باريس ـ من سليم البيك: في فيلمه الأخير يواصل المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون مقاربته السيكولوجية للمسألة الجنسانية، ففي فيلمه العام الماضي «شابة وجميلة» روى قصّة طالبة فرنسية تقرّر ممارسة البغاء مع رجال أغنياء، بمقابل مادي، بدون أن تكون بحاجة فعلية لهذا المقابل إنّما لدافع نفسي، يخصّ ذاتها ورغبتها في أن تعيش هذه التجربة. في فيلمه الأخير «صديقة جديدة» (Une nouvelle amie)، والمعروض حالياً في الصالات الفرنسية، يتناول أوزون الجنسانية في موضوع آخر أقرب للتحوّل الجنسي، ضمن مقاربة سيكولوجيّة كذلك، وهي المقاربة التي تطغى على معظم أفلامه باختلاف مواضيعها.
يروي الفيلم في سياق التشويق (ثريلر) السيكولوجي، إنّما بهدوء تطبعه الشخصيّتان الرئيسيّتان فيه: كلير (أناييس دوموستيير) ودافيد (رومان دوريس)، يروي قصّة صديقتيْن منذ الطفولة، كلير ولورا. تكبران معاً وتتزوّجان، تموت لورا وتتعهّد لها كلير أثناء تأبينها بأن ترعى طفلتها وزوجها دافيد. بعد أيام تمرّ كلير من أمام بيت دافيد، لم يكن الباب مغلقاً فتدخل لتجده مرتدياً فستاناً للورا وشعراً مستعاراً أشقر كشعرها وواضعاً مساحيق على وجهه، رأته حاضناً طفلته متّخذاً دور أمّها.
بهتت كلير للوهلة الأولى، ثم استوعبت وتكيّفت مع الحال الجديدة لدافيد، ويمضي الفيلم في معظمه بتصوير العلاقة الجديدة المعقّدة التي تنشأ بين الاثنين، كلير وفيرجينا، وهو الاسم الذي أوجدته كلير لدافيد المتنكّر بشخصيّة امرأة، كي تبرّر خروجها المتكرّر ومكالماتها الهاتفية أمام زوجها، جيل.
يطرح أوزون شخصيّة معقّدة في الفيلم وهي دافيد/فيرجينا، ضمن أداء مقنع جدّاً لرومان دوريس، في اتخاذه شخصيّة فيرجينا بأدائه الأنثوي، وحين ينقلب تماماً في شخصيّة دافيد، الرجل. وليس الحديث هنا عن مثليّ جنسياً، فليست لدافيد ميول لأبناء جنسه، وهو ما ظنّته كلير في مرحلة من الفيلم، وقلقت أن يخطف دافيد الذي ظنّته مثليّ، زوجها الذي كذلك ظنّت للحظة بأنه مثليّ.
يأتي هذا ضمن شخصيّة كلير محدودة الأنثويّة، تقوم بدورها ممثّلة حسناء إنّما، باستثناء ارتدائها فستاناً أسود في سهرة ومرّة أحمر اختارته لها فيرجينا، يغلب على لباسها بنطالونات وبدلات عمل، ومعطف أسود وقميص عقدت أزراره إلى آخرها، في تباين واضح مع فيرجينا التي يشتغل دافيد على مظهرها الأنثوي بشكل دقيق بدون أن يفلت منه شيء، من الشعر إلى الكعوب.
ليس دافيد مثليّ إذن، إنّما لديه ميول منذ الطفولة لارتداء ملابس النساء والتشبّه بهنّ، اختفت هذه الميول بعد زواجه من لورا، صديقة كلير، ثمّ عاودته بعد موتها، ونرى دافيد مرتاحاً أكثر بشخصيّة فيرجينا منه في شخصيّه الأساسية. كما أنّ المسألة لا تُدرج بشكل تام ضمن التحوّل الجنسي (ترانسجندر)، ودافيد لم يبد رغبة في ممارسة الجنس مع الرجال بكل الأحوال، وهو ما يضع حالته ضمن خانة الهويّة الجنسية بمعناها السيكولوجي والاجتماعي، أو بتعبير أدق نقول: الهويّة الجندريّة.
في مشهد من الفيلم تنجذب كل من كلير وفيرجينا لبعضهما جنسياً فتشرعان في الممارسة، بدون أي إيحاء من حيث الأدوار في هذه الممارسة إن كنّا نرى دافيد أم فيرجينا، وإن ابتدأت كفيرجينا، وفي المقابل فإنّ كلير لم تكن واعية إن كانت تشرع في ممارسة الجنس مع فيرجينا ضمن علاقة مثليّة وميول لم تفصح عنها كلير، أم أنها تمارسه مع دافيد بدون وعي منها كذلك، منجذبة لشخصيّة الرجل فيه.
لكنّها حالما تنتبه، وفي اللحظات الأولى من الممارسة، إلى أنّه رجل، تقفز عنه وتعي فجأة ما كانت تفعله، فلا هي منجذبة لفيرجينا جنسياً ولا هي تمارس ذلك مع دافيد الرجل، ارتدت ملابسها على عجل وخرجت بعدما قالت له إنّه رجل ولا يصحّ ما يفعلانه.
صرخ هو بأنّه امرأة، امرأة وليس رجلاً. وهو في الممارسة لم يكن متّخذاً دور الرجل بالتأكيد، ولا دور المرأة بشكل حاسم، لندخل هنا في عدّة طبقات سيكولوجيّة في ما يخصّ الهويّة الجنسية لديه، فدافيد الرجّل يميل لاتخاذ شكل وحالة امرأة، ثم يتصادق مع كلير كامرأتيْن، ثم ينجذب لها جنسياً كامرأة، فهو الرجّل يتّخذ أخيراً حالة امرأة مثليّة منجذباً لامرأة أخرى.
أما كلير الساذجة والمنجذبة لفيرجينا التي تذكّرها بصديقتها لورا، والمشفقة عليها كما على دافيد، تتوه في الطبقات السيكولوجية لدافيد إلى أن تعي فتقز عن السرير وتخرج مسرعة.
يستمر الفيلم وتستمر علاقة الصداقة بين كلير وفيرجينا. زوج كلير الذي يشكّ بعلاقة بين دافيد وزوجته، لن يسهل إقناعه بطبيعة العلاقة المعقّدة بين الاثنيْن، وذلك إلى أن يتعرّض دافيد لحادثة فتضطر كلير لإخبار زوجها بما يدور. العلاقة بين الثلاثة تستمر، كلير كزوجة جيل وصديقة فيرجينا، فيرجينا التي ستحلّ دائماً محلّ دافيد.
يقارب الفيلم مسألة الهوية الجنسيّة لدى دافيد، ومن خلال تأثيراته على كلير التي تواطأت معه ليصير فيرجينا منذ اليوم الأول فعلّمته كيف يضع المساحيق وكيف وماذا يرتدي، رافقته إلى مراكز التسوّق وساعدته في مراحل تحوّله اجتماعياً ونفسياً إلى فيرجينا، لكنّها طوال ذلك لم تكن متأكّدة تماماً مما تفعله، تتراجع بين لحظة وأخرى ثم تعود صديقةً لفيرجينا، علاقة ليست بريئة تماماً لكنها ليست انجذاباً جنسياً لا كامرأة (أومو) ولا كرجل (إيتيرو).
هي غالباً علاقة في ظلّ صديقتها منذ الطفولة، لورا الحاضرة الغائبة دائماً، لأنّ فيرجينا في النهاية تتشبّه بلورا، شكلاً ومضموناً، وهو ما يجعل كلاً من دافيد وكلير حريصيْن على إبقاء فيرجينيا هذه، هو لافتقاده زوجته وهي لافتقادها صديقتها، هو ليحقّق رغباته الدفينة في التحوّل لامرأة وهي لتعبئة فراغ سبّبه رحيل لورا، تعبئته بالطريقة الأمثل، بزوج لورا متشبّها بها.