التحديق التأمّلي في البشر والفضاءات المكانية لا يعني فقط أن كمال داود قد قرأ رواية «الغريب» كقارئ، بل كصاحب حق يرى أن الرواية لا تختصر سيرة ناسه، ولا يمكنه قبول اختزالهم في مقتل شخص بلا اسم، ولذلك يتفنن في توليد الجُمل المفتاحية، في روايته «مُعارضة الغريب»، التي تتماهى مع جُملة البير كامو العبثية، وتخالفها في المقاصد «اليوم، هرمت أمّي حتى باتت تشبه أمّها، أو ربّما جدّة أمّها، أو جدّة جدتها»، وكأنه يستذكر سيرة السلالة التي لا تموت بموت أحد أبنائها، أو كما يصفها «مجلس من الأسلاف المجتمعين في وجه واحد»، لأن مرسو انقطعت صلته بالأرض بعد موت أمّه، أما هارون فهو على صلة بأرضه ما دامت أمّه على قيد الحياة، وإن كانت صلته واهنة كصحة أمّه «نادراً ما أزور أمّي اليوم، فهي تسكن بيتاً تحت السماء تحوم حوله جثة وشجرة ليمون حامض وتمضي نهارها في كنس كل زاوية فيه، هي تمحو الآثار، آثار مَنْ؟».
وهكذا يكمل سيرة الأسرة ومأساة الوطن المحتل «البيت ملك لأسرة مستوطنين غادروا على عجل وتمكنّا من احتلاله في الأيام الأولى من الاستقلال… لقد استغرق الأمر على ما أظن عشر سنوات، لكي نضع يدنا على البيت ونعلنه محرّرًا، ملكنا! نعم، نعم، قمنا بما فعله الجميع»، وهنا ستُدفن الأم، في المكان الذي يتوحش هارون من الارتياد إليه «ولكم أخشى يوما اضطراريا إلى العودة إليه لدفن أمي، هي التي يبدو أنها لا تريد أن تموت»، وهنا يطرح جدلية جارحة عندما يوجه تساؤلاته للشاب الفرنسي عن مكان دفن أمّ مورسو، وعن ضياع مورسو نفسه وتيهه بعد وفاة أمّه، إذ لا قبر لها ولا لأحد من المستوطنين، لأنهم عندما يهربون «يخلفون لنا ثلاثة أشياء: العظام والطرقات والكلمات، أو القتلى».
الأرض الأم الوطن الثورة والمقاومة متوالية تأصيلة جعلت السرد يقترب من الحالة الشعرية، حيث تتدافع التصورات ببلاغة جمالية فائضة، لتتحشد في مشاهد ذات مغزى حول سيناريوهات متخيّلة لجنازة موسى ولحداد أمّه ولتعاطف الجيران وانتباهة الجزائر كلها إلى شهيد الوطن، فيما يبدو براعة في (اختلاق) قصة من العدم، أو من الاتكاء على طرف خيط في واقعة، وعليه، يتمنى لو أن أمّه هي التي تحكي لأنها ملفّقة كبيرة، وهي أقدر على اختلاق القصص «هي لا تعرف القراءة، وكانت تكذب، ليس بقصد التضليل، بل بغية تصحيح الواقع والتخفيف من العبثية التي ضربت عالمها وعالمي، لقد دمرها اختفاء موسى»، لدرجة أنها كانت تقسم بأنها عثرت على جثته، أو سمعت أنفاسه، أو خطاه، أو عرفت آثار حذائه،
وعلى الرغم من كل ذلك الفيض الشاعري في سرد كمال داود، إلا أنه لا يقدم نصه برخاوة ورومانسية المنكسر، بل بمتانة أقرب إلى مسرح القسوة، إذ لا يتوانى هارون عن القول بأنه لن يسامح أمّه لأنها جعلته غرضاً بين يديها، لأن كل عواطفها دُفنت مع موسى «يعاودني تكراراً دبيبها تحت جلدي، وطريقتها في تولي الكلام بدلاً عني عندما يزورنا أحد، وقوتها وأذاها ونظرتها المجنونة عندما يتملكها الغضب»، والأصعب أنها فرضت عليه واجب تقمّص موسى «راحت تلبسني ثياب المرحوم، وإن كانت فضفاضة عليّ، ثيابه التحتية وقمصانه وأحذيته، إلى أن بليت كلياً»، وكأنها تعيش حالة إنكار مستمرة ولا تريد أن تصدق موته، حيث كونا ثنائياً غريباً لذرع شوارع العاصمة، بحثاً عن منشأ القاتل وبيته، على إيقاع انقياده لتكليفها الصامت.
ليس في رواية «الغريب» كلمة واحدة عن القتيل، ولذلك يبدو البحث عن جثة موسى عند الشاب الفرنسي عبئاً على هارون، الذي يريد التخلص من هذه الجثة حتى يستعيد حنان أمّه المفقود «لكي أتصالح مع جسدي وحواسي»، حيث تأخذ الحبكة منحى فرعياً مغايراً، إذ يبلغ العبث أقصاه بزيارات يوم الجمعة لقبر موسى الفارغ، القبر الذي تملأه أمّه «بصلواتها وبسيرة حياة مغلوطة»، وفيما كانت الأم تبكي وتتبتل قبالة القبر الخاوي، كان هارون يصرخ بصمت، وسط النعناع النامي بين الأشجار والممرات المتعرّجة وشواهد القبور الرخامية، أن يدعه يعيش بسلام. ويبدو أن كمال داود لا يريد أن يترك أي تفصيلة مهما بدت صغيرة بدون أن يرد عليها بمراياه العاكسة، فالرواية منصة مساءلة مضادة وليست مجرد تعليق عابر على حدث عام، حيث يوجه التساؤلات بحدة إلى البير كامو مباشرة ويمارس الحفر العميق في لاوعيه «لماذا اختار مومساً؟ ألكي يشوِّه ذكرى موسى ويلوثها ويخفّف بذلك من فداحة غلطته؟»، وكيف يُقدم موسى كمتبطل على الشاطئ ولا يُشار إلى مورسو بهذه الصفة؟ الذي يعيش أصلاً «بطالة فتّاكة»، وكم تمنى لو يقدر على «إعادة عقارب الزمن إلى الوراء وصولاً إلى ذلك النهار من صيف 1942 فأمنع جميع العرب في هذا البلد من النزول على الشاطئ لمدة ساعتين»، حتى الفرنسي الذي قتله اختارته أمّه «لأنه كان مولعاً بالسباحة عند الثانية ظهراً! فيعود من هناك مسمراً خليّ البال»، وكأنه لم يقتل شخصاً، بل أراد الإجهاز على حالة، لأن كمال داود لم يكن يقرأ رواية «الغريب» بل كان يفحص الواقع ويحلّله،
ولأن رواية كمال داود تأتي بعد عقود من رواية «الغريب» وتداعياتها الأدبية والحياتية، كان لا بد له أن يرسم الخلفية التي تتحرك عليها مخلوقات الجزائر وتعاقب الأجيال، فهو لم يصمّم نصه كبكائية عند عتبة اللحظة الاستعمارية، بقدر ما أرادها قراءة متدحرجة لإنسان الجزائر، من خلال المرور بغريب البير كامو، وتلك هي حيلته الفنية، إذ لا يخفي هارون – كراوٍ – بما هو صوت الروائي تأفّفه من مظاهر التدين الزائدة عن الحد التي تشير إلى تغيرات بنيوية عميقة في المجتمع، كما يفصح عن ذلك الإحساس بالضيق من خلال مقاطع متكررة «أنا لا أحب يوم الجمعة خصوصاً، غالباً أمضي هذا اليوم من الأسبوع على شرفة شقتي أنظر إلى الشارع والناس والمسجد، مسجد من الضخامة بحيث أنني أحس أنه يحجب رؤية الله»، كما يستدعي في مشهد آخر عناده لمحاولات أمه لدفعه للذهاب إلى مسجد الحي الذي يعتبر إلى حدٍّ ما (حضانة)، وكأنه بتلك المفصلة يرسم الخط البياني للتحولات الحاصلة في الجزائر.
تلك الإشارت ليست مجرد توصيفات مظهرية، بل هي منظومة من الأفكار التي تهيكل النص، حيث لا يخفي كمال داوود معتقداته، بل يطرحها بجرأة وشفافية، فمنذ أول صفحات الرواية يفصح عن افتتانه بالفرنسية وعدم رضاه عما آل إليه ناسه، من خلال تأكيده على النزعة الفرانكفونية وانحياز بطله إلى لغة المستعمر، كما يبدو من العبارات التي تكشف عن سر كتابة الرواية بالفرنسية «العرب، تلك الكائنات الضبابية غير اللائقة، الآتية من زمن ماض وكأنها أشباح، لغتها الوحيدة لحن مزمار»، فالكلمات المتلفظ بها يُراد من خلالها توليد إحساس من نوع ما، وهي هنا تملك قوة خلق الأحداث والحالات، فهو يكتب من داخل اللغة وليس بها، من داخل الغنيمة، وإذا كانت أمّ موسى قد اكتفت بالبيت، فقد أراد هو اللغة التي هي بيت الكائن بتعبير هايدجر، أي حيث يقيم شعورياً وفكرياً.
هكذا انزاح هارون قليلاً عن قصة مقتل أخيه ليتأمل «الأجيال الجديدة المتزايدة باطّراد، تدفع الأجيال القديمة إلى حافة الهاوية، ويبدو الأمر شائناً لكنني أحس بشيء من الكراهية تجاههم»، وليندفع في سرد تفاصيلهم المظهرية وممارساتهم الشكلية، حيث الذوات المسترخية المهملة وانعدام الذوق، وليعبر على صورة أبيه الغائبة، وسيرته هو مع النساء اللاتي لم يستطعن تحريره لا من أمّه ولا من الغضب، غضبه الدفين، حيث يضع مشهد الشعب المتقاتل مع نفسه قبالة «مشهد الشاطئ المتوهج، والأثر الضائع لجثة موسى» فيما يبدو أنه يحاول ترميزه بركام من العلامات التي يستزرعها في سياقات النص.
ولا يبدو أن كمال داود في وارد حبكنة نصه بشخصيات وأحداث معقدة، بقدر ما أراد روايته حالة مونولوغية مسترسلة تأخذ شكل الحبكات الصغيرة المتشابكة، من خلال إعادة تمثيل سيناريوهات مقتل موسى – مثلاً – وتدبير مشاهد قتل مضادة، قتل عسكري فرنسي على خلفية ما رسمه من المعالم القديمة للمدينة والشاطئ، وكأنه يرتد بشكل عمودي داخل الزمن، ليسرد بشكل أفقي واقعة قتل مخلّدة أدبياً، وتحمل في طياتها ارتدادات واقعية أعمق مما تبدو عليه مجازياً، ليصل إلى لحظة انتصار الثورة الجزائرية، وطرد من يسميهم بأمثال مورسو، واستيلاء أسرته على بيت أحد المستوطنين، وعدم تجرؤهم على دخول الغرف الرئيسية، ثم تلمّس الأواني (بأصابع منفعلة)، خوفاً من أن يعود أصحاب البيت، وقصة القتل التي ارتكبها بحق جوزيف، ففي الحقبة التي قتل فيها حسب تعبير هارون «لم يكن لله، في هذا البلد، وجود ضاغط بقدر ما هو عليه اليوم».
وبما يشبه الإعلان الإنكاري عن استراتيجية النص يهذي هارون «على فكرة، هل تعلم، أنا لم أكترث يوماً بتأليف كتاب، لكنّي أحلم بالمجازفة، بكتاب واحد وحسب! إياك من التوهّم! أنا لا أقصد تحقيقاً مضاداً حول قضية صاحبك مورسو»، ليعيد تأكيده على افتتانه بقصة «الغريب» التي يحملها الشاب كتعويذة، وهو هنا يحاول أن يعارضها بشدة «وأنا أستعيد الإحساس البدائيّ، أدركت لوهلة، عبقرية بطلك وهو يمزق لغة الحياة اليومية العادية لتنبعث في الضفّة الأخرى من المملكة، حيث تترصّد لغة أكثر إثارة لتروي العالم بطريقة مختلفة، هذا ما في الأمر! فإذا كان بطلك يروي بهذا الإتقان مقتل أخي، فذلك لأنه بلغ فضاء لغة غير معروفة، آسرة أكثر ولا ترحم في نحت صخر الكلمات، جليلة كالهندسة الإقليدية، أعتقد أن هذا هو الأسلوب العظيم، أي أن تتكلّم بالدّقة المتزمّتة التي تفرضها عليك اللحظات الأخيرة من حياتك».
وبمنتهى الفصاحة يعلنها هارون «لم أتعلم القراءة كي أُحسن التكلّم كالآخرين، إنما للعثور على قاتل»، بما تحمله هذه العبارة من ظلال كثيفة للرد على الآخر المستعمر، حيث يصف لحظات التهجي الأولى بعبارات درامية ساطية «عندما رأتني أمّي للمرّة الأولى أخطّ أولى حروف الأبجدية على دفتري المدرسي الجديد، ناولتني قصاصتي الجريدة وأمرتني بقراءتهما، فلم أقدر، لم أعرف، فلامتني قائلة: هذا أخوك، كما لو أنّه كان عليّ التعرّف على جثة في مشرحة، لزمت الصمت، ما الذي يمكنني أن أضيفه؟ أدركت فوراً ما الذي كانت تتوقعه مني، أن أُحيي موسى بعد موته، أن أعيش عنه»، وهكذا بات تعلّمه للغة مطبوعاً بالموت، واستولد كمال داود عائلة «موسى ولد العسّاس».
عندما جاءت مريم من المدينة لتنبش قبورهم، أرادت تقصي واقعة مقتل موسى، وقد أحبها هارون «كأن موسى قام بطريقة ما قام من الموت»، لكنه كرهها لأنها دخلت عالمه لتتعقب آثار ميت انطلاقاً من باب الواد، حيث يصف ببراعة جارحة اللحظة الأولى التي وقعت فيها عينه على غلاف رواية «الغريب» التي كانت تحملها، وأول لمحة لاسم القاتل، وكيف تفوهّت أمّه حينها بعفوية «مكتوب»، فكل العالم كان يعرف «القاتل، وجهه، نظرته، أماراته، وحتّى ملابسه» ما عدا العربي البائس في مصلحة تفتيش الأملاك العامة ووالدته. وهكذا شرع في قراءة ما يسميه بالكتاب اللعين، وبمعنى أدق جرّعته إياه مريم مع الحب «تقدمت ببطء في قراءتي، لكنني كنت كالمفتون، في الوقت نفسه شعرت بالإهانة، وباكتشاف ذاتي، ليلة كاملة أمضيتها في القراءة كمن يقرأ كتاب الله نفسه، وقلبي ينبض بقوة حتى الاختناق، صدمة حقيقية، ورد فيه كل شيء إلا الأساس: اسم موسى!»، فيما وردت كلمة «العربي» خمساً وعشرين مرة، وربما لهذا تعمّد كمال داود إخراس الشاب الفرنسي، استكمالاً للعبة المرايا، من خلال (كتاب لا أحد يسمع فيه أحد) بين شاب ذي نظرات مشكّكة ومدمن خمرة عجوز لا يملك أي إثبات على ما يقوله، وأنه مخنوق بصرخة في وجه العالم «إنني شقيق موسى، وبأننا، أمّي وأنّا، الأبطال الحقيقيون الوحيدون لتلك القصة التي أصبحت مشهورة، لكن من كان ليصدّقنا؟».
٭ كاتب سعودي
محمد العباس
الاستاذ المحترم: قراءه نقدية جميلة، فتحت الباب للدخول الى متون الرواية بعد ان استفزت هذه القراءةالنقدية القارىء، لقراءة الرواية لأستكمل الفائدة والمتعة…. مع تحيتي