مصر… بإنتظار أن يأتي دورك

الرواية الواحدة في موسم الحبس وتصفية الحسابات
حفل الأسبوعان الماضيان بجملةٍ من الاعتقالات لشخصياتٍ ووجوهٍ بارزة من المشتغلين بالعمل العام، شملت المحامي الحقوقي البارز هيثم محمدين، وأخيراً المدون وائل عباس. وحكمٍ بالسجن عشر سنوات على الباحث الجاد والمهم في الشأن السيناوي إسماعيل الإسكندراني، بعد ما يقارب العامين ونصف العام قضاها رهن الحبس الاحتياطي. لن أدعي عدم الدهشة خاصةً من حيث التوقيت، فالنظام (على الأقل ظاهرياً) يبدو في أقوى أوضاعه، بعد أن هرس الإخوان المسلمين بقبضته الغشوم عبر حملاتٍ شملت دوائر أوسع من مجرد المنتمين والمتعاطفين لتشمل من قد تصادف مروره بشارعٍ يقطنه إخواني، أو من دُعي يوماً إلى فرحٍ أو حضر واجب عزاءٍ أو حتى من ورد اسمه نتيجة شكايةٍ كيدية.

فلماذا الآن ولماذا هؤلاء؟
وما الذي يحاول النظام إخفاءه أو ما الذي يعد له؟

للوهلة الأولى قد تبدو الاختيارات غريبة بعض الشيء، فثمة تفاوتٌ واضح في الاتجاه الفكري والانحياز الاجتماعي بين الشخصيات التي شملها النظام بأريحيته وعطفه، بيد أن ذلك العجب ليزول متى ما حاولنا النظر للأمور وتقييمها من وجهة نظر النظام وتصنيفه (ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً بالطبع )، فالقاسم المشترك بينهم جميعاً أنهم غير منتمين للإسلام السياسي و»عيال بتوع ديمقراطية وحقوق إنسان» وحرية الخ، وهم وإن كانوا لا يشكلون خطراً مشابهاً، ناهيك عن مقاربٍ للإخوان المسلمين، إلا أن بعضاً منهم عالي الصوت يلعب على الحشد الجماهيري، وقد أثبت صلابةً في مواقفه.
من الهزل المستخف في هذا السياق التساؤل عن التهم، فكلنا جميعاً قابلون للاتهام بالتحريض على الإرهاب والانضمام إلى جماعةٍ محظورة متى ما استدعت الحاجة، فالأساس هو الرغبة في الإبعاد والتنكيل (والتصفية أحياناً )، والأضابير جاهزة لأناسٍ لم يولدوا بعد، كما قال الراحل الماغوط في مسرحية «ضيعة تشرين».
بعيداً عن الانسياق في تكهنات خيالية فإن أقرب التفسيرات إلى ذهني هو نية النظام وتخطيطه لتمرير حزمة مكملة من الإجراءات القاسية، فارتأى أن يضرب مثلاً لكل من تسول له نفسه الحراك أو رفع الصوت بالاعتراض من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى إبعادهم عن الساحة للسبب نفسه.
أما الهدف الثاني الذي يبرهن عليه بالأخص اعتقال إسماعيل الإسكندراني، ومن ثم ذلك الحكم القاسي فهو حرص النظام على مصادرة الخبر والمعلومة واحتكار الرواية، بحيث تتسيد روايةٌ أو سرديةٌ واحدة فلا تتسرب أخرى تنافسها أو تشكك فيها، ولعل الملف السيناوي الذي تخصص فيه إسماعيل الإسكندراني خير مثال. فكل الأدلة ومجريات الأحداث تشير إلى فشلٍ وسوء إدارة مقترنةٍ بفظاظةٍ ورعونةٍ جهول، بيد أن المواطن في بر مصر والعالم لا يعلم حقيقة ما يجري بوضوح وتفصيلٍ، إلا عن طريق ما يصله من الإعلام، ولما كان كله في مصر تابعاً بصورةٍ أو بأخرى للدولة، بعد أن تم العصف تباعاً بكل من امتلك أو حرص يوماً على شبهة الاستقلال، فإن المواطن ليس أمامه إلا ذلك السيل من الأخبار المغلوطة والأكاذيب التي تلقي بها إليه القوات المسلحة ومتحدثوها. من هنا، يصبح باحثٌ جاد كإسماعيل خطراً ومزعجاً، فهو يعرف مادته ويفهما جيداً، قابل وحاور ورأى واستمع، وصدح بالرواية الأخرى، الفاضحة، والأهم أنه وجد اهتماماً خارجياً وتسابقاً على مقالاته. كل ذلك لا يقبله النظام، بل يخشاه كما أنه لا يريد أن يعيد عقارب الزمن للوراء فقط لما قبل الثورات، بل يريد أن يعود إلى زمنٍ لم يكن المتاح فيه سوى قنوات الإذاعة والتلفزيون الحكومية مع سيطرةٍ تامة على المطبوعات، محليةً أو وافدة.
لا شك بأن الإقليم بأسره الآن يرزح تحت ظل الثورة المضادة، فقد وئدت محاولات التغيير (على الأقل في مصر) وتم تكريس الطبعة الأعنف والأشرس والأكثر دمويةً من أنظمةٍ تعيد إنتاج نفسها، والحكومة الأمريكية التي يتعلق بها حكام المنطقة كرضيعٍ بثدي أمه يقودها يمينيٌ شعبويٌ أرعن لا يخلو من الحماقة، يضم كل يومٍ من هم على شاكلته ومزاجه إلى حكومته، ما يكسب حكامنا المزيد من الراحة والاطمئنان، وبالتالي فإن النظام معتد واثق من سيطرته الأمنية يرى الوضع الحالي مواتياً تماماً، بل هو الأمثل للمضي في تغييراته الهيكلية وانحيازاته وتصفية حساباته أيضاً، وإشباع شهوته للانتقام، فهو لا يعتقلهم فقط للإبعاد، وإنما لتشريدهم والاستمتاع بمراقبتهم وهم يرون أعمارهم تضيع أمام أعينهم، الأمر الذي يذكرني بالعراب في أفلام المافيا، والحقيقة أنني ما أن أرى أوجه التشابه بينهم وبين العصابات المنظمة أجلى وأفقع.
لقد تخلص من معارضيه على حسب خطورتهم وأوزانهم، فريقاً وطرفاً وراء الآخر، بينما الآخرون ينتظرون أو لا يكترثون في لهاثهم وراء معايش ما تني تضيق والبعض للأسف يصفقون لأن بعضاً من المحبوسين ينتمون إلى عدوهم التاريخي التقليدي حتى يجيء دورهم، فلن يجدوا من يدافع عنهم، الأمر الذي يستدعي إلى ذهني تلك المقولة الشهيرة لمارتين نيمولر إبان الليل النازي «في البداية جاءوا إلى الاشتراكيين فلم أصدح لأنني لست اشتراكياً، ثم جاءوا للنقابيين فلم أصدح لأنني لست نقابياً، ثم جاءوا لليهود فلم أصدح لأنني لست يهودياً، ثم جاءوا لي فلم يتبق أحد ليصدح بالنيابة عني» فلعل الدور الآن أو غداً عليّ أو عليك.
يقيناً أن ذلك داخلٌ في الحساب، فإن الإجراءات الاقتصادية المزمعة ستزيد من إرهاق الناس وعوزهم، بيد أن أولئك الذين كان بمقدورهم أن يتكلموا أو يقوموا بدورٍ قيادي في التوعية والحشد سيكونون إما ميتين أو وراء القضبان.
هكذا إذن يمضي النظام في عُصابه مرتباً أوضاعه، فنحن لم نر آخر العرض بعد: قبضةٌ أمنيةٌ لا ترحم، تخصخص وتبيع كل شيء، لاغيةً كل ما أمكن من الدعم، تحتكر الخبر والحقيقة، روايتها الرسمية هي الوحيدة الممكنة، تمضي وراء الرئيس الملهم الأوحد مدى الحياة نحو النهاية أو لعلها الهاوية.
فيا له من كابوس.
كاتب مصري

مصر… بإنتظار أن يأتي دورك

د. يحيى مصطفى كامل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية