بالتأكيد لا أريد أن أحدثكم عن حكاية (ثياب الإمبراطور) رغم المعاني العميقة التي تحملها، فالكل بات يعرفها، لكنني أريد أن أتناول جانبا سوسيولوجيا يكاد يكون متواريا في تناول الشخصية العامة في السياسة، وتحديدا الرئيس.
والجانب هو ملابس الرئيس، ما يرتديه الرئيس، لأن الملبس يمثل جزءا مهما من الشخصية العامة، هو بمثابة العتبة الأولى التي تقدم فيها الشخصية العامة نفسها للمجتمع، وبالتالي فملبس الرئيس يحمل رسائل وشيفرات يمكن قراءتها للفهم اولا وللمتعة ثانيا.
وربما كان ملبس الأشخاص العاديين لا تترتب عليه أهمية كبيرة، لأن دور الشخص العادي محدود، وبالتالي فإن حريته فيما يرتدي تتحد بالضوابط الاجتماعية والثقافية والذوقية في المجتمع الذي يعيش فيه، بينما يختلف الأمر مع الشخصيات العامة كالرؤساء والقادة والزعماء، لأن مظهرهم العام يمثل جزءا من شخصيتهم الاعتبارية التي تمثل جزءا من مكانتهم الاجتماعية، لذلك يجب التقيد بنمط محدد من الملبس تمليه بالاضافة إلى ما سبق قواعد البروتوكول والاعراف السياسية.
وبشكل عام هنالك نوعان رئيسان من الملبس، هما الزي المدني والزي العسكري، فإذا كانت الشخصية عسكرية أو ذات خلفية عسكرية وتسنمت منصبا رئاسيا، فإننا نجد الرئيس في هذه الحالة يرتدي الزي المدني أحيانا والزي العسكري في مناسبات محددة، تحتم عليه الظهور كقائد أعلى للقوات المسلحة مثلا، أما الشخصيات المدنية فإنها تتقيد بنوع من الملبس يمكن أن ينقسم بدوره إلى نوعين أساسين، الاول هو ما يعرف بالملابس الاوروبية التي باتت شائعة ومعروفة، أما النوع الثاني فهو ما يعرف بالملابس التقليدية للبلد، وهي متنوعة بحسب الثقافة المحلية لبلدان العالم، وهذا ما نلاحظه في بلدان افريقيا وآسيا بكثرة، فتجد الرئيس مرتديا ملابس اوروبية في بعض المناسبات الرسمية، بينما يظهر في بعض الأحيان بالزي المحلي في المناسبات الوطنية.
في العراق ومنذ تأسيس الدولة الحديثة بعد الحرب العالمية الاولى كان الملك ورؤساء الحكومات يرتدون الملابس الاوروبية، الا في بعض المناسبات التي ظهر فيها الملك المؤسس فيصل الاول في بداية قدومه للعراق مرتديا الملابس الممثلة بالثوب العربي والعباءة والشماغ والعقال الحجازي، لكنه وبشكل عام اصبح يرتدي الزي الاوروبي في حياته اليومية وفي المناسبات الرسمية، كما أن رؤساء الحكومات والوزراء كانوا في بداية العهد الجديد يرتدون البدلة الاوروبية مع الطربوش الاحمر المعروف في العراق باسم (الفينة) على طريقة الافندية الاتراك، وعندما بحث الملك فيصل الاول عن رمز يوحد العراق عبر ترميز هوية الملبس وتوحيده لجأ إلى استبدال الطربوش العثماني كغطاء رأس بالسدارة، التي باتت تعرف بـ(الفيصلية) وشاع استعمالها بشكل رسمي منذ منتصف عقد العشرينيات لتشكل هوية عراقية جديدة مفارقة للهوية العثمانية. وكما أن ملابس الاحتفالات الرسمية كانت مختلفة، فحفلات التتويج وافتتاح البرلمان التي يلقى فيها خطاب العرش كانت تستوجب من الملك أو من ينوب عنه ارتداء البدلة العسكرية الخاصة بالاستعراضات مع القبعة العسكرية العالية ذات الريش، وهي الملابس العسكرية الاحتفالية البيضاء للجيش البريطاني، بينما كانت مثل هذه الاحتفالات تستوجب من الشخصيات المدنية ارتداء بدلة «الروندنجوت» ذات الجاكيت طويل الذيل أو السموكنغ مع الفيصلية كغطاء رأس وتعليق الاوسمة الرسمية اذا كان الشخص حاصلا على أي منها.
مع اسقاط الحكم الملكي ومجيء الحكومات الجمهورية التي يقودها العسكر، أصبحت البدلة العسكرية هي الزي الرسمي، فرئيس الوزراء العراقي في اول حكومة جمهورية الزعيم عبد الكريم قاسم كان لا يظهر الا بملابسه العسكرية، وقد بحثت كثيرا في شبكة المعلومات عن اي صورة رسمية للزعيم قاسم مرتديا الملابس المدنية فلم أعثر الا على صورة يتيمة ظهر بها الزعيم ببدلة غامقة وربطة عنق في افتتاح إحدى الفعاليات في معرض بغداد الدولي، لكن مع من جاءوا بعد الزعيم قاسم من العسكر بات الامر مختلفا، فالرئيس عبد السلام عارف كان قد تحول إلى الملابس المدنية بعد أن اصبح رئيسا، وهو بذلك كان متبعا خطى مثله الاعلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي خلع بزته العسكرية مبكرا وتحول للملابس المدنية.
وبمناسبة ذكر الرئيس عبد الناصر، يذكر الكاتب محمد حسنين هيكل أنه بعد حركة الجيش في 23 يوليو 1952 وتنازل الملك فاروق عن العرش لوريثه الملك فؤاد، تشكلت الحكومة برئاسة علي ماهر باشا، وكان لزاما على مجلس قيادة الثورة التنسيق مع الوزارة الجديدة، مما استدعى إرسال مجموعة من الضباط إلى منزل الباشا لتبليغه بخطط ورؤية مجلس قيادة الثورة والاتفاق على اداء الحكومة، ولأن ضباط المجلس كانوا من صغار الضباط ومن الطبقة الوسطى أو الدنيا في المجتمع وجدوا حرجا في نقص معرفتهم بالاتيكيت المتبع في قصور وسرايات الباشاوات، كما أن ملابسهم العسكرية لم تكن بالمستوى اللائق للتعامل مع الباشا، مما جعل عبد الناصر يصرف لهم مخصصات مالية خاصة تصرف على هندام ضباط مجلس قيادة الثورة ليبدوا لائقين بمنصبهم الجديد. ولم يشذ عن قاعدة ازدواج الملابس العسكرية والاوروبية من رؤوساء العراق الجمهوري الا الرئيس الاسبق صدام حسين، الذي لم يكن اصلا رجلا عسكريا، لكنه منح بعد ذلك رتبة فريق أول ركن، وأصبح الرجل الثاني في القوات المسلحة بعد القائد العام الذي هو الرئيس احمد حسن البكر، الا أن الرئيس صدام حسين ومنذ تسنمه منصب الرئاسة ادخل المنصب إلى متاهة من الملابس، تارة كانت تقرأ على انها بحث عن هوية عراقية شاملة، وتارة تعزى لتأثره بوضع ما أو شخصية عالمية، فبعد عودته من زيارته إلى كوبا قبيل تسنمه منصب الرئاسة، بات الرئيس الجديد يظهر بملبس غريب هو الملابس العسكرية مع ارتداء الشماغ العربي الاحمر الذي كان يلفه على رأسه بدون عقال مع تدخين السيجار الكوبي الكبير، مما جعل البعض يشير إلى تأثره بالرئيس الكوبي كاسترو، ببدلته الكاكية وقبعة العمليات الخفيفة، والسيجار.
وإبان عقد الثمانينيات ولأن البلد كان يخوض حربا ضد إيران، فإن الرئيس كان لا يظهر الا بالملابس العسكرية، لكنه كان في الاحتفالات يرتدي ازياء صنوف مختلفة من الجيش، وفي احتفالات العراق بايقاف الحرب يوم 8/8/1988 ظهر الرئيس في ساحة الاحتفات الكبرى وهو يرتدي الزي العربي بالثوب الابيض والعباءة السوداء والغترة البيضاء والعقال، وبذلك يكون اول رئيس عراقي يظهر بالملابس العربية، وكانت صور وجداريات الرئيس المعلقة في كل مكان في العراق تظهره وهو يرتدي البدلة الاوروبية أو الملابس العسكرية أو العربية أو الكردية وزي التخرج من الجامعة وهو يحصل على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بغداد، وفي عقد التسعينيات بات الرئيس يرتدي حتى قبعات الكابوي أو قبعات الفرو مع الجاكيت الجلدي في عدد من زياراته.
بعد الغزو الامريكي للعراق الذي أطاح حكم صدام حسين ظهرت الطبقة السياسية الجديدة، وكان أحد الأمور اللافتة ملابسهم التي كانت تشي بقلة الذوق، باستثناء بعض الشخصيات المعروفة بأناقتها كعدنان الباججي واحمد الجلبي، واختفى مظهر الرئيس العسكري تماما، فالرئيس غازي الياور طالما تمسك بالزي العربي التقليدي بينما لم يظهر الرئيسان جلال طالباني وفؤاد معصوم بملابسهما الكردية التقليدية نهائيا، والتزما بالبدلة الاوروبية، ربما منعا لإثارة حساسية موضوع أن منصب رئيس الجمهورية بات من حصة الكرد.
بالمقابل نجد رؤوساء الحكومة والبرلمان شخصيات لم تتميز بأناقتها، وما يلفت النظر أن هذه الشخصيات التي شغلت هذه المناصب كانت تبدو وكأنها حديثة عهد بالملابس الرسمية والتصرفات البروتوكولية. ومع تصاعد الحرب ضد عصابات «داعش»، اصبح الكثير من الساسة وبضمنهم رئيس الحكومة يظهرون بالملابس العسكرية الخالية من الرتب عند زيارتهم للقطعات أو حضور الاجتماعات الرسمية، في رسالة واضحة مفادها اننا نقاتل مع القوات المسلحة ومتواجدون في ساحات المعركة حتى إن كان بعض الساسة يرتدي الزي العسكري لالتقاط الصور واستخدامها في الدعاية الحزبية فقط.
كاتب عراقي
صادق الطائي
إذا ارتدى رئيس الجمهورية ملابس تخالف البروتوكول والأعراف السياسية ، فمن يحاسبه ؟!!.
وهل يُجبَر على اللباس ؟