لا بأس قبلناها تلك المسماة «قصيدة النثر»، وصرنا نقرأ لبعضهم ما يمتع حقا وهم قلة في طوفان الكتبة، الذين استسهلوا الأمر وقد تخلصوا من الوزن والقافية فوقعوا في مستنقعات الابتذال والركاكة، أو حلقوا ـ والأصح غاصوا ـ في غياهب الإبهام المطلق أو التصنع الكاذب أو التظاهر بالعمق.
والطريف أو العجيب في الأمر أن هؤلاء الذين يستشهدون بالبيان الذي كتبته سارة برنارد الفرنسية حول ما سمته Poesie prose ـ أو الشعر المنثور بالعربية ـ مستشهدة فيه بالمقاطع النثرية التي كتبها بودلير في أواخر حياته على أنها الظاهرة الفنية في الإبداع الشعري الصالحة لتكون البديل المناسب لما تتطلبه الحداثة الشعرية في عصر جديد مختلف عن عصر الكلاسيكية.
هكذا فهم بعضهم المقصود من كتابة مثل هذا البيان، وفي تقديري وتقدير كثيرين غيري أنه كان مجرد تنبيه ذكي عن إمكانات التقارب بين النثر والشعر، وليس على أن أحدهما يجب أن يلغي الآخر، كما لو أن الشعر كان محتاجاً لبعض مزايا النثر، من حيث الوضوح، إلى جانب مسحة الغموض التي يمكن كشفها عن المعاني أو المشاعر المغطاة بالنقاب الشفاف، الذي لا يحجب قسمات الوجه الجميل للنص الشعري، ولكنه لا يبوح به كاملاً إلا بجهد يجب أن يبذله القارئ، أو كأن البيان يريد أن يذكرنا بأن الشعر صياغة لغوية مختلفة عن الصياغة النثرية، ليس من حيث الوضوح فقط، بل أيضاً من حيث تداعي الأفكار والصور المجازية، فالصياغة النثرية بالمقابل أسلوب لغوي واضح المعاني على عمقها وخاضع لنظام مرتب للأفكار في تسلسلها وتداعيها من المقدمة إلى العرض إلى الخاتمة، في حين أن للشعر أسلوبا لغويا مختلف لا يخضع للترتيب النثري الآنف الذكر، بل هو نوع من الفوضى «المنظمة» ـ إذا صحّ التعبير ـ عبر إمكانات الانزياح اللفظي المتنوعة للمجاز والتصوير عامة، والهيجان العاطفي واختيار المفردات وتركيب الجملة، أو العبارة بين ما يسمى في علوم البيان العربية: الجملة الخبرية، والأخرى الإنشائية والموسيقى التي تصاحب الصياغة اللغوية وكأنها أغنية تغنى بدلا من أن نقول تُقرأ.
لم أكتب هذه المقــــالة إلا بعد أن عــــبرت إلى ديــــوان بودلير الشهير والوحــــيد ـ تقــــريباً ـ الــــذي يجمـــع معظــــم شعره ـ إذا لم نقل كله ـ وسماه Les fleurs du mal أي «ازهار الشر» أو الأذى، فوجدته من مقدمته إلى آخره جامعا لقصائد خاضعة للوزن والقافية قصيرة كانت أم طويلة، فــــإذا كان بودلير بنى شهرته على هذه المجمــــــوعة الشعرية أكـــــثر من أي كتــــابةٍ أخــــرى، فأي بودلير إذن يجب ان يُحكــــــى عنه؟ بودلـــير الذي جمع إنتاجه الشعري بأكمله في كتاب واحد؟ أم بودلير الذي نشر مقتــــطفات من المــحاولات النثرية بأسلوب شاعري تسميها سارة برنارد «Poesie prose» التي يمكن ترجمتها: «الشعر المنثور» أو Poems prose على ما أذكر ـ كما نترجمها نحن:
«قصيدة النثر»؟ أيهما بودلير الحقيقي؟ أو أين كل هذا التراث الشعري من المدارس الأدبية المختلفة الكلاسيكية والرومانتيكية والبرناسية والرمزية وغيرها من الشعر الذي يقيم وزنا كبيراً للموسيقى التي يجب أن تصاحب الشعر من خلال الوزن والتقنية لدى الأوروبيين، كما لدى الشعراء العرب عبر آلاف السنين. أرجو ألا يُفهم من كلامي هذا على أنه دعوة إلى إلغاء ما صار متداولاً من شعر عربي يلغي الوزن والقافية، وأعني ما نسميه الآن «قصيدة النثر». لتبقى هذه القصيدة، ولكن ليس وحدها بل إلى جوار نظام آخر يُعنى بالموسيقى، وليس أن يكون خاضعاً بالضرورة للبحور الخليلية. لقد كُتب الكثير عن هذا الموضوع وأهمه في اعتقادي كتاب الناقد والباحث السوري المعروف كمال أبو ديب تحت هذا العنوان: «في البنية الإيقاعية للشعر العربي» وتحته عبارتان مهمتان أيضاً هما: «نحو بديل جذري لعروض الخليل» و«مقدمة في علم الإيقاع المقارن» راجيا من جميع الشعراء المحدثين ان يقرؤوا هذا الكتاب بعناية خاصة، ولهم بعد ذلك ان يختاروا العروض التي يريدونها شريطة أن تكون لها موسيقاها التي لا نجدها في قصيدة النثر.
٭ شاعر سوري
شوقي بغدادي
توصل الشاعر والناقد والبروفيسور الفلسطيني ( عزالدين المناصرة ) في كتابه الشهير ( إشكالات قصيدة النثر ) الصادر عام 1998 في طبعته الأولى – والصادر في طبعته الثالثة ( 651 صفحة ) عام 2015 عن دار الراية بعمان- الأردن- توصل الى نتائج شبه حاسمة حول قصيدة النثر من بينها:
أولا:قصيدة النثر نص مفتوح مشروع.. أما الضجيج حول ( غياب الوزن وغياب الشرعية ) فهو ضجيج مفتعل ومصطنع من قبل بعض كتاب قصيدة النثر الضعاف لكي تظل تحت الأضواء الصحافية في الميديا. ولم يقل أي ناقد في تاريخ النقد العربي بأن ( ألفية بن مالك) هي شعر بل أجمع النقاد أن ( الوزن وحده ) لا يصنع شعرا.
ثانيا: متعة الإيقاع المنتظم ضرورية في الشعر .. أما إيقاع قصيدة النثر فهو مهموس وغير منتظم.
ثالثا: ( الشعر المنثور) هو الفصل الأول من قصيدة النثر العربي.. وأمين الريحاني هو الرائد الفعلي لقصيدة النثر في مرحلتها الأولى.
وهناك مرحلة وسطى في الثلاثينات والأربعينات … أما جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس وشوقي أبي شقرا فهم يمثلون المرحلة الثالثح8
أفضل كتاب في مجال قصيدة النثر هو ( إشكالات قصيدة النثر : نص كشكولي مفتوح ) عام 1998 الذي صدرت طبعته الثالثة عام 2015 عن دار الراية بعمان لمؤلف الشاعر والناقد الفلسطيني ( عزالدين المناصرة ) ويقع في ( 651 صفحة ). كما قال الصحافي الناقد اللبناني جهاد فاضل .
عندما صرح الشاعر المناصرة عام 1997 بأن قصيدة النثر هي ( كتابة خنثى ) وأنه استوحى هذا المصطلح من ألأ سطورة اليونانية ( هيرمس- أفروديت )= الأنسان الكامل- قامت القيامة ضده حيث هوجم كتابه ( إشكالات قصيدة النثر: نص كشكولي مفتوح ) بشراسة لا نظير لها حتى قارنته جريدة القاهرة ب الهجوم على كتاب طه حسين ( في الشعر الجاهلي ) 1926.
– لكن المفاجأة حدثت عام 2000 حين ترجمت راوية صادق ( الجزء الثاني – صفحة 211) من كتاب سوزان برنار ( قصيدة النثر ) فقد جاءت المفاجأة من سوزان برنار نفسها التي ذكرت مصطلح ( الشكل المخنث= قصيدة النثر ) . عند ئذ تراجع بعض الذين هاجموا كتاب الشاعر المناصرة.
المصيبة أن كل هاو اصبح يسطر بعض الكلمات ويبعثرها على أسطر الصفحات يقدمها بكل جراة على انها قصيدة نثرية. والمصيبة الأكبر أنه يجد من يمجد عمله ويعطيه لقب الشاعر الكبير .