هناك تحدّ بالنسبة إلى المسلم المعاصر، الذي يجد نفسه أمام ضرورة التفكير من جديد في دلالات الأديان وتقييمها اللاهوتي، وأن تفتح من جديد صفحات من تفكيرنا الديني، الكلامي منه والفقهي، خصوصا وفق ما تدعو إليه شروط السياق التاريخي الجديد، وما تطرحه مكتسبات العلوم الإنسانية المعاصرة، بالنظر إلى تحدّيات العصر، التي جعلت الفكر الإسلامي يجد نفسه بين مسلم محافظ يُرفض الاستماع إليه، وآخر يُنظر إليه «بعين الارتياب» على حدّ تعبير فوزي البدوي..
وقليل من النظر والبحث الجادّ في الموروث الفلسفي الإسلامي، بمحدّداته الشكلية والمضمونية، يثبت أن رغبة الفلاسفة المسلمين في التوفيق بين الدين والفلسفة – الحكمة والشريعة حملتهم على مخالفة الكثير من آراء فلاسفة اليونان، وعلى تجاوز منوالي الشرح والتلخيص، نحو نقد الرافد الموضوعي والموروث من جهات علوم الأوائل، فأربوا بذلك على من تقدّمهم في هذه العلوم، بعد أن حذقوا فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها بحثا وتحقيقا، تكوينا وتحصيلا. وتُفسّر محاولات المصالحة بين الشريعة والفلسفة والوحي والعقل، والنقل والرأي في البيئة الثقافية العربية الإسلامية، السعي الدّائب منذ بداية التئام عناصر الثقافة العربية الإسلامية إلى تحقيق التطابق بين العلم والعمل بالعلم، وإلى تثبيت التّماثل بين مطالب الفكر وقواعد السلوك، من جهة أن العقل والعلم والفضيلة خصال عملية أكثر منها صفات نظرية، الأمر الذي جعل قضية التوفيق بين الدين والفلسفة من أهمّ القضايا التي شغلت بال فلاسفة المسلمين، إضافة إلى مسائل أخرى كانت لها موضوعاتها الخاصة، انكبّ الفلاسفة على إيجاد الحلول لها استدلالا وبرهانا، ومنها مشكلة العلاقة بين الله والعالم، وقضية الفعل الإنساني بين الحرية والجبر ومشكلة الوحدة والكثرة، وقضية النبوّة والسعادة وغيرها من القضايا الكبرى.
وهو فهم عبّرت عنه الفلسفة الإسلامية، بما هي فلسفة عقلية تعتدّ بالعقل اعتدادا كبيرا، وتقوم أيضا على أساس من الدين، فهي فلسفة دينية وروحية عندما تُعوّل على الروح وتحلّل فكرة الألوهية تحليلا شاملا ودقيقا، تكشف عن الحقائق الكلية بمدد سماوي وفيض علوي، وكمالها في أن تسمو عن طريق النظر والتأمّل إلى مرتبة الاتصال بالعالم العلوي، وفي ذلك يدعم الوحي العقل الإنساني ويؤيده في طلب الحقيقة. وهي فلسفة توفيقية من جهة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، والتوفيق بين الفلسفة والدين والعقل والنقل، تعبيرا عن الحقيقة الواحدة، وإن اختلفت الطرق المؤدية إليها، وهذا الإيمان بوحدة الحقيقة هو الذي حمل الفارابي على الجمع بين رأيي الحكيمين، وبين معطيات الوحي ومعطيات العقل، وإذا كان قد بذل مجهودا عظيما في إثبات النبوّة، إثباتا عقليا وعلميّا، فمردّ ذلك إلى رغبته في الردّ على الذين يحاربون جميع الأديان، وينكرون النبوّة وكثيرا ما كان يؤوّل النصوص الدّينية تأويلا موافقا لنظرياته الفلسفية. حتّى أنّ ابن سينا لم يأخذ بنظرية الفيض إلاّ للتوفيق بين ما جاء في فلسفة أرسطو من القول بقدم العالم، وما جاء في الدّين من القول بإبداعه، وهو ينحو نحو الفارابي في تفسير النبوّة تفسيرا علميا .
ويعدّ هــذا التوفيق بين الآراء المتعارضة، أبرز ما تتميّز به الفلسفة الإسلامية من الصفات، فالكندي لم يوفّق بين طريق العلماء وطريق الأنبياء إلاّ لاعتقاده أنّ الحقيقة واحدة، والفارابي لم يوفّق بين رأيي الحكيمين إلاّ لإيمانه بوحدة العقل ووحدة الحقيقة الدينية والفلسفية. وهو جهد تأسيسي واصله «ابن سينا» الذي أخذ بنظرية الفيض ليوفّق بدوره بين القول بقدم العالم والقول بخلقه و»ابن رشد» الذي حاول جاهدا التوفيق بين ما ورد في الشّرع وما أدّى إليه النظر البرهاني والاستدلال المنطقي والتدليل العقلي، اعتقادا منه أن الحق لا يضادّ الحق، وإذا أدّى النظر العقلي إلى ما يخالف ظاهر النصّ، أمكن رفع التعارض بينهما بطريق التأويل. وهو ضرب من وعي الفيلسوف المسلم بأنّ التّمييز بين النظرة الكونية الدينية والنظرة الكونية الفلسفية تمييز سطحي تماما، فالنظرة الكونية الدينية التي تسعى لفهم نفسها فكريّا تصبح فلسفية، ومن ناحية أخرى فإنّ النظرة الكونية الفلسفية إذا كانت عميقة حقّا، فإنّها تتخذ طابعا دينيّا.
غلب على فلاسفة المسلمين التوفيق بين الحكمة والشريعة، منذ اتصالهم بالفلسفة اليونانية، فالكندي يرى أن صدق المعارف الدينية، إنّما يُعرف بالمقاييس العقلية معرفة لا ينكرها إلاّ الجاهل، والمعرفة العقلية والمعرفة الدينية عنده لا تختلفان إلاّ في الظاهر، حتّى لقد وصفه البيهقي بأنّه جمع في بعض تصانيفه بين «أصول الشرع « و»أصول المعقولات».
وفي محاولاته التوفيق بين معطيات الفلسفة وآيات القرآن، اعتبر الكندي أن التناقض الظاهر بينهما أحيانا، والذي حمل بعضهم على محاربة الفلسفة ونُكرانها يُحلّ بالتأويل، ذلك أنّ للكلام معنى مجازيا يتخفّى وراءه المعنى الحقيقي، وبآليّة التأويل يستطيع من هو من «ذوي الدين والألباب» أن يعتبر منطوق بعض الآيات مجازا يشير إلى معان يصل إليها بالتأويل. ومن جهته شغل الفارابي بفكرة «التوفيق» بين أعلام الفلسفة اليونانية والبعض الآخر وبين الروافد الفلسفية والشريعة الإسلامية، وهو في ذلك يجمع بين الأرسطية والأفلاطونية، والأفلاطونية المُحدثة، ونستنتج من تجربة الفارابي في الجمع بين آراء الحكيمين على خطأ نسبة ما استند إليه أنّـه كان مؤمنا بوحدة الفلسفة، وبعدم تغيّرها بتغيّر الزمان والمكان، وأنّـه يقول بوحدة العقل إيمانا منه باتّفاق الحكمة والشريعة ووحدة الفكرين الديني والفلسفي، تعبيرا عن الحقيقة الواحدة. وينسحب الأمر بدرجات متفاوتة على سلفه الكندي، وعلى خلفه الشيخ الرئيس ابن سينا، فكأن التيارات الغربية انصبّت بكل سماتها ومفارقاتها في جدول الفكر العربي، فعادت مزيجا قد يبدو للعيان متنافرا، لولا سمة «العقل» التي غلبت عليه، فكانت مشكلتهم الرئيسة هي أن يوازنوا بين ما نزل به الوحي من حقائق، وما كان العقل الإنساني قد أنتجه قبل ذلك، ليروا أين يلتقي هذان المصدران وأين يفترقان، وكانت النتيجة الأساسية التي انتهوا إليها في تحليلاتهم، أنّ المصدرين إنّما تنبثق منهما حقيقة واحدة بعينها ولا تناقض أو تعارض بين ما تقتضيه العقيدة الدينية وما يقتضيه العقل بمنطقه. ورغم ما وقع من صراع بين أهل النقل وأهل العقل عند دخول الفلسفة اليونانية إلى الوسط الإسلامي، فإنّ العالم الإسلامي اتّسع للفلسفة، واحتضن أصحابها وشجّعهم من جهات شتّى، «فلو أنّ الإسلام لم يكن سوى الدين الشرعي أي دين الشريعة، لما وجد الفلاسفة مكانهم فيه، ولوجدوا أنفسهم أمام باب مشتبه».
نخلص بذلك إلى أنّ أهمية الفلاسفة العرب والمسلمين تكمن في أنهم تصدّوا مباشرة للمغامرة في فضاء القول الفلسفي، لتطرح بذلك الفلسفة الإسلامية الكثير من القضايا النظرية التي عكفت عليها في تاريخها الذهبي، رغبة في تجاوز الإشكالات الفلسفية التي صاغها الأوائل، بما يوحي بقابليتها على التنظير للمدينة الفاضلة أو الدفاع عن العقيدة الجديدة حينذاك بما يقتضيه النظر في قضايا الألوهية، والنبوّة والوجود والعالم من داخل مقتضيات البيئة الثقافية العربية الإسلامية بمركزيّتها الثقافية الأصلية، لتفتكّ بذلك الشرعية ضمن الإرث الفلسفي الإنساني، وهو أمر يدفعنا إلى البحث في مسؤولية أهل النظر الفلسفي «اليوم» التي تبدو في قلب أولويات الإنتاج المعرفي، من جهة مطلب تجديد السؤال النظري وإحياء الاستعمال الفلسفي الإسلامي بالانخراط في سؤال الذات والأخلاق والقيمة، تجديدا للنظر في مستقبل العلوم المتعلّقة بالاجتماع الإنساني ومنهجه. وهو دور مرتقب ومنشود للفكر الفلسفي العربي الإسلامي المعاصر، استجابة إلى تحدّيات العالم العينيّــة، الإسلامية والإنسانيّـــة.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي
“وهو أمر يدفعنا إلى البحث في مسؤولية أهل النظر الفلسفي «اليوم» التي تبدو في قلب أولويات الإنتاج المعرفي، من جهة مطلب تجديد السؤال النظري وإحياء الاستعمال الفلسفي الإسلامي بالانخراط في سؤال الذات والأخلاق والقيمة، تجديدا للنظر في مستقبل العلوم المتعلّقة بالاجتماع الإنساني ومنهجه. وهو دور مرتقب ومنشود للفكر الفلسفي العربي الإسلامي المعاصر، استجابة إلى تحدّيات العالم العينيّــة، الإسلامية والإنسانيّة.” انتهى.
يبقى السؤال الهام والمسكوت عنه غفلة او مواربة :من يقدر أن يقوم بعمليات التجديد؟
السؤال يبدو ساذجا ولكنه مفصلي..
أقدر أن شرطا جوهريا ،أساسيا ومبدئي إذا أهمل كان العقم والغيبة ،شرطا إنتبه إليه خامس أعظم عقول الحضارة الإسلامية ،أعني ابن خلدون : أعني” الامتلاء بالشرعيات “.جاء ذلك في أخطر وأخطر فصول المقدمة :” إبطال الفلسفة وفساد منتحليها “.يعلن بين خلدون :وأما قولهم إن الانسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فامر مبني على أن ابتهاج للنفس بادراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لان الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية وألوانها وقد بينا أن أثر السعادة والشقاوة من وراء الادراكات الجسمانية والروحانية.. فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها والله الموفق للصواب وللحق والهادي إليه وما كنالنهتدي لولا أن هدانا الله “.
وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات”…