بعد إعتماد الرئيس السيسي الموازنة الجديدة للدولة التي تم بموجبها تخفيض حجم الدعم الموجه إلى الطاقة ويقدر بحوالي 70 مليار جنيه وما صاحب ذلك من إحتجاجات شعبية بسبب إرتفاع تكلفة نقل السلع ونقل الركاب، طرح الشارع المصري العديد من الأسئلة منها: هل تنجح الحكومة في تخفيض حجم العجز الكلي للموازنة؟ ما هي الآثار الاقتصادية لترشيد دعم الطاقة؟ وما هي الآثار الاقتصادية لزيادة الضرائب في ظل الركود؟ وما هي الآثار الاقتصادية لسياسة تمويل عجز الموازنة؟ وهل تنجح الحكومة في الرقابة على الأسواق للسيطرة على إرتفاع الأسعار المتوقع؟
تعكس الموازنة العامة للدولة البرنامج الاقتصادي للحكومة وهي أداة لتنفيذ السياسة العامة للدولة في جميع المجالات، وقد أدى تطبيقها بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 إلى نمو حجم الإنفاق العام مع قصور نمو الموارد المالية لمقابلة الزيادة في الإنفاق العام، وإنعكس ذلك بالتالي في إستمرار عجز الموازنة العامة الذي صاحبه العديد من الآثار السلبية على الاقتصاد، كلما إرتفعت نسبة العجز إلى الناتج المحلي، وينبغي ألا تزيد تلك النسبة عن 9٪ وتسعى الدولة إلى تخفيض العجز الكلي للموازنة إلى الحد الأدنى. وينقسم العجز الكلي إلى العجز الجاري وعجز الموازنة الاستثمارية.
ويترتب على عجز الموازنة الجارية آثار تضخمية حادة تؤدي إلى إرتفاع الأسعار وتراكم الدين المحلي الداخلي وزيادة أعباء خدمة الدين الذي يمثل ربع حجم الإنفاق العام، كما يؤثر ذلك على قدرة الحكومة على زيادة حجم الاستثمارات العامة وعلى تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع.
في حين لا يمثل عجز الموازنة الاستثمارية خطورة على الاقتصاد المصري، ويرجع ذلك إلى أن الإستثمارات العامة تولد إنتاج ودخول تمكن الحكومة من سداد تكلفة تمويل عجز الموازنة الإستثمارية.
يعتبر عجز الموازنة العامة في مصر مزمنا، وهذا ناتج عن نمو حجم الإنفاق العام مع قصور حجم الموارد لمقابلة هذا العجز، ويتطلب علاج عجز الموازنة في الأجل القصير تدبير الموارد اللازمة لتمويل الإنفاق الزائد في حين يتطلب تمويل العجز في الأجل الطويل السير في إتجاهين، زيادة الإيرادات العامة وإتجاه ترشيد الإنفاق العام. ويتطلب زيادة إيرادات الدولة تطوير النظام الضريبي والإرتفاع به إلى المستوى الذي يمكنه من زيادة حصيلة الضرائب مع مراعاة عدم إضرار السياسة الضريبية بحوافز الإنتاج والإدخار والاستثمار وعدالة توزيع الأعباء الضريبية، ويتطلب ذلك تطبيق الضرائب التصاعدية كما يتطلب ترشيد الإنفاق العام بما لا يتعارض مع الدور التنموي للدولة والدور الاجتماعي للدولة، ويجب مراجعة منظومة الدعم لترشيده وضمان وصوله للفقراء وذوي الدخل المحدود.
علاج عجز الموازنة العامة في عهد السيسي
تكتسب السياسة المالية خصوصيتها من كونها إحدى أدوات السياسة الاقتصادية التي تمكن الحكومة من تحسين مستوى المعيشة، كما أنها تعكس حجم الموارد المالية المتاحة للحكومة التي يمكن إستخدامها في تمويل الإنفاق العام.
وقد أدى تراكم عجز الموازنة العامة إلى إرتفاع حجم الدين العام المحلي إلى 1700 مليار جنيه يمثل أكثر من 90٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي وبلغت فوائد هذا الدين الداخلي حوالي 182 مليار جنيه يمثل ربع حجم الإنفاق العام.
وفي ظل هذه المستويات المرتفعة من الدين العام المحلي وفوائده الضخمة أصبحت هناك حاجة ماسة لعلاج هذا العجز الكبير في الموازنة بالإعتماد على الذات، الأمر الذي إضطر السيسي إلى رفض إعتماد الموازنة وإعادتها إلى الحكومة التي قامت بإتخاذ العديد من الإجراءات لترشيد الدعم المقدم للمواد البترولية والكهرباء وزيادة حصيلة الضرائب وبالتالي إنخفض حجم العجز بعد تعديل الموازنة إلى 280 مليار جنيه يمثل 10٪ من الناتج المحلي وأدى تخفيض دعم المواد البترولية إلى توفير 44 مليار جنيه وأدى تخفيض دعم الكهرباء إلى توفير 27 مليار جنيه.
وإتجهت الحكومة إلى تطبيق سياسة مالية تهدف إلى تخفيض حجم العجز الكلي للموازنة من خلال إتخاذ الإجراءات التالية:
تطبيق الحد الأدنى للأجور (1200 جنيه شهريا) وتطبيق الحد الأقصى (42000 جنيه شهريا). وقد أصدر الرئيس السيسي قانونا بذلك يهدف إلى تقليل الفوارق بين الدخول وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية مع تطبيق ذلك على كافة العاملين لدى الدولة من قضاء والهيئة العامة للبترول والبنوك العامة والشرطة والجيش والصحافة.
زيادة معاش الضمان الاجتماعي إلى 11 مليار جنيه (ثلاثة أضعاف العام الماضي) وبالتالي زيادة عدد المستفيدين من هذا المعاش.
فرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة بنسبة 10٪ مع ترحيل الخسائر ثلاثة أعوام.
فرض ضريبة مؤقتة 5٪ على من يزيد دخله عن مليون جنيه وفرض ضريبة 10٪ على التوزيعات النقدية للشركات المساهمة.
رفع أسعار المواد البترولية من بنزين وسولار ومازوت لتوفير 44 مليار جنيه وقد يؤدي ذلك إلى إرتفاع تكلفة نقل الركاب إلى 10٪ على الأقل من وجهة نظر الحكومة.
رفع أسعار الكهرباء لتوفير 27 مليار جنيه مع تطبيق نظام الشرائح المتعددة أي أن سعر الكيلو وات في الشريحة العليا للإستهلاك التي يدفعها أصحاب الدخول المرتفعة أصبح 10 أمثال سعر الكيلو وات بالنسبة للفقراء.
الآثار الاقتصادية لسياسة ترشيد دعم الطاقة
اعتبارا من عام 2005/2006 بدأ يظهر في الموازنة الدعم الموجه للمنتجات البترولية باعتباره يمثل الفرق بين سعر البيع في الأسواق العالمية والسوق المحلية والحقيقة أن هذا الدعم حسابي وليس حقيقيا، على أساس أن الإنتاج المحلي من المواد البترولية مخصص للتصدير وليس للإستهلاك المحلي، وعلى المواطن سداد قيمة المواد البترولية بالسعر العالمي في الوقت الذي يحصل على أجور منخفضة عن الأجور التي يحصل عليها المواطن في الخارج.
وينبغي على الحكومة تعديل أسلوب قياس دعم المواد البترولية ليتضمن الفرق بين سعر البيع في السوق المحلي وتكلفة الإنتاج المحلي مضافاً إليها تكلفة الخام المشترى من الشريك الأجنبي وتكلفة إستيراد المنتجات البترولية.
ويؤدي إرتفاع أسعار المواد البترولية إلى ارتفاع تكلفة نقل الركاب بنسبة قدرتها الحكومة (10٪) في حين يهيمن القطاع الخاص على قطاع نقل الركاب وتم رفع الأسعار بحوالي (25٪) دون رقابة فعالة من الحكومة.
كما يؤدي إرتفاع أسعار المواد البترولية إلى إرتفاع تكلفة نقل السلع إلى الأسواق المحلية وبالتالي إرتفاع أسعار جميع السلع وحدوث ضغوط تضخمية في ظل إستمرار حالة الكساد الاقتصادي يؤدي ذلك إلى دخول الاقتصاد المصري مرحلة الركود التضخمي وعدم قدرة الحكومة على علاج المشاكل الاقتصادية.
وكان من الأفضل عدم زيادة أسعار المواد البترولية في الوقت الراهن على أن يتم تحصيل دعم المواد البترولية من السيارات الملاكي فقط عند تجديد الترخيص كل سنة، بحيث يسدد صاحب السيارة مبلغا سنويا يعادل قيمة الدعم الممنوح له على أساس متوسط الإستهلاك السنوي من الوقود وبالتالي يمكن للحكومة الوصول إلى الحصيلة المطلوبة بدون ضغوط تضخمية تؤثر على الفقراء وذوي الدخل المحدود.
الآثار الاقتصادية للسياسة الضريبة الجديدة
رغم إستمرار حالة الكساد الاقتصادي بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 إتجهت الحكومة إلى زيادة الضرائب لخفض عجز الموازنة.
كانت البداية بفرض ضريبة مؤقته 5٪ على الأغنياء الذين يزيد دخولهم عن مليون جنيه وكان من الأفضل تطبيق الضريبة التصاعدية بحيث تكون أعلى شريحة 30٪ لمن دخله فوق مليون جنيه بدلاً من 25٪ وهذا يحقق العدالة الضريبية ويؤدي ذلك إلى تحصيل الضرائب من الأغنياء.
كما إتجهت الحكومة إلى فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية في البورصة وهناك صعوبة في تحصيل هذه الضريبة لأن 60٪ من تعاملات البورصة لأجانب مقيمين في الخارج وتم فرض ضريبة أخرى 10٪ على التوزيعات النقدية لشركات الأموال مع إعفاء التوزيعات العينية من أسهم مجانية وكان من الأفضل زيادة ضريبة الدمغة على شراء وبيع الأسهم إلى 2٪ على كل من المشتري والبائع لسهولة تطبيقها وهناك إهدار لمبدأ المساواة في الدستور بسبب إعفاء التوزيعات العينية وعدم خضوعها للضريبة وفي جميع الأحوال تؤثر هذه الضريبة على قدرة البورصة على القيام بدورها المنشود في تمويل الإستثمارات من خلال زيادة رؤوس أموال الشركات أو طرح سندات الشركات في البورصة.
الآثار الاقتصادية لسياسة تمويل عجز الموازنة
منذ بداية التسعينات إعتمدت الحكومة على سياسة جديدة لتمويل عجز الموازنة من خلال إصدار البنك المركزي لأذون الخزانة، وتشير البيانات إلى إرتفاع الرصيد التراكمي لأذون الخزانة إلى حوالي نصف الدين العام المحلي في نهاية حزيران/يونيو 2013 وإتجهت البنوك المصرية إلى الإستثمار في أذون الخزانة وتصاعد أرصدة تلك الأذون لدى البنوك وأصبحت تمثل حوالي 40٪ من أرصدة الودائع في البنوك الأمر الذي أدى إلى التأثير على قدرة البنوك على تمويل مشروعات القطاع الخاص. وأصبحت تساهم في تمويل عجز الموازنة من خلال الإستثمار في أذون الخزانة وسنداتها التي تصدرها الحكومة.
٭ أستاذ الاقتصاد – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
د. مصطفى النشرتي