بيروت ـ «القدس العربي»: ليس لمآسي الشعب الفلسطيني من حدود. تجرع نكبته الكبرى، ويتجرّع المضاف إليها بالتقسيط. هو يتقاسم التشرد، الجروح والموت مع الشعوب العربية الأخرى. وحيث يقيم أو يستقر كلاجئ ليس الوضع بإنساني، حيث التهميش والأفق المقفل له بالمرصاد. بعض الشباب الفلسطيني أتيحت لهم فرصة التعبير الفني، مع استوديو «زقاق» وهي فرقة مسرحية، تتعاون في مشروعها هذا مع «برنامج صلات وروابط عبر الفنون لمؤسسة عبد المحسن قطّان والممول من صندوق الأمير كلاوس». بعد 12 جلسة تدريب كانت مسرحية «ستي العرجا» مع ثمانية من الشبان من مخيمات لبنان وسوريا. وكان عرض متقن لجهة التعبير الجسدي. له رسالته الوطنية والاجتماعية والسياسية، وفي الوقت نفسه أعطى فرصة التعبير لمجموعة من الشباب الذين استحقوا في نهاية العرض الذي أقيم لليلتين في مترو المدينة التصفيق الحاد من الجمهور، الذي تابعه البعض وقوفاً لانعدام المقاعد. النص الذي عرّف بمسرحية «ستّي العرجا» التي تحكي قصّة الأبناء الثمانية للجدّة العرجاء يقول: «هي حفظت الرّواية وهي لعنة السّلالة. هي التي تكذّب الأنبياء وترفض جنّاتهم وتلعن زمنهم، زمن القوارب الممتلئة حتّى الموت وحشود الأطفال المتنكّرة بالملابس العسكريّة. هي التي أخبرت أبناءها الكثر أنّ الأرض فكرة، لأنّهم لا يملكون الأرض، وأنّ الفكرة لا تموت إن حقّاً امتلكوها. هي التي حرّضت أحفادها على الحريّة ثم انقلبت عليهم لأنّهم نسوا أنّ الحريّة هي الهدف الأسمى. عندما تنتهي أحلام الأفراد، ينتصر الواقع. يعودون إلى حيث انطلقوا، إلى أصغر مساحات الفعل وأجملها؛ إلى أيّ زاروب ألِفوا السّير فيه. يعتقدون أنّهم محظوظون، فهم لا يزالون على قيد الحياة. يعتقدون أنّهم مهزومون، فالحلم صار خرافة وصدقت نبوءة العرّافة. يكتشفون حلماً جديداً ويستعدّون لصناعة خاتمة لائقة لقصّتهم التي لم تنته. قصّتهم التي عليهم إعادة إخبارها دائماً من البداية».
نجح المخرج هاشم عدنان في تقديم هذه الورشة مع زميلته لميا أبي عازار. فهاشم أخرج العمل، ولميا أشرفت على تدريب الممثلين. وكان لمجوعة «زقاق» مجتمعة العمل على دراماتورجي العرض المسرحي. ويقول المخرج: توزع عملنا على 12 حصة تدريب، استمرت لشهرين. هو عرض خرج إلى النور في زمن قياسي. وهذا ما وضع المجموعة كاملة في حال طوارئ لأننا كنا على موعد للقاء الجمهور. وهذا يساعد كثيراً في الوصول إلى نتائج على كافة المستويات التي نجرب العمل عليها.
○ قدمتم عرضاً متقناً وناجحاً مع شباب وشابات غير محترفين؟
• هنا نعود للسؤال عن ماهية الممثل وماذا يعني أن يكون أحدنا ممثلاً؟ الممثل هو إنسان يقرر وضع نفسه على خشبة المسرح في موقع هش، وأمام جمهور. يقرر هذا الممثل مخاطبة هذا الجمهور والتحدث معه عن مجموعة من الاشكاليات والاسئلة التي تشغله. وأن تكون جميعها في حوار مفتوح مع الجمهور. كذلك الممثل هو فعل سياسي. أن يكون على خشبة المسرح فهو في فعل سياسي تجاه الواقع والحقائق التي يعيشها.
○ كان بين فريق الممثلين من هم في غاية الحركة والتآلف مع خشبة المسرح؟
• ليس بالضرورة أن يكون الممثل كامل اللياقة التقنية، يكفي أن يمتلك الشغف الكامل. وأن تكون لديه حاجة الحضور على خشبة المسرح. وأن يستعمل المسرح كوسيلة لمخاطبة المجتمع الذي يعيش فيه. كذلك ليخاطب المدينة والمخيم، ليقول عن استعداده لوضع الحياة التي يعيشها على المسرح، ويتحاور بشأنها مع كافة هؤلاء البشر. هنا تكمن أهمية فعل التمثيل.
○ هي الدورة التدريبية الثانية مع شباب من المخيمات في لبنان بدعم من برنامج «صلات وروابط عبر الفنون» فهل تحارون في اختيار الموضوع الذي ترغبون غيصاله للجمهور؟
• عندما بدأنا العمل مع مجموعة من الشباب من مخيم اليرموك ومن مخيمات لبنان، كنا نهدف إلى تأسيس نواة لمجموعة فنية مسرحية تعمل داخل وخارج المخيمات. هدفنا أبعد من دورة تدريب، والعمل على موضوع. نهدف لخلق مجموعة قادرة على العمل المسرحي. مجموعة تستوعب آلية دوران حركة المسرح وأن تكون قادرة على امتهان المسرح للعمل داخل وخارج المخيمات. الشباب والصبايا اللواتي قدمن عرض «ستي العرجا» هم خير مثال، منهم من يستعمل تقنيات «المهرج» بهدف تقديم عروض للأطفال، كما أنهم يقدمون المسرح في المخيمات. تعاوننا كان مع أشخاص جرّبوا المسرح ويرغبون فيه. وهؤلاء لديهم عروضهم الفنية مع الأطفال. ولهذا نعمل على تطوير مهاراتهم، ونعمل على تطوير اللغة التي نستعملها في عملنا.
○ كم عبّر عرض «ستي العرجا» عن معاناة الفلسطينيين في لبنان وفي مخيم اليرموك؟
• في اعتقادي ما من شيء يتمكن من اختصار تلك المعاناة. ما يمكن أن نقوم به على المسرح هو تقديم الواقع كما هو. وأن نقول أن المسرح والفن هما وسيلتان لمساءلة هذا الواقع، ولتفكيك الحقائق المنزلة علينا، والمفروض علينا أن نقتنع بها. علينا أن نقول لا. وأن نقول أن كافة الحقائق التي نعيشها خاضعة للسؤال. اللاجئون داخل وخارج المخيمات وكذلك اللبنانيين نحن في وضع خاضع للمساءلة. كذلك لوضعنا صلة بالاختيارات التي قمنا بها في حياتنا، وهذا ليس بتحصيل حاصل، ولا بقدر. وظيفة المسرح أن يطرح تلك الاسئلة، وأن يطورها. وتالياً أن نعمل جميعنا كي نفهم ما هو حاصل. وما هو دورنا حياله؟ نعرف وجود مآس ومعاناة، حروب وقتل يومي للبشر. السؤال ماذا علينا أن نفعل؟ هل تكمن تلك الحاجة في تقديم الموسيقى والإيقاع فقط؟ كما الاشكالية التي طرحها أحد الممثلين؟ أم نحمل السلاح ونقاتل بطريقة مجانية، في حروب نحن وقودها وضحاياها أولا وأخيراً؟ ما هو الخيار الذي سنقوم به حالياً؟ ما هو الفعل الحقيقي السياسي المقاوم الذي يجعلنا غير مستسلمين لأي من أنواع الظلم. وفي الوقت عينه نعمل لنزيد من قوتنا، ونرفض أن نكون في دور الضحية، الذي قد نذوب فيه ونختفي.
○ كم شعرت برغبة شباب المخيمات للمشاركة في عمل مسرحي؟
• نتعاون مع شباب وصبايا هم أصحاب طاقات ومهارات. لا نقصدهم وفي بالنا أنهم يحتاجوننا، أو أنهم يعيشون حالة خاصة بهم. نحن كلبنانيين مررنا بحرب على مدى ثلاثة عقود. نعيش في منطقة لم تتوقف فيها الحروب. حكايتنا التي قدمناها على المسرح شبيهة بقصة «ستي العرجا». هي في الأساس قصة لم تنته، لأنها لم تعرف بعد خاتمة حقيقية. على سبيل المثال يفتقد لبنان للعدالة الانتقالية. المجرمون الذين ارتكبوا فعل القتل بحق 150 ألف ضحية خلال الحرب اللبنانية، مازالوا يحكموننا. هم موجودون في الحكومة وفي المجلس النيابي. والأمر نفسه قائم في القضية الفلسطينية، التي لم تصل إلى حل. والسؤال الذي نطرحه على ذاتنا وعلى الشباب من خلال العمل هو كيف لنا التعامل مع تاريخ لم يصل إلى خواتيمه بعد.
○ هل ستكون لهذا العرض فرصة أخرى للظهور على المسرح؟
• نطمح لأن تكون له جولة في مسارح لبنان والمخيمات. ونحن منفتحون لأي فرصة سانحة لنا كي نعرض مجدداً.
○ كمخرج هل فاجأك الترحاب الكبير الذي أستقبل به الجمهور عرضك المسرحي؟
• لا يفاجئني فقط التفاعل الجميل مع الجمهور. المفاجئ هو تنوع الجمهور من داخل وخارج المخيمات، وهذا هدف المشروع في الأساس. وما فاجأني أكثر قدرة الشباب على حمل العرض بهذا النجاح. وهذا ما شكل مفاجأة سارة جداً. على سبيل العلم الجمهور المسرحي في لبنان متنوع جداً وعلينا الاعتراف أنه ليس لبنانياً وحسب، بل فلسطيني، سوري ومن كافة الجنسيات الموجودة في لبنان. نحن مجتمع متنوع وعلينا الاعتراف بهذا التنوع، وأن نقبله ونعمل انطلاقاً منه. لست مستغرباً ترحيب الجمهور، فهو يحتاج لأن نحكي اموراً لها معنى في المسرح، وأن نطرح أسئلة حقيقية تمس حياتنا، وتمس ما هو حاصل في منطقتنا. لا أن نعمل لخلق جنّة وهمية، ولا أن نكون في تجريد كلّي مع الواقع، وأن نقدم فناً للفن أو ما يشبهه. من المؤكد تجاوب الجمهور مع عرض يحاكي الواقع ويسائله في الوقت نفسه.
الممثل راكان عبد الرحمن الخليل شاب في العشرين تميز في عرض «ستي العرجا» بحضور يشبه النسمة، مثّل، غنّى، رقص وأدى حركات «المهرج». له جسد يتميز بطواعية مطلقة. شكل في لحظة كشخص الحيز الذي يجذب نظر المتلقين وانتباههم. للمرة الأولى يكون مع مسرح مجهز بكافة التقنيات المطلوبة. ولأول مرة يكون مع جمهور ليس بجمهور مخيم برج الشمالي ـ قرب مدينة صور ـ حيث ولد وترعرع. شاب لو اتيحت له فرص أخرى لربما شكل حالة خاصة في التمثيل تمنحه إياها ليونته، قربه من الجمهور والكاريزما الخاصة به. ماذا يقول راكان؟
○ كم أنت مسرور للتصفيق الذي حصدته؟
• مسرور للغاية. ومسرور أكثر لأن الجمهور كان كبيراً ولم تتسع له المقاعد. كان جمهوراً مصغياً لنا باهتمام كبير. آمل أن تكون أفكارنا قد وصلت. من ملامح وتعبيرات المتلقين بلغني أنهم كانوا في غاية التفاعل مع عرض «ستي العرجا». والرسالة وصلت.
○ ما هو موقفك كفلسطيني حيال ما قاله العرض المسرحي؟
• هذا ما يحدث يومياً في مجتمعنا الفلسطيني، إنما قلة من الناس تعرف به.
○ ما هي مهنتك في الحياة؟
• أعمل مصوراً، وليس هو عملي الوحيد. كذلك أنا حلاّق رجّالي. وأعشق التمثيل بما يفوق التصور. لكن أين الفرصة؟ فرصتي الأولى وجدتها في استوديو «زُقاق».
○ لم تدرس المسرح فمن أين لك هذه الليونة شعرنا وكأنك تطير؟
• صحيح أنا على المسرح لقول ما يجب للجمهور، وفي الوقت نفسه أشعر بسرور مطلق يمنحني إياه شعوري بأني أتسلى وأمرح وأفرح خلال التمثيل.
○ هل قالت «ستي العرجا» ما تريد أنت كفلسطيني أن توصله للجمهور؟
• لا شك في ذلك. لكنها لم تقل ما يكفي. لم تقل سوى اليسير من معاناتنا كشعب يعيش في مخيمات اللجوء في لبنان. أتمنى لو يدرك من تابعوا العرض المسرحي معنى ما قلناه، وكذلك معاناتنا. أما معاناة الفلسطينيين الهاربين من الحرب في سوريا فهذه لها قصص عذاب تتسع لها مجلدات.
○ هل واجهتك مصاعب خلال التدريب على العرض المسرحي؟
• دون شك. إنما المصاعب تتراجع بالتدريج. لم أكن مطلعاً مطلقاً على تقنيات المسرح.
○ من أين لك هذه الليونة الجسدية؟
• ألعب كرة قدم، وأمارس العديد من أنواع الرياضة. وأهرج بهدف إسعاد الأطفال في المخيم. ويفترض أن يكون المهرج «تك تك تك». منذ عام جاءتني فرصة لأكون مهرجاً، لكني أمتلك الموهبة منذ الصغر. هذا التهريج الذي أقوم به منذ عام ساعدني جداً على إمتلاك ليونة الجسد.
○ وماذا عن أغنية «ستي العرجا» التي أديتها في العرض المسرحي؟
• هي أغنية من التراث الفلسطيني تؤديها ريم البنا. خلال مرحلة التدريبات كنت أدندنها، فتم اعتمادها في المسرحية.
○ بماذا تحلم؟
• حتى اللحظة طموحي هو «الفضفضة» عبر المسرح عن معاناة شعبنا الفلسطيني، والسوري واللبناني، لأننا معاً نعيش مشكلات متشابهة، ونحن مجني علينا. أرغب في الفضفضة وأن أبقى في الوقت عينه مسروراً.
زهرة مرعي