معضلة الانقطاع المدرسي ظاهرة تتصاعد أكثر من 100 ألف حالة تسرب مدرسي سنويا في تونس

حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: كان توفير التعليم المجاني والراقي للجميع أحد أهم أهداف دولة الاستقلال في تونس الناشئة والمستقلة في خمسينيات القرن العشرين، وذلك بامكانيات متواضعة أو كادت أن تكون معدومة. وحرصا على تحقيق هذا الهدف لم تكتف الدولة التونسية بسن القوانين ورصد الأموال والبنى التحتية، بل كلفت للقيام بهذه المهمة الجسيمة مرشدات اجتماعيات كن يجبن القفار والجبال الوعرة ليصلن للنقاط المعزولة في أنحاء الجمهورية الوليدة، ليقمن بدور المؤطر لآلاف العائلات والتبليغ عن أسماء الأولياء الذين امتنعوا عن إلحاق أبنائهم بقطاع التعليم لمعاقبتهم بالسجن إن لزم الأمر.
أما اليوم، فقد تغيرت الأمور كثيرا في تونس، وهناك عودة إلى الوراء تحيل إلى عقود الاستعمار والتخلف أرقت المضاجع وجعلت البعض يطلقون صيحات فزع. وتتمثل هذه الانتكاسة في بروز ظاهرة الانقطاع المدرسي خاصة بعد السنة السابعة أساسي (أي ابتدائي) وهي ظاهرة لافتة تتصاعد سنويا. فكيف يمكن لدولة كانت مضرب الأمثال في الحث على طلب العلم ان تشهد بين عشية وضحاها وفي ظرف زمني وجيز مثل هذه الظواهر؟

أسباب مختلفة

يقول منير حسن رئيس فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في المنسيتر لـ «القدس العربي» ان للانقطاع المدرسي أسباب عديدة منها المدرسية وتتفرع بدورها إلى جملة من الأسباب متعلقة بطبيعة البرامج، البنية التحتية المدرسية، وطبيعة الزمن المدرسي، أي البنية المدرسية بشكل عام. وهناك أسباب أخرى عامة صحية واقتصادية واجتماعية وهي كلها تؤدي إلى الانقطاع المدرسي. وفي العموم فان الانقطاع المدرسي هو حصيلة المنوال التنموي الدارج في تونس والذي هو اقصائي تماما، لان الاحصائيات تؤكد ان هناك أكثر من 100 ألف منقطع سنويا من الأطفال في تونس وهو رقم ضخم يشمل حوالي 6 إلى 10 في المئة من الأطفال الذين يدرسون في المرحلة الاعدادية وترتفع هذه النسبة في المرحلة الثانوية أي من السابعة أساسي إلى البكلوريا حيث تصبح اثني عشرة في المئة.
ويضيف بالقول: «في طبيعة الحال 93 في المئة من المنقطعين عن الدراسة ينتمون إلى الشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة وهذا بسبب الاقصاء الاقتصادي والاجتماعي بسبب المنوال التنموي. لان هناك علاقة وثيقة جدا بين الانقطاع المدرسي والوضع الاجتماعي للمحيط العائلي للطفل إضافة إلى أسباب تحدثنا عنها سلفا وهي كلها تلتقي لتؤدي إلى هذه الظاهرة».

أي حلول؟

عن معالجة هذه الظاهرة يجيب محدثنا قائلا: «ان المعالجة تكمن في ضرورة بناء توافق اجتماعي حول الإصلاح التربوي. انخرطنا في مسار الإصلاح التربوي ولكن إلى حد الآن هذا المسار متوقف واعتقد أنه لا توجد تماما رؤية اجتماعية مشتركة تجيب عن الغاية الأساسية من هذا الإصلاح. إلى حد الآن هناك تركيز على الجوانب التقنية رغم أن هذا الإصلاح لا يتناسب مع المنوال التنموي السائد في تونس. هناك بعض الحلول التي تقوم بها وزارة التربية من نوع (المدرسة تسترجع أبناءها) وهي إصلاحات شكلية لأننا لم نقض تماما على أسباب ظاهرة الانقطاع وعزوف التلاميذ».
وأضاف: «لا بد من حوار مجتمعي حول الأسباب التي تؤدي إلى الانقطاع مع مراجعة المنظومة التربوية جذريا من أجل إيجاد حل مشترك من قبل كل أطياف المجتمع من أجل إيجاد إصلاح حقيقي يستهدف التنمية ومختلف شرائح المجتمع التونسي خاصة الأكثر هشاشة في المجتمع».
وأشار إلى ان ظاهرة الانقطاع المدرسي موجودة في عديد الدول العربية لكن هناك بعض الخصوصيات في الانقطاع المدرسي في تونس مثل كما انه ظاهرة ذكورية، حيث ان حوالي ثلثي المنقطعين من الذكور وأكثر المستويات التي ينقطع فيها التلميذ هي السنة السابعة أساسي. حيث يمثل الانقطاع حوالي 45 في المئة من جملة الذين ينقطعون في المستوى الاعدادي وأيضا السنة أولى ثانوي حيث يمثلون حوالي النصف من جملة الذين ينقطعون في المستوى الثانوي. وهذا يؤكد ان هناك ثغرة في المنظومة التربوية أثناء الانتقال من التعليم الابتدائي إلى الثانوي تنتهي عادة بصعوبات كبيرة بالنسبة للتلاميذ وعدم القدرة على الاندماج في المدرسة الثانوية وهذا ما يدفع التلاميذ إلى الانقطاع في هذين المستويين.
هناك خاصية أخرى بالنسبة للانقطاع المدرسي وهو ان هناك نوعا من التمييز الذي تفرضه المنظومة التربوية خاصة في مستوى السند المدرسي المقدم إلى التلاميذ لإعانتهم، باعتبار ان الطرق البيداغوجية المعتمدة في التدريس منذ السنوات الأولى تفرض هذه الفوارق البيداغوجية والتمييز وتضرب مبدأ تكافل الفرص بين التلاميذ وهكذا في طبيعة الحال أصبحت المدرسة نموذجا لإعادة إنتاج العلاقات السائدة نفسها تحت تأثير المنوال التنموي وهي الاقصاء والعنف والفشل وهي كلها مشاكل تتسبب في نفور التلاميذ من الفضاء المدرسي.
وهناك ظاهرة أخرى وهي الكلفة الاجتماعية للانقطاع المدرسي، فهي باهظة جدا بالنسبة للبلاد التونسية، فهو يمثل ضربا لمستقبل الدولة، وهو إعادة إنتاج للأمية في المجتمع وهو إعادة إنتاج يد عاملة غير مؤهلة ولظواهر اجتماعية خطيرة في المجتمع مثل الانحراف والادمان والتهريب والإرهاب إلى غير ذلك، وهذا في طبيعة الحال يمثل أحد الأسباب الرئيسية التي يعاني منها المجتمع التونسي جراء المنوال التنموي السائد الحالي والذي اضر بالمدرسة العمومية ووجهها نحو شرعنة خدمة التعليم، لان الدولة إلى حد الأن لم تتدخل لإيقاف النزيف الذي يضرب قطاع التعليم ومن بين مظاهره الانقطاع والعزوف المدرسي».
أما عن ارتفاع الظاهرة بعد الثورة أجاب محدثنا: «الأرقام مستقرة منذ مدة وهي ظاهرة موجودة قبل الثورة، لكن كانت هناك تغطية على نسب الفشل المدرسي في إجراءات مرتجلة. والآن، وبعد ان تم التخلي عن بعض هذه الإجراءات فان الظاهرة ارتفعت نسبيا رغم ان هناك تدخلا من الوزارة المعنية من أجل الحد من هذه المعضلة، لكنها ظاهرة موجودة بقوة وهي تعكس ليس فقط فشل الإدارة وانما المجتمع ككل في ايجاد حلول كفيلة بإدماج هؤلاء الأطفال في منظومة تربوية قادرة على إدماجهم وان توفر لهم المبادئ الأساسية التي يمكن ان نبني بها مجتمعا متوازنا وليس تعليمهم مبادئ الإقصاء والعنف وهو مع الأسف ما تقدمه اليوم المدرسة لجيل كامل من الأطفال وهم ضحايا المنظومة التربوية الفاشلة».

معضلة الانقطاع المدرسي ظاهرة تتصاعد أكثر من 100 ألف حالة تسرب مدرسي سنويا في تونس

روعة قاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية