عندما يمرر لك أحد أصدقائك خبراً ملغوماً مفاده أن: مقالتك على طاولة الوزير. تشعر بأن الجُملة ناقصة، وبحاجة إلى استكمال أو توضيح. وحينها تجتاحك نوبة من الأسئلة المربكة. عمن أوصل المقالة إلى الوزير؟ ولماذا؟ وهل وُضعت على طاولته هكذا بمفردها، أم أُرفق بها تقرير مزدحم بالتفسيرات والمقترحات؟ وهل نُقلت إليه كما هي مكتوبة في الجريدة؟ أم خضعت لعملية جراحية لزوم الاختصار المخل؟
أي هل يمكن أن يكون أحد مستشاريه قد تبرع باختزالها وتأويلها بالنيابة عن الوزير؟ والأهم إن كان الوزير سينتبه إليها بالفعل من بين كل الأوراق والملفات المسجاة على طاولته، ويطالعها كقارئ؟ وبالتالي، أيمكن أن تكون محل اهتمامه أو نصيبها سيكون نصيب أي ورقة من الأوراق التي يطالعها يومياً؟
لست الوحيد الذي يقال له إن مقالتك على طاولة الوزير. وليست المرة الأولى التي تسمع هذه العبارة المغوية. ولن تكون الأخيرة بالتأكيد. ما دمت تنتمي إلى فصيل من الكُتّاب الذين يكتبون بشغف وحرفية وجدية. ولن ينتابك أي هاجس أمني لأنك تتحرك في المناطق الآمنة مهما كان منظور المتقرئين لكتاباتك، أي في الفضاءات الفكرية الجمالية التي تقترح تأثيث الحياة بالفن والأدب والمعرفة. وما تكتبه لا يحمل أي إشارات مبطّنة، بقدر ما هو مكتوب بلغة صريحة وسافرة. وهو بالتأكيد موجه إلى قارئ في المقام الأول وليس إلى الوزير ومستشاريه إلا بصفتهم قراء. وهنا قد تتوهم أن الوزير سيجتمع ببعض مستشاريه ليتحاوروا حول مقالتك، ويفكروا في إمكانية تحويلها إلى برنامج عمل ثقافي. وربما يوبخ خبراء التخطيط الثقافي في مكتبه عن سبب غياب تلك الأفكار عن مخيلتهم، وقد يستدعيك ليستأنس برأيك الثقافي ويتباهى بصداقتك.
ستتغابى كغيرك من المثقفين الرومانسيين، وتتناسى المقولة الشهيرة للماريشال النازي جوبلز (عندما أسمع كلمة ثقافة أشهر مسدسي) وستوهم نفسك بأن هذه المقولة ما هي إلا دعاية رخيصة حتمتها المواجهة العسكرية الأيديولوجية ما بين المتقاتلين في الحرب العالمية الثانية. وستستدعي من ذاكرتك كل وزراء الثقافة المتحدرين من الشعر والفن والأدب، كأندريه مالرو وجاك لانغ وثروت عكاشة وغيرهم. الذين عقدوا صداقات مع المثقفين واستناروا بآرائهم. ولن يمر بخيالك أبداً أن هؤلاء كانوا جزءاً من سلطة لها مرئياتها وبرامجها وخططها. وستطرد من بالك تلك المواقف الباردة التي جمعتك ببعض وزراء الثقافة، الذين أبدوا فيها من التصنّع والتكلّف وادعاء الثقافة ما جعلك تكره لحظة اللقاء وتتمنى أن ينقضي بسرعة.
سلة مهملات الوزير أكبر وأوسع مما يحتمله خيالك، أما مقالتك فلن يحتمل الوزير بقاءها على طاولته أكثر من تلك اللحظات التي ستحط على الطاولة ورقة أخرى، ولا يحملك خيالك على التصور أبداً أنه سيطويها ويدسها في جيبه وهو في طريقه إلى اجتماع مجلس الوزراء، أو إلى بيته حرصاً على قراءتها. فأنت مجرد كاتب ضمن آلاف من الكُتّاب. وبمعنى أدق أنت مشروع خروف في حظيرة كحظيرة فاروق حسني الشهيرة، التي كانت المعادل الممسوخ لمزرعة حيوانات جورج أورويل. وكل ما تكتبه يُنظر إليه بعين الريبة. نعم، ريبة المستشارين الذين يعملون كرقباء، أو من خلع عنهم إرنستو ساباتو صفة المثقفين، ووصفهم بالشرذمة المسعورة المنذورة لإحراق كُتب الفكر والأدب. وذلك بمقتضى عقائدهم الهمجية وعقدهم النفسية. فالرقيب مهما بلغ من الثقافة ليس بمقدوره سماع ثرثرة الأزهار على اللوحة، كما يستنتج رينيه غاي كادو وهو ينضد أجمل الأزهار على ضفاف قصيدته.
من أخبرك بأن مقالتك على طاولة الوزير، لن يكلف نفسه عناء متابعة ما آلت إليه، ولن يكون رسولك الخفي إلى مكتب الوزير، فهو مكلّف بإيصال رسالة على طريقة: أقتل حاملها، إذ سيختفي من أمامك كما يموت المؤلف في المعجم التنظري لرولان بارت. وعليك حينها إما أن تقضي أيامك مؤملاً في اتصال أو ردة فعل أو إيضاح، أو أن تتناسى تلك الهدية المسمومة وتواصل الكتابة ضد الفشل المادي والروحي للإنسان. بمعنى أن تقاتل على نهج سيمون بوليفار الذي حلم بتحرير وتوحيد أمريكا اللاتينية، وهو يحمل مشعل كتب جان جاك روسو، أو أن تقنع بذلك التلويح، إلى حافة اليأس، إذ لا شيء ينطوي على المعنى سوى اليأس الذي ينبغي أن يصاحب القناعة، ويعادل إحدى الراحتين لتهتدي إلى أخلاقية الحياة.
الثقافة، أو هذا الهدير المقبل من أعماق التاريخ، بتعبير ريجيس دوبريه، لا محل لها في برنامج الوزير بالمعنى الذي تحلم به، فهو الامتداد العضوي للمؤسسة المستألئهة. ولذلك ستتخثر مقالتك على طاولته، ولن يكون لها ذلك الهدير أو حتى الأثر الضئيل الذي توسوس به نفسك لك. والأجدى أن تسأل نفسك: أشاهدت وزيراً يتأبط جريدة؟ أما قرأت عن المثقف الذي صار وزيراً فنكّل بمجايليه وأصدقائه من المثقفين؟ وعندها ستتأكد أنه ـ أي الوزير- إذا جمعك به موقف فلن يتذكر أنه قرأ لك في يوم من الأيام جُملة واحدة. حتى إن تذكرك فسيتجاهلك لأسباب لا يستطيع عقلك المجبول على الثقافة فهمها واستيعاب مبرراتها، فالوزير لا يجس الحياة بمجساتنا نفسها، فهو لا يستخدم حسابه في تويتر أو الفيسبوك إلا لإصدار التعليمات وتوزيع التهاني. فتخيل كم هو محروم من التماس مع الناس والكُتّاب والقراء، وكم هو مأزوم بلعنة الطاولة.
يخسر كثيراً من يجعل الوزير قارئه الضمني.. يخسر فكرته.. يخسر خطابه، بل يخسر نفسه، وأنت تعلم أن الكتابة عمل على درجة من القداسة وينبغي لك كإنسان وكاتب أن لا تهين نفسك بنفسك بالاستغراق في حلم ساذج. فهذا الخيط الضئيل من الأمل الكاذب الذي يستحوذ عليك ينم عن حُبّ بائس. وهو يحدث من جانبك فقط. وعندما تنام وتصحو وأنت تسمع رنين مقالتك على طاولته فكأنك تنحاز بإرادتك وكامل وعيك إلى تسجيل إسهامك ككاتب في خانة الأسباب الوضيعة للكتابة، حيث الوجاهة والمال والشهرة، وبالتالي فأنت تسمح للوزير بأن يفهرسك على جدول أعماله، أو بمعنى أدق، كورقة ضالة على طاولته.
٭ كاتب سعودي
محمد العباس
بورك فيك صديقي محمد العبّاس، مقالتك ساخرة وموجِعة في آنٍ، هكذا يجب أن تكون الكتابة: سهامًا عاصفةً لا تطيشُ.