ربما يكون الحديث القصير المتداول بين الفنانة سناء جميل (الأم) والفنان أحمد زكي (سيد- الابن) في فيلم «إضحك الصورة تطلع حلوة – 1998» هو الأكثر تعبيرا عن حال المواطن المصري المطحون والمصدوم في مواجهة نقص رغيف الخبز، بعد نقص وصعوبة الحصول على الكثير من السلع والخدمات الأخرى.
في الحديث القصير تقول الأم: «إحنا صغيرين قوي يا سيد» وكأنها تعبر عن خطاب عموم الشعب، أو الكتلة الصلبة التي لا تبحث من الحياة إلا على القليل قبل أن تواجه بصعوبة توفير أقل القليل، في الوقت الذي تشعر فيه بالتهميش وصغر الحجم في مواجهة السلطة، وكل ما يعبر عنها. بالمقابل يرد سيد قائلا ما يفترض أن يكون الشعار الحاكم لكل مواطن وثائر وكل من يرغب في مواجهة السلطوية: «لا يا أمي، أحنا كبار بس إحنا اللي مش عارفين نشوف نفسنا».
هكذا وببساطة عبر حوار الفيلم عن الكثير مما يصعب على البعض قوله في عبارات واضحة، وقدم الكثير لمن يتفرغ لإدانة المواطن عندما يثور من أجل أمور تتعلق بحياته اليومية، التي يرى البعض أنها مجرد قضايا هامشية لا ترتفع لمستوى صراع الثورة – الوطن.
تلك الرؤية التي تنتقد المواطن عندما يثور من أجل رفع أسعار بعض السلع أو انخفاض حصته من الخبز المدعم، كما شهد العديد من محافظات مصر، بعد قرار وزير التموين في 5 مارس 2017 بتخفيض حصة المخابز بالكروت الذهبية، والمخصصة بدورها لصرف حصص المواطنين من حائزي البطاقات الورقية، تخالف المعنى الحقيقي لتلك التحركات عندما تنتقد المواطن أو تتبنى خطاب الدولة في تفريغ تحركات المواطنين من معناها، كما تخالف قيمة المواطن وقيمة حياته ونوعية تلك الحياة. كما تتناقض مع ما تحمله تلك المعارك من تأثير على تمكين المواطن، وإدراك قيمة الفرد في مواجهة السلطة، والحقوق التي يجب أن يتمتع بها لأنها حقوق لا تمنح من أحد ولا تدفع من جيب أحد، مع أهميتها في تحديد مكانة السلطة والمسؤول المفترضة، وليس المكانة التي تقدم له في الواقع المصري المحكوم بحديث الزعامة وأشباهها.
قرار الوزير الذي أدى إلى حدوث عدة مظاهرات وقطع طرق، وتوجيه كلمات تنديد شديدة اللهجة من المواطنين ضد السلطة ورئيس الدولة، جاءت مرة أخرى من داخل الكتلة الصلبة، لتضاف لتراكم لا يمكن تجاهله ولا التجاوز عن أهميته. أهمية لا يمكن التقليل منها حتى إن رفع البعض في كل أزمة شماعة «الإخوان» و»أهل الشر» ببساطة، لأن الهموم والمعاناة واضحة ومنطقية، ومن يشارك في تلك التحركات هم جموع الشعب، لدرجة أن مذيعا من مؤيدي السلطة، أكد أنه لا يستطيع أن يقبل حديث ضيفه المسؤول الرسمي عن مسؤولية الإخوان عن تلك التظاهرات، لأن من يشارك في مظاهرات الخبز لا يبدو أنهم إخوان. وبعيدا عن كيفية التعرف من خلال شكل المتظاهر على الانتماء الذي يحركه من عدمه، وما إذا كان هذا جزءا من تصنيف البشر في المحروسة على طريقة الملتحي الملثم الذي تحدثت عنه بعض الصحف من قبل، فإن النقطة المهمة أن الواقع وضغوطه أكثر وضوحا من تمرير كل الأخطاء والكوارث والأزمات، بحديث «أهل الشر» ودعاة التشاؤم.
تأتي مظاهرات الخبز والتحركات الرافضة بشكل عام، وبغض النظر عن حجمها، لتنضم لخطاب غاضب عبر عنه أهالي قتيل الدرب الأحمر، وهم يرفعون سؤالا شديد الأهمية عن العدالة الغائبة وأسباب انتخابهم للرئيس عبد الفتاح السيسي؟ وكيف أن السائق القتيل وثق وأمن وشارك وانتخب، ولكنه في النهاية دفع حياته مثل غيره من عموم الشعب المهمش في مواجهة السلطة، حتى إن كانت هذه السلطة مجرد فرد من أفراد وزارة الداخلية، معه سلاح يفترض أنه من مال الشعب للدفاع عن الشعب وليس قتله للاختلاف على أجرة الركوب، أو غيرها من تفاصيل الحياة المهمشة التي عبر عنها سؤال سناء جميل.
تأتى مظاهرات الخبز لتنضم لصوت خريج التوك توك الشهير وهو يتساءل عن مصر التي تشبه العالم المتحضر في الإعلام، ولا تمت له في الواقع، مع كل الاسئلة المهمة الأخرى حول «بكره» المنتظر، ومصر المفترض أن نصل إليها. كما تأتي لتضيف إلى ما قام به أهالي من أسنا جنوب الأقصر في ديسمبر 2016 من تحطيم تمثال للسيسي خلال قيام حملة من مجلس المدينة بإزالة مقاه تم انشاؤها بدون ترخيص بجوار موقف القرية. جاء تحطيم التمثال، الذي أقامه أحد أصحاب المقاهي التي أزيلت، وفقا لشهود عيان تعبيرا عن الغضب وصاحبه ترديد مقولات من نوعية: «الناس تجيب منين تسرق والا تنهب، كده حرام كله على الغلبان».
بالإضافة لهذا تأتي تلك التحركات لتوضح الكثير من أسباب الغضب من السجادة الحمراء التي وضعت على طريق مرور موكب الرئيس وتعرضت للانتقاد، رغم تأكيد أحد المسؤولين وقتها أنها استخدمت عدة مرات قبل الحدث. وهو ما يثير فكرة تغير الحال من خطاب «تسلم الايادي» وبناء تماثيل من أصحاب المقاهي وغيرها، إلى خطاب يطرح أسئلة في صلب خطاب الرئيس الموجه بالأساس للكتلة الصلبة، التي يؤكد – على الأقل نظريا- على أهميتها. ففي النهاية لا يمكن ترديد «تسلم الايادي» حتى يشعر الأبناء بالشبع وتسدد التزامات الأسر أو حاجتها من أساسيات الحياة. ولا يمكن سداد الاحتياجات بوعود «بكره تشوفو مصر». ولا يمكن وضع صورة تفريعة قناة السويس الجديدة أو العاصمة الجديدة المفترضة لرفع الروح المعنوية.
الكتلة الصلبة ترى أن الرئيس مسؤول بشكل أو بأخر عما يحدث لها، سواء في القتل ظلما، أو الجوع، أو دفع ثمن فشل المسؤولين الذين يطالبون المواطن بالتقشف، ويتحدثون عن حماية أموال الدولة، ولكن لا تتوقف الامتيازات التي يحصلون عليها، ولا تقلص مواردهم أو الخدمات والسيارات والسفريات التي تخصص لهم. تلك الجموع لا توجه سؤالها وانتقادها للمسؤول المباشر فقط، حتى إن طالبت بإقالة المسؤول المباشر كما في حالة وزير التموين، ولكنها تتجه وبشكل مباشر إلى الرئيس. وإن كان السيسي يرى أنه يملك علاقة خاصة مع الشعب تسمح له بفرض المزيد من القرارات المؤلمة، فعليه إدراك أن الناس أيضا يعرفون أنه المسؤول عن تلك الأوضاع المؤلمة، وأن تغيير بعض الأسماء أو استهلاك خطاب التخويف بأهل الشر وتنظيم نشر التشاؤم لن تغير من حقيقة المعاناة وأسباب التشاؤم الموجودة على أرض الواقع.
ترفع السلطة، أيا كانت، حديث المباراة الصفرية عندما ترغب في تأسيس أركان السلطوية، وتأجيل الملفات المهمة والتجاوز عن الفشل. وبدلا من أن تقدم كشف انجازات حقيقيا يركز على ما تحقق على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تقدم ما تراه وصفتها الخاصة للأولويات. وصفة تجمع في مصر بين الإرهاب وحديث المشاريع القومية الممتدة. وتنتهي القصة قبل أن تبدأ، فالمعاناة طبيعية، والحقوق مؤجلة، والمواطن عليه أن يصبر إلى «بكرة» أو «6 أشهر» أو سنوات لا أحد يعلم موعدها، ما دامت السلطة تختار أولويات بعيدة، ولا يمكن محاسبتها عليها في ظل الحسابات الخاصة والمكاشفة المفتقدة والمحاسبة الغائبة، وما دامت فزاعة أهل الشر وشماعة الإخوان متوافرة عند الحاجة فهي التي تنشر التشاؤم – وفقا للخطاب المؤيد للسلطة- وهي التي تدفع الناس للتظاهر، بما في ذلك عند نقص حصتهم من الخبز المدعم، وربما هي المسؤولة عن انتحار من انتحر من أجل ظروفه المالية، أو صعوبة الانفاق على أسرته، أو غيرها من ضغوط الواقع الاقتصادي، التي يحاول البعض إنكار وجودها أو إنكار أسبابها بوضع مبررات من نوعية الكوميديا السوداء، إن جاز أن تكون هناك كوميديا في تلك التفاصيل.
فى النهاية يظل من المهم التأكيد على أن كل المعارك مهما بدت صغيرة هي في النهاية معارك وطن، وأن معركة المواطن في مواجهة وزير يتحدث كأنه صاحب سلطة، يمنح ويمنع وهو يؤكد أنه لن يتراجع عن قرار خفض حصة الخبز، قبل أن يتراجع بقرارات عليا تعبر عن خوف النظام من خروج الغضب عن السيطرة، لا تختلف عن معركة صيدلي في مواجهة اعتداء قاض، ولا معركة نقابة الصحافيين والأطباء في مواجهة الداخلية، ولا سائق في مواجهة أمين شرطة. لا مجال لطبقية المعارك في مسار الإصلاح والديمقراطية المطلوبة، ولا مجال لتهميش أو وضع مؤشرات قيمية، لأن مصر المفتقدة تقوم على المساواة بين البشر بوصفهم الانساني وليس على الطبقية.
فى معركة الحرية، كل المعارك التي تقود إلى تمكين المواطن وتأكيد حقوقه، وتقود إلى تحجيم السلطة وتحديد أدوارها معارك مهمة. كل المعارك التي تخص الإنسان وحياته ومتطلبات الحياة الكريمة معارك شديدة الأهمية. كل المعارك التي تحرر الإنسان من الجوع والخوف، معارك شديدة الأهمية لأنها وحدها تحقق فكرة الأمن الانساني، حيث الحرية من الحاجة والحرية من الخوف وحيث النهاية وطن أكثر حرية في ظل مواطن أكثر وعيا ومعرفة بحقوقه وسلطة أكثر رشادة وخضوعا للمحاسبة. مرحليا يظل من المهم التأكيد على أن فشل السلطوية أو نجاح الوطن مرتبط بتفكيك المقولات الشعبوية السهلة الإنتاج والاستهلاك وكشف زيفها، عبر خطاب يؤكد على الاحتكام للنتائج وما تحقق على أرض الواقع للوطن والانسان وإظهار التناقض بين خطاب «نور عنيا» وواقع الظلام الذي يحيط بالوطن والمواطن في المحروسة.
كاتبة مصرية
عبير ياسين
عيش, حرية, عدالة إجتماعية
العيش قل
والحرية بالسجون
والعدالة في خبر كان !
ولا حول ولا قوة الا بالله
إنتزاع الحقوق ،الحريات، الكرامة ،والعدالة ، تتم بالتراكم ، والبناء على ما تحقق، ولهذا يحرص المستبد ،وأجهزتة القمعية ،بأن لا تترسخ ممارسات،
ونهج ديمقراطي ، ومساءلة محاسبة ،بقضاء حر ومستقل لا يفلت من عدالتة مجرم ، وربيع 25 يناير 2011 مثال ،على المسار والمأل على يد،
العسكر من قبل ومن بعد !.