من السهل أن نقوم بما قام به جرجي زيدان، بكتابة رواية تاريخية، تجمع بين المادة التاريخية والقصة العاطفية المضمرة، التي تتحكم في صيرورة السرد، وتقوده نحو الكثير من الشهوات التي يستجلب بها الكاتب قارئه، أو على الأقل هذا ما يظنه، لأننا من ناحية أخرى، نفترض أيضاً أن للقارئ قدراً من الذكاء والفاعلية غير المتوقعة، أثناء القراءة. وهو ما يضع فكرة جرجي زيدان مثار جدل.
طبعاً، يملك الكاتب، القدرة على الوقوف وجهاً لوجه أمام ثيمات أحداث يستطيع بناءها وتنضيدها وتنظيمها، كما يشاء. يستطيع مثلاً أن يختار الحادثة لتشكيل ثيمة الرواية، ويؤثث لها التخييل المناسب الذي يحفظ وحدتها، وينميها، ويتحكم في مساراتها، ليخلق عند قارئه الانطباع، والإحساس بالحقيقة. لكن، مهما كانت الحيل التركيبية، يدخل الكاتب إلى روايته وهو داخل وضعيتين: وضعية الراغب في إقناع القارئ بأن كل ما سيقرأه حقيقة، وأنه جاد في مشروعه الأدبي التاريخي، مستبقاً سؤال القارئ المفترض: هل القصة حقيقية أم لا.
وكثيراً ما تكون الإجابة تقليدية بكلام عام، يمر بسهولة، وبدون عناء كبير: الحادثة حقيقية إلى حد ما، لكن ما يحيط بها ليس دائماً حقيقة. مادة ضرورية لإيجاد المعنى. وهو محق في كلامه لأن ما يكتبه الروائي الذي يتعامل مع المادة التاريخية، ليس متخيلاً بالمعنى المطلق، هناك الأعمدة التي ُيبنى عليها النظام السردي الذي يفترض أن تكون الحقيقية مؤسسة إبداعياً ما دام الأمر ليس تاريخاً، أو على الأقل توحي بذلك بقوة وفي انسجام مع الحقيقة نفسها كما تم تداولها تاريخياً.
التخييل فعل حر، لكنه حرية مشروطة بسلسلة من العوامل التي يتم توليفها مع النص أو الثيمة التاريخية المركزية التي تجعل من النص إمكانية قوية وجادة، لتطوير الحقيقة الروائية التي لا تنتمي في النهاية إلا للنص، الرواية. أي أن الفعل الروائي يمنح الثيمة أو الموضوع المختار للمعالجة، الحقيقة، ما يجعلها تؤكد على حقيقة أخرى مركبة، لا يمكن العثور عليها إلا داخل النظام الروائي. هذا كله ممكن ويمكن التعامل معه بفيض من لعبة التخييل المؤسسة على هذه الحقيقة أو تلك.
حتى هذا الحد، لا إشكال في الفكرة التي تكاد تكون مسلمة من مسلمات النقد. الثيمة مرتبطة بنظام الرواية في النهاية لكونها عالماً بنيوياً، وليس حكائياً فقط. أي أن البناء جزء حيوي منها. المشكلة، تظهر بقوة عندما يتم التعامل مع شخصية موضوعية حقيقية. تتمتع بطابع مقدس، أو بسلسلة من الصور التي جعلت منها إيقونة، ويريد الكاتب أن يؤنسنها من خلال مدارات الفعل الروائي؟ الأيقونة في اللاوعي البشري ترفض الكسر، أو المس، أو إعادة النظر ليس للتقليل من قيمتها أو المس بتاريخها كيفما كان، ولكن لإدخالها في مدارات الحياة العامة والعادية. العقل العام المبني على ميراث سياسي وثقافي معين يرفض أي تغيير، وقد يتحول الرفض إلى صراع، وربما استفحل وتحول إلى عداوة معلنة أو مخفية تصل إلى حد اتهام الروائي بضرب تاريخ أمته، أو، في حالة استفحال الاختلاف، الإدانة وتهمة العمالة السهلة، والمس برموز الدولة، بالخصوص إذا كانت هذه الإيقونات المشتَغَل عليها من نتائج ثورات وطنية أجمعت الأمة على أنها إيقونتها المركزية.
فقد رأيت الكثير من الحالات في الثقافة الإنسانية والعربية انتهت بالكاتب إلى السجن أو التعويض المادي الثقيل والمرهق، السبب: الكاتب لم يصور الشخصية كما هي في التاريخ؟ المعضلة كلها هي في إشكال تحديد الكلمة المركبة: كما هي؟ وكأن «الكماهية» ليست فعلاً مؤسساتياً مبنياً على مصالح متشابكة، سياسية وثقافية وتاريخية، صاغت الشخصية بهذا الشكل أو ذاك، تاريخياً. لا ينقص نقد الشخصية التاريخية الحقيقية من قيمتها، سوى أنه يمنح الكاتب فرصة تفكيكها وإعادة فهمها. الإيديولوجيات، مهما اتسعت، تظل واحدية ضيقة، وقلقة، واختزالية أيضاً. لهذا، تحتاج الكتابة الروائية عن الشخصية التاريخية إلى جهد فوق الجهد الاعتيادي. أي جهد المواجهة وإثبات أن النص الروائي ليس تاريخاً، لكنه ليس أيضاً لعبة فوضوية باسم حرية الكتابة عن كل شيء، وبالشكل الذي نريده.
ما يصلنا من المؤرخين، على أساس أنه حقيقة تاريخية مطلقة، جزء منه قد يكون كبيرًا أو صغيرًا، صناعة آيديولوجية، فيها الكثير من المادة التاريخية المستقرة، وفيها أيضاً، وقد يبدو الأمر غريباً، من حاجاتنا وثقافتنا وجبننا، وشجاعتنا أيضاً، التي علينا إخراجها من ظلمات التاريخ وظلاله، وجعلها مرئية. الذي يكتب، هو هذه الأنا الباحثة عن نموذجها التاريخي والنصي، ماضياً وحاضراً لأن قوة الإيقونة أو المادة الأدبية الرمزية هي أنها لازمنية، وتخترق الأجيال. كل جيل يلصق فيها شيئاً منه. وهذه اللازمنية تجعل الأيقونة تختزل الكثير من الأسرار. في الكتابة الأدبية يجدر بالروائي أن يبحث داخل ظلال المبهم عما لا يستقيم مع العقل. سيظل خفياً في الشخصية التاريخية، ليس فقط عن القارئ الاعتيادي، ولكن أيضاً عن القارئ المحترف. الايقونة التاريخية التي تروج لها المؤسسة اختزالية ومهيمنة، ولها قوة الهيمنة والغطرسة. أي كاتب يقترب منها يصبح عرضة للفتك. من هنا يصبح جهد الكاتب، مواجهة يومية مع الذاتين، المُبْدِعَة والمبْدَعَة والمحيط الاجتماعي أيضاً، الذي له قراءته الخاصة التي تتحكم فيها علاقات أشد فتكاً بالنص أحياناً. بعض المواجهات قد تجهض نبل الكتابة.
الكاتب ليس مؤرخاً مع أنه يحاسَب كذلك أحياناً. وليس موظفاً وفياً في أية مؤسسة، مكلفاً من طرفها لإنشاء سيرة ترضيها. الكثير من الكتب تمت مصادرتها مع أنها ليست سيراً بالمعنى التقليدي المتعارف عليه. منجزات إبداعية بالدرجة الأولى. لهذا فالكتابة عن الشخصية، مغامرة حقيقية، غير مضمونة. تحتاج إلى وسائل صحيحة ودقيقة، أولاها المسؤولية الذاتية والجمعية أمام ما يقوله الروائي، معرفة الميدان جيداً إذ هو المرحلة الأولى لتحقيق الانتصار في حرب ليست دائماً مؤمنة سلفاً، كل عناصرها هشة مثل الكتابة.
التخييل لا يمكنه أن يكون جاداً إلا مشفوعاً مسبقاً ببحث تاريخي حقيقي، وربما ميداني، يلمس الروائح، والتضاريس والجغرافيا وغيرها من العناصر الحية التي توحي كأننا بصدد تركيب عالم لم يعد موجوداً اليوم، تخترقه الكثير من الفراغات التي لا يملأها التخييل وحده، ولكن فعل الكتابة نفسه، والبحث عما خفي من تاريخ الشخصية الروائية التراجيدية التي تصلح لأن تكون مادة روائية، والتفاصيل الصغيرة التي لا تهم المؤرخ إلا قليلاً، وإعادة بنائها قطعة قطعة، بحيث أنها تمنح الشخصية استمرارية عميقة في الحياة، وفي وجدان الناس، لأنها تشبههم وليست منهم. التاريخ يحنِّط ويقدس باستمرار، لكن الرواية توقظ وتمنح الحياة وتؤنسن. فهي وسيلة تحرير من قيود التاريخ المصاغ وفق المصالح الخفية أو الحسابات الصغيرة لتصنيع الرأي العام. الرواية هي الحرية عينها.
واسيني الأعرج
إذا كانت الجدات تتقن فن الرواية شفاهيا. بكيف بالأكاديميين. أم مفتاح الكتابة هو المال.
اعتقد كتابة الرواية عن الشخصيات التاريخية اغرب بأن تكون رواية وثائيقية ،لأن ذكر حقائق ومواقف واقعية عن الشخصية تكون الرواية اكثر مصداقية ،بالاضافة للحبكات والطبخات اللوجستية والادبية التي يتطلبها العمل الادبي الروائي لتكملة الصورة الجازبة الشيقة للعمل ،هنالك اعمال روائية لشخصيات عالمية انطبق عليها هذا القول ومع الابتعاد عن لب الموضوع هناك…من الاعمال الروائية لشخصيات…فلم ابراهام لنكولن…جون كندي ….الثورة العربية الكبري والشريف حسين…..نابليون…..عبد القادر الجزائري والاستعمار الفرنسي..والكثير. الكثير….
.
الخيال في الرواية و الحقيقة في القصة !
إني لأجد صعوبة جمة في الجمع بين التخيّل و هو العقل الباطن في رؤية الأشياء مستقبلا كيف تكون أو كيف يجب أم تكون ، و بين الرواية التي تعتبر خيال نسيج الخيال و ليس التخيّل أشخاص ، فثمة فرق بين التخيّل و الخيال الإفتراضي . و الرواية حدث إفتراضي ــ وقع في الماضي ــــ غير الحديث عن القصة التي تعتبر حدّث حقيقي لل يجوز زيادة حادثة و لا حذف فكرة منه ، و لهذا العرب تقول عنها : قصة ! من قصّ الشيء أي إتبعه ، و آلة قطع القماش تسمى : مقصا للتبعها خطا في تقطّيعها … إذا لابد من معرفة الشيء الذي نقدم عليه إما هو رواية أم قصة و من المفهومين نكون ناجين من أي إثم سماوي و لا تعنيف إنساني . و نفسي أني أميل للقصة أقرأها دراسة و أأخذ منها العبرة دوما لأنها أحداث وقعت حقا بداية و نهاية ، فنحن أمام حقيقة لا خيالا ، أما الرواية فإنها تنطلق دوما من شخصية الإنسان و محيطه الذي يعيش فيه اللذان يؤثران بقدر قد يكون : سلبا أو إيجابا في الإستفادة من الرواية ، و تبقى دائما نتيجتها محجمة الفائدة مقزمة العِبرة …