من أجل رشديّة جديدة

حجم الخط
1

حضرت في مدينة قفصة التونسيّة أكثر من لقاء أدبيّ وفكريّ، غير أنّي أكاد لا أتميّز من هذه اللقاءات سوى اثنين: أوّلهما مع محمود درويش عام 1995 احتفاء بتجربته الرائدة (حضرها شعراء وكتّاب نقّاد معروفون أمثال محمّد بنّيس وصبحي حديدي ولطفي اليوسفي ومحمّد الغزّي وأولاد أحمد وصاحب هذا المقال)، وثانيهما لقاء الأسبوع الماضي مع المفكّر التونسي يوسف الصدّيق؛ حيث قدّمت أكثر من ورقة فكريّة يستأثر بها جميعا هاجس واحد كنت سمّيته في مقال سابق «إعادة ترتيب العلاقة بالنصّ». والنصّ إنّما هو النصّ الديني بكلّ مظانّه وحوافّها قديمها وحديثها، بما في ذلك تلك التي تثير لغطا وسجالا كبيرين، مثل بحوث باتريشيا كروون أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة برنستون؛ وما تزعمه من أنّنا لا نمتلك دليلا قويّا على وجود القرآن بأيّ شكل من الأشكال قبل العقد الأخير من القرن السابع ميلادي؛ وأن كان عملها «التجارة المكيّة وظهور الإسلام» له شأن مختلف، ولعلّه يسلّط بعض الضوء على حقبة من تاريخ العرب لا تزال محفوفة بغموض لا ينضب.
على أنّ ما يعنيني في هذا الحيّز فكرة «الرشديّة الجديدة» التي بلورها أستاذ الفلسفة والجماليّات المعز الوهيبي. ولا يتعلّق الأمر ببيان ما إذا كان بعض مفكّرينا يتّخذ من فلسفة ابن رشد (520 هـ/592 هـ)/ (1126 م/1198م) منوالا أو منهاجا يقتدي به؛ فكلّ منهما يكن نصيبه من المعرفة، يظلّ ابن عصره. وكلّ يستثمر معارف ومناهج مختلفة محكومة بمؤثّرات تاريخيّة وثقافيّة مختلفة. على أنّ ذلك لا يحول دون القول بأنّ الرّشديّة من حيث هي اشتغال فكريّ على موروثها الدّينيّ، وعلى بيئتها الثّقافيّة تتمثّل براديغما (أو منوالا تفسيريّا) يمكن أن نقرأ في ضوئه إسهام مفكّرينا المستنيرين في المَباحث الإسلاميّة الحديثة. وأمّا الرّشديّة الجديدة فليس المقصود بها الاشتغال على المتن الرّشديّ؛ فذلك ينتسب لا محالة إلى تاريخ الفلسفة. ونحن نعرف أنّ فلاسفة الأندلس عامّة إنّما كانوا يتجادلون ويساجلون، في حيّز الحدود المسموح بها.
وكان ابن رشد المعروف في الغرب بـ»أفوريوس» يتجاوز أحيانا بعض تلك الحدود. ولا ننسى أنّه سليل عائلة قضاة وفقهاء، بل كان هو نفسه قاضيا في إشبيلية وقرطبة، ولكنّه فرّ منها عندما أحرقت كتبه ومنع من دخول المسجد الكبير. ونقدّر أنّ ذلك ممّا شحذ فكره وحذرَه في آن. ويروى أنّ السلطان أبا يوسف سأله يوما عن حقيقة السماء، فتريّث في الإجابة، وهو العالم بالفلك. حتى إذا أصرّ السلطان واستفسر ما إذا كانت جوهرا أزليّا أم أنّ لها بداية؟ أدرك ابن رشد أنّ صاحبه عارف بأعمال قدماء الفلاسفة، ومن ثمّة بيّن بحذر كيف أنّ السبل العقلانيّة أنجع من المعتقد الديني. ولكن دون أن يكشف عن أيّ منزع مادي كان يمكن أن يفضي به إلى موت محقّق. والحقّ أنّ هذا السلطان هو الذي حفز ابن رشد إلى شرح بعض أعمال أرسطو، لما كان يستشعره فيها من غموض وهي شروح نهضت بتحقيق غرضين، كما يقول الدارسون: أحدهما تنظيم جزء كبير من أعمال أرسطو، والآخر تقديمها المعرفة العقلانيّة من حيث هي قيمة فكريّة في ذاتها، إلى كافّة الناس.
قد يكون من الجائز إذًا القول بأنّ الرّشديّة الجديدة المنشودة في عالمنا العربي المضطرب، هي استئناف النّظر الذي سلّطه ابن رشد على العلاقة بين الشّريعة والحكمة، في سياق مشروع فكريّ؛ ربّما كان سيفقد الكثير من نجاعته، لو لم يسعَ إلى شقّ طريق أمام الفلسفة، حتّى تنفذ إلى الفضاء الثّقافيّ المغربيّ والأندلسيّ. وهو ما استوجب من ابن رشد الاضطلاع بمشروع تصحيحيّ آخر يتولّى تدبّر شأن العقائد من داخلها؛ سعيا إلى مراجعة أحكام المتكّلمين، و»وثوقيّة» أبي حامد الغزالي. ومع ذلك؛ فمن نكبات العرب المتلاحقة، أن  سُدّت هذه الطّريق قرونا عقِب ما يعرف بنكبة ابن رشد. ولعلّها نكبتنا نحن أيضا.
قد يتسنّى القول وإن تبسيطا، إنّ مشروع  المفكّرين العرب المستنيرين  قد يظلّ هو أيضا دونما جدوى؛ ما لم يحرص على إرجاع النّصّ الديني المقدَّس، بل مجمل المعتقد الدّينيّ إلى بيئته الثّقافيّة مستأنسا دونما خشية سوى خشية العلم؛ بالنّظر الأنثروبولوجي براديغماً.
ولا ننشد من هذا الرّبط بالرّشديّة، استنساخ ابن رشد؛ فشتّان بين عصرنا وعصره. ولو فعلنا لكنّا، بشكل من الأشكال في صميم الأصوليّة نفسها أعني تلك التي تعادي التحديث، وتتصوّر أنّ هناك عصرا ذهبيّا أو حقيقة، ما علينا سوى اكتشافها فاستعادتها؛ فيما كلّ «حقيقة» نسيان لـ»حقيقة» أخرى، أو هي تُبنى بناءً. وإنّما للقول بأنّ أفق التّفكير في الدّين بمقولات لم تألفها «المؤسّسة التّفسيريّة» ولم يألفها «المورث» وهو أفق سبق أن افتتحه ابن رشد منذ تسعة قرون. فليس المقصد من قراءة النّصّ الدّينيّ أنثروبولوجياً إصلاح الدّين، أو حتّى إصلاح قراءات الدّين والنّصّ المقدّس، بل المنشود تحيين القراءة وتنسيب أحكامها، عسى تكون متناغمة ومتطلّبات عصرنا.
لا بدّ ها هنا من التّذكير بالتّمييز بين ضربيْن من القراءة، أكان النصّ أدبيّا أم علميّا: القراءة  المعقودة على «عمليّة التّفكيك والتّركيب المتجدّد للوحدات المعنويّة، ثمّ وصلها مع غيرها من المعاني في ذات النّصّ مع تحديد الموقع والشّخصيّات والأحداث والإشارات التي احتواها النّصّ»؛ والقراءة البنيويّة التي تحتكم أساسا إلى بنية النصّ الداخليّة؛ أي النصّ الذي يُفترض فيه أنّه موجَّه إلى قارئ «يتموقع» في سياق مخصوص، سياق القراءة الأدبيّة أو العلميّة. والقراءة الثّانية على ما يرجّح بعض المفكّرين «تشترط قدرات أقوى وتحمّل العبء الأشدّ عنتا في استحضار المعنى وبسطه». وهي من هذا المنظور أمسّ رحِمًا بالقراءة التّأويليّة، لكن ليس بالمعنى الهيرمينوطيقيّ الخاصّ بتأويل النّصوص الدّينيّة المقدّسة؛ وإنّما التّأويل الذي يتذرّع  أو يتزوّد بمعارف فيلولوجيّة وأنثربولوجيّة، ذلك أنّ ما  ننشده من مثل هذه القراءة، لا يقف فقط على تأويل منطوق القرآن أو ملفوظه، وإنّما يتعدّاه إلى تأويل حدثيّة القرآن المزدوجة والملتبسة في ذات الآن، أي القرآن ملفوظا منجّما على لسان النبي وهو يمليه على صحابته، والقرآن مصحفا جمّعه عثمان بن عفّان. ولا يمكن الاهتداء إلى مضامين هذه الحدثيّة دون إرجاع الحدث إلى سياقه التّاريخيّ وإلى روافده الأنثربولوجيّة، أي الأبعاد والعناصر الثّقافيّة التي تطبع الاجتماع البشريّ في فترة ما وفي بيئة ما. ولنا أن نضيف المعرفة الفيلولوجيّة التي تكشف قصور ما يسمّى «آلة التّفسير التّقليديّ» حيث تولّت «مؤسّسة التّفسير» حجب، بل استبعاد بعض المحاولات التي سعت إلى أن تنفذ من الصّدع الذي ما انفكّت مؤسّسة التّفسير ترأبه. وهي استبعاد بل نسف لهذه المحاولات تكفّلت به السّلطة السّياسيّة التي تنتسب إليها هذه المؤسّسة التّفسيريّة. وقد لا نتردّد في القول إنّها تستحيل في نهاية المطاف إلى نوع من «عطالة للقراءة».  إنّ القراءة لا تعني فقط الاطّلاع على المجهول، وإنّما تعني أيضا الفهم، بل التّفاهم طالما أنّ فعل القراءة معقود على ضرب من الحوار بين كاتب وقارئ.
على أنّ ما شدّني حقّا في لقاء قفصة، الإشارة الذكيّة إلى أنّ النّصّ القرآني «فكر محض»، وأنّه يُعدّ من أهمّ النّصوص التّأسيسيّة في الفكر الإنسانيّ، قد «أقصي من فضاء هذه النّصوص التّأسيسيّة مرّتين: مرّة عندما أقصاه مسلمون  يؤكّدون انتماء القرآن إلى ثقافتهم، ومرّة ثانية من «قبَل نظرائهم الغربييّن الذين رأوا في إقصائه من هذا الفضاء المشترك ما يناسب أهدافهم». وبعبارة أخرى، فإنّ «أهل القرآن» قد ساعدوا منافسيهم أو خصومهم على أن يحرموا القول القرآني من خصلة الفكر المحض. على أنّ ورقة الاستاذ المعزّ تذهب إلى أنّ اعتبار القول القرآنيّ فكرا محضا فإنّما لعلّتين لهما طبيعة تقديريّة أو تخمينيّة أكثر منها حجاجيّة. والأولى كون يوسف الصدّيق مثلا رأى في النّصّ القرآنيّ صدى للّعنة السّقراطيّة الواردة في محاورة «السّفسطائيّ» لأفلاطون: «ينبغي القول إنّ النّقد هو أهمّ أشكال الطّهر والسّيادة، ويجب بالمقابل اعتبار المرء الذي لم يخضع للنّقد، ولو كان الملك الأعظم، كمن أصابه الرّجس الأكبر»؛ فهذه اللّعنة السّقراطيّة تلوح واضحة في هذا المقطع من الآية القرآنيّة «ويجعل الرّجسَ على الذين لا يعقلون»؛ 10، من سورة يونس. والثانية، هو كونه  يعتبر أنّ القول المبلَّغ من النبي ما كان له أن ينخل كلّ عناصر الرّسالة الموسويّة والقول الإنجيليّ، وأن يستكمل تصفية حسابه مع هاتين الرّسالتيْن إلاّ ليلتحق باللّوغوس، أي الانخراط ضمن دائرة «خطاب العقلانيّة في أبعادها الإنسانيّة».
لا يتعلّق الأمر إذن بقراءة النّصّ القرآنيّ كما تفعل المؤسّسة التّفسيريّة، وإنّما بما سكتت عنه هذه المؤسّسة، أي الانتقال  من مستوى تبليغ هذا القول»القرآن» إلى مستوى المصحف.

كاتب تونسي

منصف  الوهايبي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    *
    الأخ منصف،

    ومن المسكوت عنه أيضًا أن الفلسفة التجريبية التي جاء بها الفلاسفة التجريبيون الإنكليز، وعلى رأسهم جون لوك، تقوم على فكرة أن العقل البشري يوجد بادئ ذي بدء كصفحة بيضاء tabula rasa لا شية فيها، صفحةٍ خالية من أي نوع من أنواع المعرفة الحسية أو ما وراءها. وبكلام آخر، إن الإنسان يولد في هذا العالم لا يعرف شيئًا عن نفسه أو عن هذا العالم على الإطلاق، وإن كل ما يكتسبه هذا الإنسانُ من معرفة بشرية أو إلهية لا يأتيه إلا عن طريق التجربة الحسية في هذا الوجود الذي يعيشه بطريقة أو بأخرى. ومن هنا جاء اسم «الفلسفة التجريبية» الذي أُطلق عليها بصفتها فلسفةً «حديثة» تولَّدت عن تلك الفلسفةً المادية «القديمة» التي تكاد أن تُعتبرَ فلسفةً مُلحدةً بامتياز في نظر جميع فلاسفة اللاهوت القروسطيين بلا استثناء.

    وما عليك يا أخي الكريم، في هذه العُجالة من التعقيب المتأخر قليلاً، سوى أن تقارن فحوى المبدأ الذي تقوم عليه نظرية المعرفة في «الفلسفة التجريبية»، هذه التي بدأت في النصف الثاني من القرن السابع عشر، بفحوى نظيرتها في هذه الآية القرآنية اللافتة للنظر بحق:

    «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (النحل: 78).

إشترك في قائمتنا البريدية