بعد قمة كبريات الدول الصناعية السبع الذي عقد في قصر فرساي أوائل يونيو/حزيران 1982، توجه الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في زيارة رسمية إلى لندن ألقى خلالها خطابا أمام مجلسي العموم واللوردات وصفته مارغريت تاتشر في مذكراتها بأنه خطاب «مميز لأنه دشن مرحلة حاسمة في معركة الأفكار التي كان كلانا، أنا وهو، نريد خوضها ضد الاشتراكية، وخصوصا اشتراكية الاتحاد السوفييتي. (..) إذ بدل الاكتفاء بالسعي لاحتواء الشيوعية، مثلما كانت سياسة الغرب في السابق، أردنا أن نضع الحرية في موقع الهجوم. ولهذا اقترح الرئيس ريغان شن حملة عالمية لدعم الثورة الديمقراطية التي بدأت آنذاك تستجمع قوة جديدة». وتؤكد تاتشر أنه تبين بمضي الزمن أن قد كان لهذا الخطاب دلالة أوسع نطاقا مما أوحت به اللحظة لأنه قد حدد وجهة جديدة في معركة الغرب ضد الشيوعية. «لقد كان بمثابة بيان عقيدة ريغان – المناقضة تماما لعقيدة بريجنيف ـ التي تقضي بعدم تخلي الغرب عن البلدان التي فرضت عليها الشيوعية فرضا».
وتضيف تاتشر أن هذا الخطاب رسخ في ذاكرتها لسبب آخر أيضا، هو أنها قد أعجبت بقدرة ريغان على الإلقاء دون الاستعانة بأي ورقة. قالت له: «أهنئك على ذاكرة الممثل التي لا تزال تستمتع بها». فأجاب: «لقد قرأت كامل الخطاب من تينك الشاشتين»، في إشارة إلى ما كانت تاتشر ومساعدوها يعتقدون أنه نوع من جهاز أمني أمريكي! ثم قال ريغان: «ألا تعرفينه؟ إنه اختراع بريطاني». لم تكن تاتشر تعرف. ولهذا كتبت: «وهكذا تعرفت لأول مرة على الأوتوكيو».
قصة توجز تعقّد العلاقة بين بريطانيا وأمريكا، إذ لم يكن الحلف السياسي المتين بين البلدين ليعمي المرأة الحديدية عن حقيقة القدرات الذهنية للممثل السينمائي من الدرجة الثانية الذي صار رئيسا لأقوى دولة في العالم. كانت تقول عنه لخاصتها إنه «ليس لديه شيء بين الأذنين»، أي أن ما يملأ دماغه هو الفراغ! وقد كانت تعامله على هذا الأساس، رغم حدة وعيها بأنه لا يمكن أن يكون لبلادها أي وزن استراتيجي إلا بلزوم الدوران في الفلك الأمريكي، ورغم إيمانها بأنها قد نجحت بالتحالف معه في إطلاق ما سمي بـ”الثورة المحافظة»، أي عودة الرأسمالية عودة انتقامية متوحشة (شاع تسميتها بالنيولبرالية الاقتصادية) بعد أن كانت قد اضطرت، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى اكتساب وجه إنساني تمثل في توسيع نطاق دولة الرعاية الاجتماعية ومحاولة تسخير الاقتصاد الرأسمالي لخدمة المجتمع الليبرالي، لا العكس. كانت تاتشر تأخذ ريغان «على قد عقله»، كما يقول التعبير العامي. كما أنه قد كان لها مع خلفه بوش الأب، بعد غزو الكويت، مواقف تدل على استعلائها على هؤلاء الرؤساء الأمريكان المتوسطي الحال.
أما اليوم فإن ساكن البيت الأبيض لا يرقى إلى درجة المتوسط، بل إنه لا يرقى إلى مستوى المواطن العادي في أي بلاد. ولكن رغم ذلك فإن رئيسة الوزراء تيريزا ماي لا تقوى على أن تفكر مجرد التفكير في أن تعامله بمثل معاملة تاتشر لريغان. إذ لم يكتف أبو جهل الأمريكي هذا بأن أعاد نشر ثلاث تغريدات تويترية لرابطة «بريطانيا أولا» العنصرية اليمينية المتطرفة رغم (أو بالأحرى بسبب) أن هذه التغريدات (مقاطع فيديو) تقطر كراهية ضد الإسلام والمسلمين. لم يكتف بذلك، بل إنه خاطب تيريزا ماي بعد أن قالت، على استحياء شديد، إن ترامب «أخطأ» بإعادة نشر التغريدات: «لا تركزي عليّ أنا، بل ركزي على الإرهاب الإسلامي الراديكالي التدميري الذي يحدث داخل المملكة المتحدة. أما نحن فإننا نتدبر أمرنا أحسن التدبير».
لهذا حق لعضوي مجلس العموم بول فلين وناز شاه أن يتساءلا إن لم يكن من الواجب اعتقال الرجل، إذا جاء إلى بريطانيا، بتهمة التحريض على الكراهية العرقية. كما نادى بيتر بون بوجوب أن يحذف ترامب حسابه على «تويتر»، فإذا بوزيرة الداخلية أمبر راد تتجرأ وتقول «إني واثقة أن كثيرا منا يوافقونك الرأي». وأثار تيم لوتن قضية جوهرية عندما قال إنه لو كانت مؤسسة «تويتر» جادة حقا في مكافحة جرائم الكراهية على الانترنت، كما تقول، فلماذا لا تسارع إلى حذف حساب الرئيس الأمريكي؟ أما اقتراحنا نحن فهو أن يقتاد الرجل إلى مصحة لعلاج الإدمان «التويتري»، ريثما تثوب أمريكا إلى بعض رشدها فتنهي هذه المسخرة الديمقراطية: مسخرة انتصار الجهل على العقل.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
رؤساء آخر زمن بالرغم من أن هذه اللعبة هي الرابحة في وقتنا الحاضر
رؤساء آخر زمان بالرغم من أنه في وقتنا الحاضر هذه هي اللعبة الرابحة الاتصال عبر مواقع التواصل والتي لها تأثير بالغ الأهمية.