يعدّ دار عامل تعز، المرحوم محمد الباشا، أشهر مقيل أدبي وسياسي وثقافي أيضاً. وكان والدي مع صديقه الدائم الشيخ يحيى منصور بن نصر الحاج، والقاضي العلامة عبد الرحمن الحداد، والمناضل العلامة عقيل عثمان عقيل وغيرهم يتوجهون دائماً للمقيل في دار محمد الباشا. وكان فعلاً ملتقى أدبياً وسياسياً يجتمع فيه بعض من استطاعوا الإفلات من سيف الإمام أحمد وجبروته الذي جزر بسيافيه رؤوس شهداء من أبرز رجالات اليمن، علماء وأدباء ورجال قبائل، بعد فشل ثورة 1948. وكان نجل عامل تعز، أحمد محمد الباشا، أحد الأوائل الذين فروا إلى عدن وكونوا «حزب الأحرار» عام 1944.
كانت أسرة «بيت الباشا» من أعرق الأسر في تعز وأكثرها جاهاً ومالاً ولها شعبية على مستوى المدينة ونواحيها (…) وزاد الحقد عليهم إثر فشل ثورة 1948 وعودته [الإمام أحمد] من حَجَّة بعد أن أباح مدينة صنعاء وجميع المدن والقرى اليمنية للنهب والسلب وأصبح إماماً وملكاً على اليمن ونقل عاصمة مملكته من صنعاء إلى تعز حيث استقر في قصره الجديد في قرية «صالة»؛ لكن الأحرار والأدباء والسياسيين المثقفين ممن نجوا من سيفه وسطوته ما زالوا يتواردون ولو خفية إلى دار عامل تعز، تجذبهم الكتب والمجلات المصرية التي كان العامل مشتركاً بها أو التي كانت تصله بوساطة العلامة حيدرة، من عدن.
حاول الإمام أحمد جاهداً جذب الأدباء والشعراء إلى قصره في «صالة»، مغدقاً عليهم الموائد العامرة والمساجلات الشعرية لكي يمنعهم من التوجه إلى بيت العامل؛ لكنهم ظلوا على صلة حميمة بدار عامل تعز، وعندما صرخ في وجوههم بأنه سيجز رؤوس العصريين بسيفه غادروا مرة أخرى فراراً إلى عدن.
في غفوة من الإمام أحمد استطاع أحد المغامرين فتح مقهى خارج «الباب الكبير» على نمط مقاهي عدن، وأسماه «قهوة المخاء»، كان يقدم فيه بعض المشروبات الغازية وأشهرها «الكوثر» و»الكاكولا» التي يستوردها من عدن والشاي باللبن، وفيه ثلاجة تعمل بلمبة كاز للماء البارد وحبات الثلج لـ»مخزّني» القات! كان هذا المقهى ملتقى «الدراولة» سائقي الشاحنات وبعض من وجهاء المدينة، وأكثرهم من المثقفين الناقمين على الوضع.
كنت وصديقي نهرب من «المدرسة الأحمدية» لكي نعرف هذا المقهى الجديد الذي ذاع صيته. نقف أمام شرفته الخارجية نتفرج على «النجوم» وهم جالسون على كراسي خشبية وأمامهم على المناضد قوارير العصائر وكؤوس «الشاهي باللبن» ويدخنون السجائر، بأحاديثهم الصاخبة ونقاشهم المستفيض كأنهم في إحدى حانات أوروبا، والسائق «الرصابي» مهموم في وسطهم يواسونه بتقديم الحلول والأمل بإصلاح حافلته.
كان بودي أنا وصاحبي أن نتذوق ولو لمرة واحدة في حياتنا شراب «الكاكولا» الذي ذاع صيته بأنه شراب مُسكر، أو على الأقل نحتسي الشاي باللبن إذا أمكن. وكانت معجزة أن هذه الثلاجة تفرز البَرَد الذي كنا نتسابق على التقاطه عند هطول الأمطار في قرانا.
لا أدري كيف استطعنا، أنا وصديقي، إقناع ذوينا بمضاعفة «الجعالة» اليومية من «بقشة» إلى ربع ريال لمرة واحدة فقط! جلسنا على كرسيين بجوار الثلاجة، متعمدين ذلك، نكاد نضحك من الفرحة. طلبنا قارورتين من «الكاكولا» ودفعنا الثمن مقدماً بعد أن شك صاحب المقهى بقدرتنا على دفع الثمن وأوشك على رمينا خارج المقهى!
وضع النادل «القارورتين» أمامنا وفتحهما فتصاعدت منهما رغوة عجيبة. نظرنا بعضنا إلى بعض. وبعد تردد توكلنا على الله وشربنا منها. شعرت بلذعة في حلقي. وكان بحوزتنا «كُدْمتان» من الخبز استعنا على ابتلاعهما بذلك المشروب اللذيذ. فتحت الثلاجة، لأن أحدهم يريد ثلجاً على مشروبه. كم كانت الدهشة حقاً أن نرى «المعجزة» حقيقة!
عدت مع زميلي إلى المدرسة ونحن نترنح كالسكارى ونضحك ونتحدث بصوت مزعج، مما دفع بحارس بوابة المدرسة إلى أن يماطل بفتح الباب بعد أخذ ورد و»سين وجيم»… حتى زملاؤنا في المكان الكبير فتحوا أكياس نومهم لنحكي لهم العجاب!
(*) فقرات من كتاب «الانبهار والدهشة»، مشاهدات من السيرة الذاتية للروائي اليمني الكبير، منشورات رياض الريس، 2000.
زيد مطيع دماج