من الذاكرة اقول: وقع تحت يدي وانا تلميذ في «المدرسة الثانوية البلدية» في مدينة الناصرة، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، احد اعداد مجلة «مع وضد» التي كانت تصدرها نقابة المعلمين في اسرائيل باللغة العبرية. أُعجبت بفكرة المجلة كثيرا، كما في العديد من موادها ومواضيعها، فرحت اتابعها ونجحت في الحصول والاطلاع على العديد من اعدادها اللاحقة.
كان غلاف المجلة، مقسوما بالطول إلى نصفين، احدهما ابيض، مكتوب عليه باللون الاسود كلمة «مع» باللغة العبرية (بِعاد)، وثانيهما أسود، مكتوب عليه باللون الابيض كلمة «ضد» باللغة العبرية ايضا( نيغد). وجميع المواضيع المنشورة في المجلة تتم مناقشتها وعرضها من وجهتي نظر متناقضتين. فواحدة مؤيدة للفكرة او القضية المطروحة في المقال، وثانية معارضة لتلك الفكرة او القضية.
في العام 1959، وبعد انتخاب الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول رئيسا لفرنسا، في ما سمي لاحقا «الجمهورية الخامسة»، تضمن احد اعداد المجلة مقالين عن ديغول، واحد يرى في ذلك امرا ايجابيا يفيد اسرائيل، وآخر يرى في ذلك تطورا سلبيا يلحق الضرر باسرائيل. في ذلك الزمن كانت فرنسا هي المصدر الاول لتسليح اسرائيل، وخاصة على صعيد سلاح الطيران، (طائرات الميراج)، وبناء المفاعل النووي في ديمونا. وكانت فرنسا شريكا لاسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بسبب دعم مصر عبد الناصر للثورة الجزائرية ضد الاستعمارالفرنسي للجزائر، واعتبارها الجزء الجنوبي من التراب الفرنسي الذي يفصله البحر الابيض المتوسط عن الجزء الشمالي؛ وتعزيزا لهذه النظرة الاستعمارية، سمحت، بل وشجعت ودعمت اقامة اكثر من مليون فرنسي مستعمر/مستوطن على ارض الجزائر. وقصة زيارة موشي ديان، رئيس اركان الجيش الاسرائيلي إلى الجزائر، للاطلاع على اساليب وعمليات جيش الاستعمار الفرنسي هناك، وتبادل الخبرات بين الجيشين، هي قصة معروفة ومشهورة.
تضمن المقال الايجابي عن ديغول في تلك المجلة فقرة طويلة تحدث فيها الكاتب عن احدى صفات الزعيم الفرنسي، تعود إلى مطلع القرن العشرين، عندما كان ديغول طالبا في الكلية الحربية الفرنسية. نشر الشاب ديغول في «مجلة الحائط» في الكلية الحربية مقالا تحدث فيه عن صفات «القائد»، والطريقة التي يجدر به التصرف بموجبها مع مرؤوسيه، ليضمن تحقيق ما يضعه من اهداف. وشكّل محتوى تلك الفقرة دافعا لقائد الكلية الحربية الفرنسية للتنبّؤ بان للطالب/الضابط شارل ديغول شأنا ودورا كبيرا في المستقبل. وشكّل ذلك المحتوى، بالنسبة لي، درساً واداة تقييم لكل اداء اتابعه، وخاصة على صعيد العمل العام.
يقول الشاب ديغول في مقاله، ان ضمان النجاح في انجاز القائد للمهمة الموكل بها، يستدعي ان لا يبالغ في التواضع في تعامله مع مرؤوسيه إلى درجة الانخراط بينهم، لانه يخسر دوره كقائد، وانه يتوجب عليه حفظ مسافة يتقدم بها عليهم، ليضمن لنفسه امكانية تحديد اتجاه التقدّم، ولان انخراطه في صفوف مرؤوسيه يعطي امكانية لأي فرد منهم ان يتقدم بالاتجاه الذي يراه، فتصبح امكانية تحقيق الهدف في مهب الريح. والى ذلك يضيف ان تقدم «القائد» عن مرؤوسيه إلى مسافة مبالغ بها، تحول دون امكانية وصول اوامره لهم، ويصبح هو في واد وهم في واد آخر، فيفقد بذلك القدرة على التحكم والسيطرة، ويصبح تحقيق الهدف، مرة اخرى، في مهب الريح. ولهذا يتوجب على من يتولى القيادة ان يتقدم خطوات معدودة فقط على من يقودهم، ليتمكن من تحديد الاتجاه، وليتمكن في الوقت نفسه من ايصال رـأيه واوامره لمن يقودهم.
اين هو الرئيس الفلسطيني ابو مازن من هذا الدرس؟.
لم يحن بعد أوان تقييم عهد ابو مازن، بكل ما له، وبكل ما عليه. ولكن القاء نظرة سريعة على اداء مجمل العمل الوطني الفلسطيني، في منظمة التحرير، وفي السلطة الوطنية، منذ تسلمه القيادة والموقع الاول مطلع العام 2005 وحتى الآن، تكشف خللا باديا وواضحا للعيان، حتى على صعيد قضايا ومواقف وسياسات هو مُحقّ فيها تماما. امثلة ذلك كثيرة، منها مثلا مسألة الإحالات على التقاعد للعديد من القيادات والكوادر من حركة فتح ومن غيرها. فمع ان الاحالة للتقاعد امر بالغ الضرورة لرفد التنظيم او الادارات او قوات الامن بدماء جديدة لا مجال لاستيعابها دون تقاعد الاكبر سنا، الا ان شرط نجاح هذا التوجه، وقبول هذا القرار، هو ضرورة ان يتم بشكل يضمن انتقال ما تراكم من خبرات في الجيل الاول (المتقاعد) إلى الجيل (المُستوعَب) الذي يليه، وهذا ما لم يكن واقع الحال، بل ان غالبية من تم استيعابهم، بدل المتقاعدين، اتوا من خارج مدرسة العمل الوطني، مدرسة مرحلة الكفاح المسلح والنضال الجدي في كافة ساحات وأصعدة العمل الوطني. وبكلمات اخرى: تم ابعاد «الشركاء» الذين تطوعوا للنضال الوطني زمن المخاطر الجدية والصعوبات والعقبات، بموظفين ومجنّدين مرحب بهم، بالتأكيد، ولكن بعد ترسيخ فكر الثورة والنضال الفلسطيني العادل المشروع في أذهانهم.
من هنا إلى مثل فاقع آخر: اذ رغم ان مجمل طريقة وسياسة ابو مازن في التعامل والتعاطي مع الساحة الاسرائيلية، من حكومة نتنياهو اليمينية العنصرية، إلى تيارات في المجتمع اليهودي الاسرائيلي مؤيدة ومناصرة للحقوق الوطنية الفلسطينية، او بعضها على الأقل، وصولا إلى التعامل مع الجماهير الفلسطينية في اسرائيل، ومن تفرزهم وتنتخبهم من قيادات، هي سياسة تأخذ الواقع بعين الاعتبار: واقع موازين القوى (!) بين فلسطين واسرائيل، وواقع العالم العربي، وأهم من ذلك: الواقع الدولي، ومقاييس العصر ولغته وقواعد تعامله؛ الا انه بالغ في اعطاء الوزن لهذا الواقع على حساب الواقع الفلسطيني، ومشاعر الفلسطينيين المُحقّة، فخسر دعم الجماهير الفلسطينية لتوجهاته وسياسته، لانقطاع صلته بهذه الجماهير، وضعفه اضافة لضعف وركاكة من اختارهم لاداراته، واصبح مثل قائد يقود جنرالات بلا جنود.
اما على صعيد التواصل والتعاون مع رفاق المسيرة والدرب، فان الفشل اكثر من واضح: انه مقلق.
سأل اعرابي معاوية بن ابي سفيان: «كيف حكمت الشام اربعين سنة ولم تحدث فتنة، والدنيا تغلي؟». فقال: «إني لا اضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا اضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. كانوا إذا مدوها ارخيتها، وأن ارخوها مددتها». فهل حبل لم ينقطع مع الألد من أعداء الشعب الفلسطيني، يلغي أهمية شَعرات تنقطع مع رفاق مسيرة في فتح، وفي تنظيمات وفصائل وطنية، ووطنيين مستقلين لا يجوز تجاوزهم؟ وهل السيف قبل السوط حكمة؟ ام تُرى السوط قبل اللسان فصاحة؟
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور