حصل الشاعر نزار قباني على «الجنسية اللبنانية» بعد طول معاناة في حقل تجديد «بطاقة الإقامة» في بيروت وتأسيس «دار نشر» فيها. وكرس بعد حصوله على البطاقة مقالة لمديح رئيس الجمهورية، وعنوانها «رئيس جمهورية العصافير» وفيها يسبغ على الرئيس بعض صفات أرباب «الأولمب» الإغريق تسديداً لـ»فاتورة» الجنسية!.
غضبت لذلك. فقد كان في لبنان حكم ديمقراطي بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن مديح الرئيس على هذا النحو، أي رئيس، جيدا كان أم لا، يجعل الحاكم ضيق الصدر بأي كلمة نقد، حتى لو كانت محقة.. فالمديح نوع من «الأفيون» الخطر، يتسبب في الاعتقاد التدريجي لدى الحاكم بأنه «الأعظم والأوحد» وعلى الجميع طاعته، والصراخ «بالروح والدم» نفديك، ومن لا يفعل هو بالتأكيد «خائن وعميل»، وهي صفات تخترعها الحاشية المتملقة لمن لا ينضم إليها في مديح «السلطان».. فالأديب والمفكر والشاعر كلهم يدين بولائه للحقيقة أولاً.. إنه عميل للصدق وجاسوس لكشف الحقائق.
أفيون المديح المتملق
وهكذا كتبت في المنبر نفسه ضد مديح نزار من دون أن أسميه تحت عنوان «أيها الشعراء.. لا تمدحوا.. وسطرت كلمة قاسية ضد مديح الحاكم، أي حاكم، حتى لو كان جيداً، كي لا نُربي لديه طبعاً خطراً هو «رفض النقد»، ويتورم غروره فهو بشر. ويأتي يوم لا ينصت فيه للصوت الحقيقي للناس وهمومهم ويضيق الشعب به وينفجر ويطيح به وبعدما (ألّهه) يقتله.. هذا على العكس من الشعوب الديمقراطية حيث يستحيل مثلاً أن تقرأ قصيدة في مديح الرئيس الفرنسي أولاند، أو ان تسمع تظاهرة تفديه بالروح والدم، وعبادة الفرد مدعاة للسخرية.
وهكذا توقعت شجاراً من شجاراتي مع قريبي نزار قباني، ولذا دهشت كثيراً لأن نزار لم يشر بكلمة إلى مقالتي كأنه لم يطالعها أو انه تجاهل الأمر.. أو لعله وجدني على حق!!.
ودهشت ثانية لأن العقاب لم يأت منه بل جاء من «وزارة الإعلام العراقية» حيث تم منع كتابي الذي نشرت فيه المقال «أيها الشعراء لا تمدحوا»، فقد كان الشعراء يتبارون في مديح الحاكم يومئذ. ذلك لم يثنني عن مرافقة زوجي في زيارته إلى بغداد بعد عام.
الموظف منع والوزير لا يدري!
حللت مع زوجي في «فندق بغداد» وفوجئت بزيارة شاعر سوري ربطتني به مودة، منذ أيامنا في دمشق، وكان غاضبا جداً. وفهمت منه أنه موظف في (الإعلام) وبعثي مقيم في بغداد، وعاتبني بحدة على مقالي هذا وعلى مقال آخر في الكتاب بعنوان «الناس لا تبتسم بمرسوم». إذ صدر يومها هناك قرار بمنع «الأدب المظلم وتشجيع الأدب المضيء». وكتبت وأدباء لبنانيين آخرين، منهم الشاعر الراحل عصام محفوظ، ضد ذلك التعبير الملتبس. وفي معركة أدبية ردوا علينا ورددنا عليهم.
وكان ضيفي غارقاً في تأنيبي وتبرير منع كتابي، بدلاً من الاعتذار حين فوجئ بدخول الوزير الشاعر شفيق الكمالي (وزيره) قادماً للتعــــارف والترحاب بي. والمقصود مما تقدم القول ان البعــض يزايد على السلطان في القمع والمنع، والسلطان قد لا يعرف في البداية ما يدور باسمه، ويتوهم أن كل شيء على ما يرام ويألف المديح، وبعد فترة تطول أو تقصر (يقصف عمر) من لا يدين له بالولاء الأعمى ويصدق أنه الملهَم والأوحد!.
عدم احترام شعور الأديب
ومنذ أعوام تلقيت، والكثير من الأدباء العــرب، دعوة لزيارة بلد عربي يريد حاكمه التعارف مع الأدباء بمناسبة مؤتمر إبداعي.
أنا شخصياً اعتذرت لأنني أباهي بأمر واحد في حياتي المليئة بالأخطاء، وهو أنني لم أمدح في عمري الأدبي كله حاكماً، حتى إذا كنت معجبة به، خوفاً من المساهمة في إفساده بالغرور.
وذهب الكثيرون ومن بينهم العروبي د. محي الدين صبحي، الذي مرّ بعدها بباريس والتقينا وقال: حسناً فعلت بعدم المجيء. فقد قابلنا الحاكم بعد انتظار ساعات في الحر الخانق في الصحراء، تحت خيمة، وبعد معاناة في سيارة النقل طوال ساعتين حتى وصلنا إلى الخيمة.
وفي نظري ذلك مرفوض.
إنها «قلة الاحترام» كما يشي سلوك الرئيس الذي جاء بالأدباء ليذلهم. وعلى الرغم من ذلك ظفر الحاكم بعدها بالعديد من مقالات المديح التي أعاد نشرها المعارضون بعد سقوطه، من قبيل التشهير بالأدباء، فهم الذين يشجعون السلطان على الاستبداد ويساهمون في «صناعة الطغاة».
نحن نصنع الديكتاتور
اعتقد ان الحاكم العربي الذي يتحول إلى ديكتاتور لا يلام وحده، بل ثمة منظومة عربية نفسية مهيأة لفكرة عبادة الفرد ومن مظاهرها مديح الأدباء للحاكم.. وبالتالي أعتقد ان التقاليد الفكرية والنفسية للناس التي تفرز (مديحاً) هي أحد «معامل صناعة الطغاة» التي برعنا فيها كعرب.. وأننا مسؤولون عن أفعال الديكتاتور وهي أفعال نرفضها فيما بعد، ولا يخطر ببالنا مدى مسؤوليتنا عنها من الموظف الصغير الذي منع كتابي، بينما جاء وزيره للترحاب بي ومروراً بعقلنا العربي في الممارسات اليومية، حيث نرفض الرأي الآخر، بل لا نستمع إليه، فتهمة الخيانة جاهزة لإسكات صاحبه.
وتحل بنا الكوارث ونرمي بالمسؤولية على الحاكم وننسى مسؤوليتنا عن بؤسنا وسوء أحوالنا.. ومهارتنا في تشييد معامل صنع الطغاة.
وبعد سقوط كل حاكم يتم التشهير بمن مدحه من الأدباء والشعراء ومحاكمة من عمل معه، وننسى ان ما كتبوه وفعلوه هو الإفراز الطبيعي للعقل العربي الرافض لاحترام المختلف والإنصات إليه ومحاورته بغير إسكاته ومقاطعته، ومنع كتبه أو تحطيم الميكروفون على رأسه.
غادة السمان
مقال في غاية الاهمية من غادة السمان و نشكر القدس العربي لنشره
النفاق هو بمدح الحاكم بما هو ليس فيه
أما المديح بحق فهو نوع من المعروف
وخير مديح لمسلم هو جزاك الله خيرا
حين طعن الخليفة عمر كان هناك الكثير من مدحه ونصحه ودعا له
لكن رجلا شذ عن الزائرين بنصيحة أغضبت عمر
فقد قال له الرجل استخلف ابنك عبد الله
فأجابه عمر ما أردت الله بهذا
ولا حول ولا قوة الا بالله
لقد صدقت يا سيدتي الكريمة.البطانة الفاسدة هي السبب الرئيسي لتجبر الديكتاتور إلى حد فرعنته.هذه البطانة هي التي منحت للطاغية كل أسباب القوة من جيش وشرطة وغيرها من السلط الدينية والدنيوية ليبطش بشعبه ويفعل ما يشاء به من دون حسيب ولا رقيب وكأنه يدير شركة في ملكه الخاص أو مزرعة من مزارعه.ومن المضحك والمبكي معا يضاف لهذه الفئة المتملقة للديكتاتور حتى الشعوب التي تزيد في تغول الطاغية بالهتاف به “بالروح بالدم نفديك يا فلان” أو “لبيك يا فلان” وكأن هذه الشعوب تعيش في بحبوحة ونعيم وحرية ليس هناك لا جهل ولا أمية ولا سجون ولا معتقلات حتى تهتف بالطاغية مما يمعن في تألهه ويفكر في توريت البلاد والعباد لأبنائه بعدما أيقن أنه سيبقى خالدا مخلدا على كرسيه كما فعل القذافي الذي أستطيع أن أخمن أنه هو الذي تقصدينه يا أستادة غادة في استقباله لهؤلاء الأدباء المنافقين.ولعل الله تبارك وتعالى أراد أن يعاقب شعوب الربيع العربي أشد العقاب من جبروت الطغيان الذين صنعناهم لعلنا نصحو من غفويتا ونرجع إلى الطريق الصحيح لأنه لا تلبية ولا استعانة إلا بالله رب العالمين خالق كل شيء وقاهر كل الجبابرة.
تحت حكم الدكتاتورية ، الأدب والشعر والفنون كلها مسخرة لخدمة النظام . فكم من الأدباء والشعراء والفنانين سُحقوا أجتماعيا وثقافيا ، ومنهم ممن غادروا بلدانهم لأنهم لم يستطيعوا ان يْخالفوا ويخونوا ذاتهم ويتغزلوا بالحاكم . بينما هنالك منهم ممن فهم وأتقن أُصول اللعبة وباع نفسه ووصل لشهرة لايستحقها .
اما الشاعر نزار قباني ، كان هو حاكم نفسه وسلطانها . وصراحة قصائده خلقت له أعداء وخصوم من كل الجهات . لأنه كان ولايزال بقصائده ، لسان ضميرالأمة العربية .
كل الاحترام والتقدير للأديبة الراقية غادة السمان على أمانة ومسؤولية الالتزام الفكري في كل كتاباتها ، لصياغة أذهاننا ورُقيها .
أفانين كبة
مونتريال
و لما ثارت الشعوب أخيرا و أطردت بعض الطغات نجد هناك من نفس الادباء من يشكك فى “جدوى” هذه الثورات.سبحان الله .
بسم الله الرحمن الرحيم.
لقد كنت أشاهد بدهشة غريبة اخواننا العراقين وهم يهتفون للراحل صدام حسين, بالدم بالروح نفديك ياصدام, ولما سقط صدام وسقطت تماثيله إنهالوا على تمثاله يضربونه على وجهه بالأحذية, هذا كله تصديقآ لرأي السيدة كاتبة هذا المقال, وهو مقال رائع.
شكراً سيدة غادة للموضوع المهم الذي أثرته. أذكر عندما زار حافظ الأسد مدينة جبلة سنة 1970 بعيد استيلائه على رئاسة الجمهورية نزل العلويين من قراهم زرافات زرافات وأخذوا يصدحون بأعلى حناجرهم شعارات جلها أقرب إلى التأليه له أذكر من ذلك: حيًدوا ( أبعدوا عن طريقنا) نحن البعثية حيًدوا , حافظ أسد قبل الله نعبدوا. وهذا ما صارت إليه الأمور بعده في إبنه وقد وجدنا الشبيحة خلال الثورة تجبر الناس على السجود لبشار الأ…….
هذا هو دور لبنان التاريخي في احتضان الادمغة العربية على اختلاف وتنوع انتاجها
المثقف انسان واع مفكر حر لا يمكن ان يكون تابعا لسياسي حتى لو كان متفقا معه مبدئيا. المثقف هو بطبيعته ناقد للسياسي موجه له لانه ببساطة في مرتبة فكرية اعلى و مجاله ارحب. فاذا انقلبت الادوار و صار السياسي هو الموجه للمثقف ضاع الامر كله. و اضحى المثقف منافقا او مدعيا للثقافة. وهو واقع نراه في كل المجالات من الجامعة الى الجامع الى الاعلام .
للاسف فان نفاق المثقفين و ادعياء الثقافة قديم، و لكنه زاد كثيرا ايام الدولة الامنية. ثم تضاعف مع التحول الرأسمالي، وخاصة في مجال الاعلام حتى يكاد الامر ان اي صحفي مشهور لا يتكلم الا بأجر او منفعة. بل ان الصحفي لا يمكنه الارتقاء على المنابر الاعلامية الا اذا كان تابعا او متعاقدا مع احد مراكز القوى من المخابرات او الجيش او الاحزاب الموالية للسلطة او ما يسمى برجال الاعمال .