر التايمز، في حين يُنثر الجزء الثاني في فلسطين، وهذا يحيل إلى معنى التبعثر والتجزؤ لحيوات الفلسطيني (قبل الموت وبعده)، فالحنين كامن حتى ما بعد الموت لمعانقة الوطن، واستعادة البيت، ولو عبر الاختبار، والمشاهدة من قبل جولي الابنة التي وقعت على حكاية الوطن، والمنفى، والذّاكرة من والدتها لتصنع فلسطينها المتخيلة، غير أن جولي أتت كي تستكمل صورة الوطن، ولكن بشيء من التفاصيل، غير أن البيت الذي تعود جولي لمعاينته أصبح سكانه من اليهود.
«أخذتني سمية من يدي، ومضت بي نحو سلم حديد يتوسط البيت وأشارت إلى أن أصعد، قائلة، «ما دامت والدتك حدثتك عن التفاصيل، إصعدي إلى أعلى استديري يسارا، وعليك بعدها أن تتابعي التفاصيل التي تعرفينها».
لاشك في أن عودة جولي لنثر رماد أمها، قد أقام نسقاً لمقاومة الاقتلاع، ولو بشكل معنوي، غير أنه يتصل بالامتداد والانتشار والشتات، فهو رماد منثور ينتشر في كافة بقاع أرض فلسطين، ولكنْ ثمة جزء آخر بقي هناك في بريطانيا، وعلى الرغم من أن هذا الرماد المنثور يبدو نسقاً قابلاً لقراءة الاختلال على مستوى التطبيق الأيديولوجي، فوالدة جولي خرجت من وطنها نتيجة تجربة ذاتيّة تتمثل في عشق الضابط الإنكليزي، وهذا ربما أضعف المستوى الدلالي في الرواية، وتوجهاتها الخطابية للوهلة الأولى، ولكنه من جهة أخرى يبدو حيلة سردية موفقّة، كونه يحيل إلى أفق الإنساني والتّسامي فوق التاريخ، ونكران مفهوم الهوية النقيّة، وهذا ما يعد نموذجاً خطابياً جديداً في الرواية الفلسطينية، فالعودة الرمزية لإيفانا هي عودة إلى الجذور بهدف رتق هويتها، أو هوية ابنتها التي نتجت عبر مكونين: النموذج الحياتي في إنكلترا التي احتوتها، وفلسطين وطنها الأم.
تحتفي الرواية بالنسق الرمادي للهوية العالقة بين كونين يتنازعان الفلسطيني، ونموذجه شخصية جولي التي انبثقت من أم فلسطينية، وأب بريطاني، ولهذا يتبدى الإحساس بين تكوينين، أو الوقوع في بينية واضحة لا مجال لتجاوزها، كونها أصبحت ترتبط بالبعد الجيني والثقافي، ولكن ثمة دوما رغبة في للبحث عن نصف جولي الآخر، فحين تقترب من باب بيت والدتها في عكا ينبثق لون الباب الأزرق الشاحب، ولكنه يبدو كسماء حائرة بين الشتاء والصيف، ثمة هوية عالقة، وعالم رمادي، جولي نصف عكاوي ونصف إنكليزي، كما يشرح وليد في متن الرواية، وهذا إحالة إلى اختلاط التكوين الفلسطيني لذوات عانقت ذوات أخرى، فتأسست ذوات هجينة كما نقرأ في توصيف واضح الدلالة لهذا الانتشار المختلط الذي نتج بفعل الاقتلاع الفلسطيني، فجولي أرمنية مسيحية فلسطينية بريطانية، وزوجة لرجل مسلم، هُجنة هوياتية وثقافية متعالية على كافة الحدود. يشكل الوطن في فضاء المتخيل نموذجاً حيوياً لمعنى الحنين، أو النكران السلبي، غير أن المعاينة تبقى خاضعة لاشتراطات معينة، يحتفي بالمطابقة، كما بالألم. ففي رواية مصائر نقرأ نصاً يحتفي بقيمة تجميع مراكز الخطاب في فقرة واحدة مرتكزاتها ذلك الحنين والعودة والأسلاف، واللغة والذّاكرة، ولاسيما حين يواجه وليد دهمان منزله، ويستحضر صوت أمه، وقطاعاً من الحياة، ولكنه كان فقط في الماضي: «أتأمل غرفة نومنا هل هي غرفة نومنا حقاً؟ أنظر إلى أسفل، تسقط نظراتي من عيني أتلقفها وأتقدم خطوتين تتعثر قدماي الصغيرتان في العتبة التي تشبه جرتي سلم رفيعتين واطئتين، تلتقطني أمي وتصرخ اسم الله عليك يمه اسم الله وجيرة الله عليك»، أخفي دمعتين أطلقهما سرا في بيت والديّ أحقاً هو بيت والديّ؟ أهي مراوغة ذاكرة أثقلتها نوستالجيا بنتها حكايات تشبه الوصايا وراكمتها السنون».
في مصائر لربعي الدهون مستويات متعددة من الخطابات «الكونشرتو» التي تبحث في استحالة أن يشعر الفلسطيني في إسرائيل بمعنى الوطن، على الرغم من أنه ما زال فعلياً على أرض فلسطين، وهذا يعني أن الاقتلاع نموذج لا يتصل بالتّكوين المادي فحسب، بمقدار ما يعني قيماً معنوية تنهض على الإحساس بالاندماج، والحرية، ونيل الحقوق، وهذا ما تختبره الرواية في أكثر من موضع، عبر تتبعها لحيوات بعض الشّخصيات في مستوى سردي من هذا الكونشرتو الذي يشمل «باسم» زوج جنين الذي عاد من منفاه الغرب إلى منفى داخلي آخر، حيث لا يحقّ له العمل في إسرائيل، ويحتاج إلى تجديد إقامته، كما أن ثمة إشارات إلى ذلك التّمييز العرقي المناهض لكل ما هو إسرائيلي غير أبيض، إذا جاز لنا التعبير، وهذا يشمل العرق الأفريقي، ويعني أن ثمة نموذجاً خطابياً يتكئ على التقييم ما بعد الكولونيالي، حيث يمنع عدد من طالبي اللجوء من اليهود الأفارقة، ولا سيما القادمين من السّودان للحصول على تصريح عمل، غير أنهم يمنعون من دخول مبنى وزارة الداخلية. هذا التمييز يدفع إلى انبثاق إشكالية بين جنين وباسم الفلسطيني الراغب في العودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أو الذهاب للعيش في بيت لحم، غير أن جنين تقاوم ذلك، وترغب في أن تبقى في موطنها، في يافا، ولهذا تمنى الاثنان لو استمرت علاقتهما افتراضياً على الماسنجر والشبكة العنكبوتية لردم شتاتهما، وصون حبهما. ومع ذلك فثمة إشارات نصيّة متعددة أيضاً إلى معاناة الفلسطينيين في دول اللجوء العربي، ومن ذلك ما جاء على لسان إحدى الشخصيات حيث تتضح معالم التمثيلات السلبية في وعي الفلسطينيين في دول اللجوء، سواء أكانت في حدود العالم العربي أو خارجه.
«عليّ الطلاق بالثلاثة العيشة تحت حكم إسرائيل أحسن ألف مرة من حكم الإدارة العسكرية المصرية اللي موريانا نجوم الظهر هذيك عدو واحتلونا، بس هذي بتبيعنا عنجهيات قومية ع الفاضي». إن الكتابة داخل الكتابة تعني حلاً سردياً لبناء تمثيلات الوطن المتخيل، حيث تسرد حكايات «باقي هناك» بحيواته المجزّأة بين أكثر من مكان، كما إيفانا، ووليد وجولي، وباسم وجنين. نقع في الرواية على العودة لمعاينة فلسطين، فثمة دوما إحساس بتصوير طوباوي لتكوين الوطن في المتخيل تنهض على جمالية الماضي، ونموذج الفردوس المفقود، صورة الوطن الذي يفوق على كل الأوطان. في الرّواية، نقرأ كيف تمثّل فلسطين بوصفها أجمل الأوطان في رحلات تعاين فلسطين وصفياً…عكا والقدس ويافا، وغيرها ومن ذلك المقاهي والمطاعم، وشاطئ البحر، والأشخاص… كافة تلك التّمثيلات الآخذة في بناء وطن قائم على الذاكرة واختبار الواقع، مع محاولة مطابقته مع المتخيل والذّاكرة، ولا سيما حين تطرح جولي على زوجها فكرة البقاء والاستمرار في فلسطين. تتأسس الرواية على كونشرتو الأصوات، ولهذا تظهر كرنفالية لغوية، فعلى مستوى الحوار ثمة حوارات باللغة العربية الفصحى، فضلاً عن حوارات باللهجة الفلسطينية المحكية، كما حوارات مكتوبة بحروف عربية، غير أنها كلمات إنكليزية، وهذا ينطبق على حوارات اللغة العبرية، ما يعني أن ثمة حالة من الاختلاط والتّهجين اللغوي الواضح، وهو يحملنا إلى نص كنائي عن تشتت اللغة، وتبعثرها في أكثر من اتجاه، وهو ما يدفع إلى بنية سردية محتفــية بذلك التّعدد اللغوي الذي ميّز التكوين الفلسطيني الثقافي في المنافي، وبلدان الغربة، وهذا يتجلّى عبر البيان الجغرافي لأمكنة تتعدد بين إحداثيات كلندن، ومدن فلسطينية، ومنها عكا وحيفا، وغزة، وعسقلان، وكندا، كما أن الرواية تحتفي بتحولات الأمكنة الفلسطينية، ومغادرتها لأسمائها العربية مقابل الأسماء العبرية لذات الأمكنة، وهو ما يعد نسقاً خطابياً قائماً على التّنازع بين ذاكرتين: يهودية وفلسطينية.
لا شك في أن لعبة الأسماء وإحالتها الدلالية مما يعدّ فعلاً سردياً متقدماً، ومن ذلك بنى ثنائية، ومتعددة أشبه بتبعثر وتجزؤ الذّات الفلسطينية. ذوات تحتمل أكثر من معنى للوجود، ففي رواية «مصائر» نعثر على مستوى في بنية رواية تعتمد «الميتاسرد» حيث محمود دهمان يحمل اسماً آخر «باقي هناك» في نص الرّوائية «جنين»، ولعل القيمة التّناصية للاسم تحيلنا إلى رواية إميل حبيبي، بيد أن المعنى المتبلور هنا، أن محمود دهمان تعالى في تكوينه ليتحول إلى كائن مؤسطر يحمل معنى المقاومة، رفض التّخلي عن الوطن، لقد أضحى خطاباً لمقاومة الاقتلاع، ومغادرة حيواتها إلى حياة واحدة هي البقاء في فلسطين.
إن كلمة «البلاد» ذات تفعيل عاطفي لمعنى العودة حين يصيح وليد دهمان «الابن» «أنا في البلاد يمة»، وهذا يبرز بمحاذاة تلمس الأمكنة التي ألفها قبل ثمانية وثلاثين عاماً، كما الأوجاع التي يحتملها المرور على كل بقعة وأرض وشجرة، وحتى الأماكن التي تغير ساكنوها كالرملة التي سكنها الفلاشا والأثيوبيون، فثمة حاجة ملحة لاستعادة اختبار المكان، وتلمسه من جديد، فوليد في رواية مصائر يستعين بذاكرة والدته كي تقوده إلى بيتهم عبر مكالمة هاتفية:
«بتتذكري يمه وين كنت ساكنة قبل الهجرة؟ بتتذكري بيتنا؟».
«هايمه ايش بدو ينسيني؟ يا ورديه عليّ يمه هو أنا بنسى البيت اللي اتجوزت فيه وخلفتك فيه! قطيعة تقطع اليهود اللي حرمونا منه».
في رواية مصائر ثمة إطلالات على الارتداد والعودة عبر نسقين كما تمثله عودة وليد وجولي، أو عبر المتخيل النصي المضمّن في رواية جنين حول «باقي هناك» الذي رفض مغادرة فلسطين، وتشبث بموقعه رافضاً أن يكون مقتلعاً، وفضّل أن يعاني التمييز والعنصرية في وطنه، حاله كحال جنين المتشبثة في بيتها، ومدينتها على الرغم من كافة التحديات.
تُبنى رواية مصائر بالمجمل على نسق تقابلي يستدعي مروية الهولوكوست، وكيف سعى اليهود للعودة إلى فلسطين ولو زحفا، في حين أن بعض الفلسطينيين يسعون للهجرة أو الزحف إلى السويد والدنمارك. إن رؤية متحف المحرقة «يد فشم»، وقراءة أسماء الضحايا من قبل وليد دهمان، استدعى قراءة طباقيّة لأسماء الضحايا الجدد الفلسطينيين الذين توزعوا بين السّماء والأرض، وهنا ثمة دعوة لقراءة تبادلية بين الضحية والجلاد، ولا سيما في مستواها المعني في ثنائية التنازع على الأرض، على النموذج، ونعني نموذج الضحية الذي ميّز المروية اليهودية على امتداد خطابها التاريخي، فالسرد الفلسطيني يسعى إلى خطاب يمحو نموذج اليهودي، ليصنع نموذج ضحية آخر هو الفلسطيني، وإذا كان التجوال اليهودي قد انتهى بالعودة إلى فلسطين، ولهذا كان لا بدّ للفلسطيني من أن يمارس فعل إزاحة عبر التمركز حول فكرة العودة في المروية الفلسطيني. ولنقرأ هذا النموذج عبر تمثل التحولات والتنازع على خطاب الضحية النموذجي: «أتابع الملامح والأسماء صعودا إلى أن بلغ نظري نهايتها الدائرية المفتوحة على السماء، في تلك اللحظة أطلت على وجوده آلاف الفلسطينيين الذين عرفت بعضهم ولم أعرف الكثيرين منهم، كانوا يتزاحمون كمن يرغبون في النزول إلى قاعات المتحف والتوزع عليها واحتلال أماكنهم كضحايا حزنت على من هم منا وعلى من هم منهم.
وعلى الرّغم من أن الخطاب في المقطع السابق طافح بالرؤية التّـــنازعية على صورة الضحية، وتمثيلها إلا إنها لم تعدم نموذج الأنسنة أدوار الضحية، ولكن المغفــرة لم تتحقق بعد ضمن هذا التـــوجيه لكون الضحية الفلسطينـــية ما زالت قائمة، على الرغم من بعض التوجهات من خلال وجود جمعيات يهودية تدعـــو إلى تذكّر الفلسطينيين إلى قراهم، ومنها جمعية يتذكرن- زوخروت» التي تقود نضـــالا شرساً حول الذاكرة.
في هذا الجزء من الرواية تتمحور القيمة السردية الخطابية حول إمكانية اجتراح نموذج تسامحي قائم على المغفرة، غير أنّه على ما يبدو غير حقيقي، على الرغم من وجود مدينة «عيرشــل سلحانوت» أو مدينة التسامح، فالتصالح صعب، على ما يبدو، وبعيد المنال، ولا سيما لدى الجيل الذي عرف الصراع، كما أن هنالك تأكيداً على أن هذا التصالح المزعوم مرفوض حتى من قبل الأجيال الجديدة.
٭ كاتب فلسطيني- أردني
رامي أبو شهاب