من أجل تونس… والوطن العربي

في البداية كان عنوان هذا المقال غيره. كنت أريد أن أسميه انتقاليات، إحالة إلى مفهوم رددناه كثيرا خلال الأعوام السابقة لكننا حللناه قليلا.
المفهوم، «انتقالي»، بتجلياته وتفريعاته وتمظهراته العديدة من مرحلة انتقالية وانتقال ديمقراطي وحكومة انتقالية وحكم انتقالي وما شابهها من عبارات منسوجة على منوال جهاز مصطلحات العلوم السياسية التي اعقبت الثورات العربية. لكن في خضم التقصير التحليلي لهذه المسميات والعودة إليها التي تشكل سياق هذا المقال، تطرح نقطة نفسها منذ البداية، وهي الرحم الذي انبثق عنه حديثنا المتواصل عن «الانتقاليات» في منابرنا الشتى، والرحم تونسي بامتياز.
فتونس هي التي أدخلتنا في محددات جديدة لحركة التاريخ يمكن أن تحتضنها جميعا مظلة واحدة، ماذا لو سميناها الحقبة الانتقالية؟ للحقبة أولا دلالة تنتمي إلى حقل تاريخ الأفكار، لا تحتويها «المرحلة» التي تمت أكثر إلى التطبيق العملي للتنظير السياسي. وإذا كانت انتقالية الحراك والتلوينات الحكومية والتشكيلات الحزبية المرتبطة بـ»فترة انتقالية» مرشحة لأن تستغرق فترة محددة زمنيا، فالمرشح للفكر الانتقالي أن يدوم ويتمدد بما يرميه من تأصيل لديمقراطية الممارسات والسنن والمطامح. وهنا مكمن الحديث. فلئن كانت حركة التاريخ لا تني تحمل إلينا أياما من النزاعات والتهديدات المزعزعة لصرح ديمقراطي لا يزال هشا، فإن المنعرج الفكري الذي حملته إلينا أحداث الربيع العربي أحضر معه في المقابل صرحا يمدنا بدواعي التفاؤل بمستقبل زاهر، مهما أصابه من تعثرات وإن تكن دموية. فالمقياس الذي تنطق الحقبة الانتقالية بلسان حاله يعلو على انتقالية المخاض، ليصبح طرفا من كتابة التاريخ، وسيبقى الخط التونسي خطا كتب به وجه جديد من تاريخنا المعاصر.
كان المستشرق الفرنسي الكبير ريجيس بلاشير قد تحدث عن «اللحظات المنعرج» في تاريخ الأدب العربي. ونستطيع أيضا تطبيق عبارة «اللحظة المنعرج» في تاريخنا السياسي الحديث، دلالة على اختراق فكر «الحقبة الانتقالية» لأدبيات السياسة.
إنها هدية الديمقراطيات الوليدة، أن تقدم لنا جهازا مفاهيميا لم يعد قابلا للتجاهل، لأنه لا ينفك يتطور بتطور مطالب الشعب. إنها اللحظة المنعرج بامتياز، تلك التي تستهدف -أخيرا – مباشرة نقاط الرئيس ويلسون المعروفة بحق الشعوب، كل الشعوب، في تقرير مصيرها.
تأتي هذه السطور في سياق تبني قرار أممي بالإجماع حول ضرورة التوصل لوقف إطلاق النار وإطلاق عملية تفاوضية برعاية الممثل الخاص للأمم المتحدة بين السوريين بهدف الاتفاق على معالم مرحلة انتقالية تمتد لـ6 اشهر.
نعم.. لقد عادت تطل بنا العبارة الانتقالية، وكدنا نشدد على الباء فنتحدث عن العبارة الانتقالية. وهذا ما يحيلنا على كلمة «حقبة» من جديد، الحقبة التي تضرب جذورها في الزمن الممدد المرجح له أن يشمل ليس شهورا ولا سنوات وإنما يشمل أجيالا. وإذا كانت الحقبة ستشمل أجيالا فطوبى لها. الحقبة الانتقالية حقبة الحقب، ولها رسالة، وهي أن تمتص المراحل بما فيها الأكثر سوداوية وجلبا للاستنفار، أعني العمل الإرهابي.
أجل، تونس الفتــــــية بثورتها، هي التي أوحت لي بأن الانتقالي ليس مجرد مرحلي بل هو فكري.
لقد زجت خصوبة الحراك التونسي الشعب العربي في حراك ترقى به الشأن السياسي بمعناه اللوني الانحيازي إلى معناه الأصلي المتوج للمواطن، كركيزة من المدينة التي تنهار من دونه. أدركت تونس السياسة في معناها الأصلي، وأدركته في العمق وإلا، لما تسمت بالدولة…المدنية.
تونس الخضراء، شعلة أمل الشعوب العربية رغم المصاعب، رغم عسر المخاض، رغم ويلات الدهر.. لكن تونس الخضراء أيضا ترجع بصاحب هذا المقال إلى ذكريات الطفولة الفذة. فقد كانت تروج في طفولتي روايات سلسلة كتب للأطفال تدعى المكتبة الخضراء. ومن بين روايات المكتبة الخضراء سلسلة «بيل وسيباستيان» للكاتبة الفرنسية التي شبت وترعرعت في المغرب سيسيل أوبري. وكانت سلسلة أوبري الروائية الشهيرة قد تحولت إلى مسلسل تلفزيوني للأطفال تجري حكاياتها في توزر. ولا أذكر إن كان المسلسل قد صور في توزر حقا أم في أستوديو أجاد ديكوره نقل نكهة المدينة الخاصة. لكن كل ما أذكره، وهو الأهم، أنه حال انطلاق موعد بث البرنامح لدى عودتنا من المدرسة عند الخامسة مساء على القناة الأولى للتلفزيون الفرنسي، كنا نترقب هذه الصور التي تأتينا بالأبيض والأسود فيطل فيها الولدان بيل وسيباستيان وفرسهما الأسود، تارة في سوق مكتظ وأخرى في واحة فتجري القصة. وكم كنا سعداء بقدوم الحلقة المنتظرة فنردد «تونيزي تونيزي…» في لهفة كانت أقرب إلى مفتاح للخيال منه إلى اسم بلد كنا نجهله اسما وجغرافية وشعبا.
ثلاثون عاما تقريبا مضت على هذا الحدث الذي عشته وأنا لا أعرف من العربية حتى كلمة العربية. ثلاثون عاما عرفت تونس بعدها فأبقتني في حماس طفولي واحد تكاد تجعلني أردد كلمة «انتقالي» على شكل «تونيزي» طفولتي ذاته، تلهفا لمشاهدة مسلسل الديمقراطية التعددية المستقرة في الوطن العربي قلبا وقالبا.

٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

بيار لوي ريمون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية