إن محاولة الوعي والتأمل في الحدث ضمن سياق التاريخ، يشي بالكثير من حس المفارقة المدهش، وهذا يستدعي تحليلاً ثقافياً لقطاع تاريخي يزخر بالأحداث، فالتاريخ عينه يستعاد، ولا نملك سوى أن نقرأه ونتأمله، وهو يحمّلنا أقداراً ربما لا نملك تفسيراً لها، أو مقاربة لتجاوزها، فنستدعي وعينا الماضوي لنعيد تفسير الحدث، وفهمه مرة أخرى، وفي هذا السّياق، في ظل تجدد مفهوم النكبة مرة أخرى بصورة أشد سخرية، وفي هذا الزمن المستعاد، وكأنه يبدو نابضاً كما كان قبل سبعين عاماً، وتقريباً، في اليوم عينه، وبالآلية عينها، فقط بعض التفاصيل تعود «الكولونيالية الجديدة» ضمن مخطوطتي الجغرافية والتاريخ يقيم العرب بوصفهم تابعاً، وهذا لا يؤكد سوى شيء واحد، هو أن الاستعمار والإمبراطوريات لا تتقن سوى حرف مسارات التاريخ وتشويهها، فهي تكسر النمط، بيد أن ثمة سؤالا مطروحا، أين يكمن رد الفعل؟ وما الذي يملكه الوعي، أو العقل العربي الذي انقسم على نفسه وأعاد إنتاج الهزيمة، بتواطؤ، أو بغباء، وكلاهما لا يختلفان كثيراً؟
في أدبيات النكبة ثمة كتاب محوري للمؤرخ قسطنطين زريق بعنوان «معنى النكبة» وضعه المؤلف في سنة 1948، وفيه لا يختلف توصيف النكبة إلا قليلاً عن واقعنا الحالي، فقط المشكلة التي بدت تداعياتها أكبر عمقاً من منظور كمي ونوعي، ففي الماضي هناك سبع دول هزمت من قبل العصابات الصهيونية، في حين أنها أضحت اثنتين وعشرين دولة. قبل سبعين عاماً كان 400 ألف فلسطيني شردوا من بيوتهم، والآن أضحوا بالملايين. كانت القدس حاضرة، ولكنها الآن بدت غائبة، في حين أن الانتكاس الروحي الذي أشار له زريق بأنه أشد وقعاً من الأثر المادي، بات الآن أقرب إلى كابوس. فالإنسان العربي وحكوماته من خلفه، باتت أضعف من قبل، بل أمست جزءاً من المشكلة في وطن يتداعى يوماً بعد يوم، وفي هذا علينا أن نستدعي الأسباب التي تنهض على ما آلت إليه الأمور، فإذا كان زريق يرى أن أسباب النكبة لا تعود إلى العرب بالكلية، كونهم ما زالوا في ذلك الزمن أمة ناهضة، أو في طور التأسيس، وفي الطريق إلى النهضة، بينما عدوهم قوي الشكيمة، وهو ما يعني شكلاً من أشكال التبرير، بيد أن هذا العامل لم يعد مستساغاً ـ في الوقت الحاضر- إلا من وجه واحد، هو أن العرب ما زالوا أضعف مما كانوا، لا لكونهم دولاً ناشئة، فقد مضى على البعض في الاستقلال أكثر من سبعين عاماً، فما داعي هذا الضعف المعاصر؟ هل ما زالت الأسباب السابقة قائمة؟ أم أن ثمة عوامل ثقافية حضارية معاصرة، بحيث أن العرب على مدار هذه العقود لم يتمكنوا من بناء دولة مدنية، إلا عبر الظاهر؟ في حين أن أسباب الهزائم ما زالت متصلة بالعقل المهيمن، ونعني القبلي والطائفي، كما الفكر الرجعي، والأهم غياب قيم العقل والتنوير. فماذا كنا نفعل في العقود التي مضت غير مراكمة أشكال الدولة من خلال الإعلان عن مؤسسات لا تمتلك سندا قانونياً، وشرعياً، ولا شرعية الوجود من المبدأ الديمقراطي الذي عادته معظم الدول العربية، لكونه ينهي العقل العربي المتسلط، والشديد العنصرية والبغض للآخر.
بنية الثقافة العربية
إننا إزاء مجتمعات عربية في القرن الواحد العشرين – حتى هذه اللحظة – لم تتمكن من بناء أو تكوين صيغ حضارية حقيقية، فهي للآن لم تنتج معرفة بالشكل الكافي، ولم تبنِ منظومة حضارية، فهي ما فتئت تتغذى على نزعاتها التاريخية، وصراعاتها، كما لم تتمكن من تجاوز تاريخية القبيلة، والخلافات المذهبية التي تسببت ببالغ الأثر على بنية الثقافة العربية، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن هذا الخلل في تكوين العقل العربي، هل ثمة نزعة سائدة في التكوين الجيني للعرب العاجزين عن التطور، أو كسر حلقات الفعل الرجعي الكامن في المخيلة العربية بوصفها نتاج ثقافة صحراوية رعوية ؟ فهي لم تتمكن إلى الآن من تحويل عقلها، في حين أنها تدعي الحداثة والتطور.
أشار زريق إلى أن الشبكة الصهيونية المدعومة أمست أكثر قوة، في ذلك الزمن، بل تتحكم في القوة العظمى في العالم، ولكنها في هذا الزمن قد تتمكن من تخطيط أسوأ أقدار زمننا، الذي تمكن من أن يعيد إنتاج وعد بلفور مرة أخرى من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، ما يعني نكبة جديدة، ولكن هذه المرة بدا الأمر أكثر أناقة، أو أقل عاطفية للبعض، وربما أكثر هزلية، كون القضة الفلسطينية لم تعد أولوية في زمن النزاعات العربية العبثية، مع الوهم الكامن في داخلهم، ذلك العقل العربي الذي يعيد إنتاج عدوه من داخله، في حين أنه يتجاهل أن ثمة عدواً على الأبواب، بل أمسى في داخل الدار.
إن قراءتنا لهذا الوعي العربي التاريخي، لا يصدمنا حيث شكل هذا ثقافة تاريخية لدى العرب. هذا العقل العربي الذي ينتج حروباً عبثية لقيم قبلية بائدة، أو ينتج عصبية دينية تاريخية تكرس السلطات التي تحتاج إلى عدو ما، ولا يوجد من أفضل من عدو يكمن في داخلنا. حين كانوا يدعو زريق في كتبه محذراً من القوى الإمبراطوريات العظمى، وتآمرها على فلسطين، ويدعو إلى أن نعلم أبناءنا هذا، غير أن ثمة قصوراً حقيقياً في ما تعلمناه من تلك الفترة، أو ما تعلمناه من أجدادنا، فقد غُذينا بكراهية الأنا، وبكراهية الآخر، وممارسة النبذ، وأن العدو الحقيقي «إسرائيل» ما هو إلا هم، أو فوق قدرتنا، فاخترعنا عدواً جديداً من ذواتنا. إن روح القوة كانت تعدّ لأن تمارس جبروتها على بعضنا بعضا، والمتأمل في تاريخ العرب الحديث سيجد أننا من أكثر الشعوب التي خاضت حروبا أهلية، في حين أن حروبها مع الآخر كانت «صفرا»، وعلى استحياء، ثمة خوف مرعب من الآخر، من الصهيونية، أو لعلها أقل وطأة من ظلمنا، هل مواجهة الصهيونية أكثر كلفة مما ألحقناه بأنفسنا من منطلق أن النواتج التي أفرزتها الديكتاتوريات العربية قد قضت مجتمعة على أكثر مما يمكن أن تقضي إسرائيل لو تمت مواجهتها، هل ثمة عقل مريض؟ أم أنه يعاني من قصور في الإدراك؟ يذكر قسطنطين أن النكبة ما هي سوى معركة في حرب طويلة، وعلى ما يبدو أنه كان يتحلى بشيء من التفاؤل، وذلك انطلاقا من القراءة المستقبلية المؤمنة بالوعي العربي، ولكن ألم يدرك أن العقل العربي لم يتطور إلى الآن؟ فهو ما زال يخوض الردة تلو الردة، وبناء عليه، هل يمكن أن نعد أدبيات النكبة جزءاً من نقد العقل التاريخي العربي بهدف تكوين أنظمة جديدة قادرة على التفاعل، وإنتاج قوى حضارية جديدة؟ لا شك بأن كتاب زريق ما هو إلا حلقة من حلقات الكتابة التي أنتجتها النخب العربية، محاولة تفسير الحدث، كما هي إنتاجات النخب المعاصرة، غير أن كليهما لم تمسا حقيقة المشكلة، ولم تتطاول لأن تنتقد أسس التخلف العربي، التي تتحدد بتحييد العقل، ونبذ الأنساق الموروثة التي مكثت في الوعي العربي.
لا تختلف الأسئلة التي يطرحها زريق تجاه معضلة الهزيمة عن أسئلتنا الحاضرة، وكأن شيئا لم يتغير، فما زلنا نعاني من قلة الحيلة، والارتباك، على الرغم من مضي أكثر من سبعين عاماً، وبالتحديد حينما يستذكر زريق الموقف متسائلاً، ماذا يفعل العرب مع قرار التقسيم وموقف الأمم المتحدة؟ هذا العجر أو الحيرة هي عينها التي نعايشها مع قرار نقل السفارة، كما الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، يتساءل زريق في حين نتساءل نحن الآن، ونعيد سؤاله: «أيقبل العرب بالتقسيم (بالاعتراف)، وقد تألبت أكثر قوى العالم لتنفيذه؟» غير أن التحذير الذي دعا إليه زريق، وما كان يخشاه، قد تحقق، حيث كان يخاطب العرب في ذلك الزمن، من منطلق أن القضية الفلسطينية قضية عربية قومية مصيرية، ومن هنا، فقد أصرّ على أهمية إبقاء جذوة الكفاح مشتعلة، وإلا فسوف تستشري الصهيونية في جسد الأمة العربية كالسرطان، ولعل هذا التوصيف قد صدق في زمننا هذا.
الماضوية مقابل الصهيونية
يتقدم زريق في تفسير معنى النكبة، إذ يدرك بوعيه أن العرب لن يتمكنوا من تحقيق النصر، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه هو حماية ما يمكن حمايته من الكيان العربي، فالنصر لن يتحقق ما لم يحصل تحول عميق في «أساليب تفكيرنا وحياتنا بأكملها». في هذا المستوى ندرك أن زريق بدأ يمتلك وجهة التفكير الحضاري العقلاني، حيث بدأ ينظر إلى الطبقات العميقة من المشكلة، والتي تتحقق في الإشكالية الحضارية. وهكذا يتتبع زريق عوامل التحول في اللغة، والمكان، والمنظور، فهو يأخذ على العرب نزعتهم الماضوية مقابل الصهيونية التي تتخلل التكوين الغربي، ونزعتها المستقبلية. وعلى الرغم من محاولته تفكيك الوجود الصهيوني أو تكوينهم بوصفهم أمة لا يمتلكون اشتراطات الوحدة، غير أن الذي وحّدهم الإيمان بالفكرة، وهذا هو مصدر الحقيقة المطلقة، ومكمن الاختلاف، فالفكرة هي مركز التحول وغايته.
إذا ما نظرنا إلى أطروحات زريق لتجاوز الأزمة، فإننا سنجد أنها مثالية، أو أنها لا تتسم بواقعية، كما أنها بعيدة عن التفكير الجذري القائم على البحث في المشكلة عينها إلى حد ما، فالدعوة للوحدة العربية التي يدعو لها، لا يمكن أن تتحقق تبعاً لعوامل خارجية كاللغة والدين والتاريخ والأرض، حيث أثبت التاريخ أنها غير فاعلة، فهذه المفاهيم قائمة، ولكنها تحتاج لإرادة، وتغيير داخلي في وعينا، كما ينادي زريق الذي كان يخاطب العرب بوصفهم أمة متجانسة، وهذا – من وجهة نظري- خطاب شعري تنقصه آليات التطبيق، في حين أن المشكلة تكمن في بنية الدول العربية، والأسس التي تقوم عليها، فمعظم الدول العربية لا تمتلك تفسيراً عقلانياً للتاريخ، أو مفهوم الدولة الحديثة، إنما هي كيانات طرأت بفعل الهيمنة العصبية، أو الدعم الكولونيالي، لا شيء آخر، إذ لم يكن ثمة تنظير فكري لهذه الدول، إنما ثمة قوة سياسية تعمل على مبدأ الأكثرية تخضع الآخرين، أو القوة، وهكذا، ما يعني أن مواصفات الدولة الحديثة المدنية كما تبنتها كافة الدول المتقدمة لا وجود لها في العالم العربي منذ سبعين عاماً. ومع أن زريق يذهب للدعوة إلى تبني الفكر التقدمي القائم على نبذ معاني العصبية والطائفية، بيد أن هذه الدعوة ما زالت تراوح مكانها، مع أنه مضت عقود طويلة، وأصبحنا ضمن العالم الذي يندرج في مقولات التطور التقني والرقمي والحضاري، في حين أن قيمنا ما زالت رجعية تمتح مفاهيمها من الماضي، وتعتمد آليات القبيلة والطائفة والنخبة والطبقة، فمجتمعنا للآن ما زال يقدس التقسيم، ولا يؤمن بحق الأقليات، ويقدس فكرة النقاء، حيث لم تنصهر تكويناتنا في مفاهيم المدنية الحديثة.
يضع زريق أربع آليات لتحقيق التقدم، ومنها الانتقال إلى المجتمع التقني، ويطلق عليه استثمار الآلة، ومن ثم فصل الدولة عن التنظيم الديني، ثم يضيف تدريب العقل، والنزوع إلى الأعمال الوضعية والتجريبية، ورابعاً اكتساب الخبرات الحضارية الإنسانية.
لا شك في أن دعوات زريق تبدو منطقية، كونها تستهدف البنى العميقة لفعل التحول، من حيث تفعيل العلم والتمدن والتطور التقني، ما يتطلب من وجهة نظره وجود فئة، أو زعامة قادرة على تحقيق ذلك، فأزمة ذلك العصر تتمثل بالزعامات والقادة، وهذه المشكلة ما زالت قائمة إلى الآن، ما يعني أننا لم نتمكن من إنتاج قيم قيادية حقيقية، أو بمعنى آخر لم نتمكن من بناء فكر يسهم في تخليق الزعامة القادرة على قيادة الأمة، في حين يرى أن معنى النكبة يتحقق عبر كونها تجربة سنتعلم منها، ولكن لم يتحقق هذا الأمر، بل العكس من ذلك، أعدنا إنتاجها بالغباء عينه. يستعيد زريق في ملحقيه المرفقين في الكتاب مبادئ الجهاد في فلسطين، محاولاً تقويض المرويات الصهيونية من حيث التأكيد على حق أهل فلسطين بأرضهم، وهذا ما يعني بأننا ما زلنا نراوح في الأدبيات عينها، التي ما زالت النخب العربية تنتجها، وهي التي تشتغل بسياقات المشكلة، لا بجذورها، والتي تتمثل بالتكوين العقلي للفكر العربي الذي لم يتمكن من تكريس مفهوم المدنية، وقيم القانون التي تعلو على كافة العوامل الأخرى، فليس ثمة في الفكر العربي مبدأ المساءلة، فضلاً عن سيطرة النزعات الذاتية، والبدائية في السلوك، بالتضافر مع عنصرية مقيتة ضيقة، وهذا ما يفسر أن الفكر العربي لم يسهم إلى الآن بأي قيم حقيقية سوى التدمير الذاتي لتاريخه، ومصالحه، ومقدراته المالية، وهكذا فإننا النكبة تبدو فعلا مستمراً إلى الآن!
٭ كاتب فلسطيني أردني
رامي أبو شهاب