في عام 1964 وكنتُ مفصولة من الوظيفة أجاور المدفأة النفطية (علاء الدين) بدشداشة وغترة مشدودة على عنقي من البرد والضجر. قالت أختي شافية… لماذا لا تسجلين في معهد كوته وتتعلمين اللغة الألمانية؟ لقد قرأت اعلاناً في الجريدة عنه …. تلفنت على الرقم الموجود في الجريدة، فقال المسؤول بالعربية تفضلي. ركبت التاكسي (بربع دينار) الى شارع الرشيد حيث المعهد الالماني (غوته) على اسم أكبر شاعر الماني.
قابلني المسؤول، عراقي يجيد اللغة الألمانية اسمه (منعم الشبوط) قال: لكن الدراسة بدأت قبل شهرين ولم يبق غير شهر واحد وينتهي السمستر، فكيف نقبلك؟ قلت: أنا تلفنت لكم وصرفت ربع دينار للتكسي ولا يمكن أن أتراجع. ضحك الاستاذ الشبوط من تأكيدي على الربع دينار ولا يدري أنه ثروة بالنسبة لي وقال: لكن الدراسة صعبة جداً من عشرين طالب ينجح واحد أو اثنان وهم يداومون ثلاثة أشهر… قلت له: أقبلني… وأعدك أنني سأكون هذا الواحد الناجح. وقُبلـــت في المعهـد.
الرجوع للبيت ليس كالخروج منه، ليست معي أجرة تاكسي أو باص… مشياً على الاقدام أعود، تلك رياضة ممتعة سأعبر الجسر الى بيتنا في كرادة مريم (الخضراء حالياً). هناك مدرسة التقدمة للراهبات على يساري وأنا امشي… لأول مرة يدفعني الفضول لأن أقف على باب هذا البناء الذي يحمل أسم القديسة فاطمة، وكنت ارى طالباتها بصداريهن السوداء وياقاتهن البيضاء وهن في سيارات المدرسة… وجوه الطالبات التي تنطق عن النعمة وأتمنى لو درست ابنتي الوحيدة (طيب) في هذه المدرسة التي تعلم الفرنسية والانكليزية والاخلاق والاصول والتربية الراقية… الخ، أمٌّ ليس في جيبها ربع دينار وتشتهي لأبنتها أن تدرس في مدرسة راقية غالية التكاليف… أُم مفصولة من الوظيفة لمدة أربع سنوات مهجّرة من دارها في الأعظمية، تعيش مع أمها وأخواتها واخوانها لضيق العيش. وأنا في أحلامي وسرحاني وبدون أي تفكير أو تخطيط وجدتني أقف عند باب مدرسة الراهبات، الباب يبدو مفتوحاً وهناك جدار مبني أمامه يمنع نظرات الفضول، وبدون أن أخطط لأي فكرة وجدتني أدخل متخطية هذا الساتر ولم أخط خطوة واحدة حتى تسمرت فقد سدت طريقي راهبة تبدو عليها الصرامة. سمينة قصيرة متجهمة الوجه صفعتني بسؤال خشن: ماذا تريدين؟.
وفي تلك اللحظة أسعفتني طبيعتي كالعادة بهدوء الواثق قلت لها: أنا مدرّسة عربي أريد أن اشتغل هنا. تغير وجه الراهبة من العبوس الى الفرح وكأنني نزلتُ عليها من السماء قالت: أنا ماسير جان. كنت الآن أُصلّي وأدعو العذراء لتسعفني. فقد أخذت مدرسة اللغة العربية إجازة ولادة، ولم يبق على امتحان البكلوريا للصف الثالث المتوسط غير شهر واحد… أمسكت ماسير جان بيدي وأخذتني الى غرفة الإدارة، وأكملت: أنا أعطي كل مدرسة راتب 40 ديناراً بالشهر. أما أنتِ فأعطيك 50 دينارا وأدفع لكِ مرتبات ثلاثة أشهر العطلة. قلت لها: وأنا أعطيك وعداً ألا تأخذ احدى الطالبات 60 درجة بالبكلوريا … ووفى كل منا بوعده.
أما وعدي لمعهد غوته بأني سأنجح…. فهو أيضاً قد تحقق. علّق الاستاذ الشـبوط بعد أن هنأني بالنجاح وكنت أحد اثنين: لازم نعمل لك تمثال بمعهد غوته. والحقيقة أن الدينارين التي دفعتهما رسم الدراسة قد تعلمت بهما معي أسرتي كلها لكثرة ما كنت أردد وأنا أحفظ اللغة الألمانية وأجاهد لكي أكون من الناجحين.
بعد الصيف غيرت سياسة الحكومة رأيها بمعهد غوته وبألمانيا الاتحادية GDR ، صرنا أصدقاء المانيا الشرقية DDR، ولكن الجميل فيها ان المعهد الالماني الجديد ـ بعد إغلاق معهد غوته صار مجاوراً لبيتنا في كرادة مريم. واستمرت دراستي.
لميعة عباس عمارة
فرح
عاشت بنت الجنوب المعطاء.
شكرا للكاتب مقال ممتع جدا ويرفع معنوياتنا الا نيأس ابدا
مقال لطيف جدا في من المعاني الطيبة الكثير… شكراً …