اسأل نفسي، أسألكم، واستميحكم عذراً، فلقد اختلطت عليّ الأمور، بحيث لم أعد أعرف من أكون حين استخدم ضمير المتكلم، ومن تكونون حين استخدم ضمير المخاطب. في أناي أنوات لا تحصى، مليئة بجروح الحروب وألم الخيبات، أما المخطب في «أنتم»، فبات ملتبساً، ومليئاً بالانقسامات، بحيث صار الجمع طرحاً وقسمة وانقساماً.
دماؤكم/ دمائي، تحتلّ هذا الفضاء العربي، بحيث امتلأت صحراؤنا بالموت، وتحولت مياه الواحات إلى برك حمراء تعوم فيها اشلاؤنا الممزقة.
أنت يا شعبي تساق إلى المهانة والخراب، وأنا لم أعد أملك كلمات تصف وتصرخ وتناشد وتدعو.
لا شيء سوى الموت الأخرس، لا يحق لي/لنا أن اسأل/ نسأل، فالسؤال صار ملوثاً بأجوبة ملوك الطوائف وانهيارات المعاني.
لا شيء أقوله لكم، لأنني بحاجة إلى ترميم روحي، وروحي لا يرممها سوى أن تكون معكم في العذاب والموت والخراب.
اريد أن أعرف، كي لا يكون موتي بلا معنى. ففي مواسم الموت العربية، علينا أولاً أن نجد معنىً لموتنا الكثير، كي يكون لحياتنا بقية معنى.
ابدأ بالبحث عن الأنا التي أضعتها، ألمّ بقاياها المتشظية، وأضمها إلى بعضها البعض، كي أبني لنفسي مرآة تحمي صورتي من التفكك. أبدأ بالسؤال من أنا، ولن يثنيني عن سؤالي شيء، لا صعوبة التحديد، ولا المستويات المختلفة للجواب، ولا حتى تناقضات هذا الجواب.
أنا فلسطيني لأنني لبناني، وسوري لأنني فلسطيني، وإيزيدي لأنني سوري، ونصراني لأنني إيزيدي، وصابئي لأنني نصراني، ودرزي وعلوي وتركماني وسني وشيعي…
أنا كل هؤلاء.
فلسطيني لأنني أقاوم الاحتلال والقمع والوحشية. أرفع رايات المقاومة، لأن المقاومة حق وضرورة، لا أقاوم لأنني أكره أحداً، أقاوم كي أستطيع أن أحب الجميع، لأنه من دون المقاومة أفقد معنى وجودي كإنسان. في فلسطين يقاوم أهل غزة ومعهم كل الفلسطينيين كي يستعيدوا كرامتهم وحقهم في أن يعيشوا أحراراً. يكسرون أسوار الغيتو بأنفاقهم، ويملأون السماء بصيحات حريتهم. إنهم آخر ما تبقى لي/ لنا، إنهم احتمالي/ احتمالنا الإنساني الذي لا يحق لي أن أضيعه. فإذا ضاع الحلم الفلسطيني ضاع العرب، وغرقوا في أوحال انقساماتهم المصنوعة من جنون الهويات الطائفية المقفلة.
فلسطيني كي أكون مع الذين يُقتلون ويشهدون للحق والحرية. فلسطيني في غزة ونابلس والقدس والخليل والناصرة وحيفا، فلسطيني في مخيم اليرموك وفي مخيمات لبنان المختنقة بما يشبه الحصار.
فلسطيني كي لا يضيع الاتجاه وتسقط المعاني وتنهار القيم.
ولبناني لا لأن هذه البلاد الصغيرة جميلة وتختزن في كل طبقاتها ألم الانسان الذي شقّ الصخر بحثا عن الحياة، بل لأنني أسعى مع الساعين إلى مجتمع علماني لا طائفي، يتحرر من عصبيات القبائل التي لم تتوقف عن تدمير هذه البلاد منذ حرب القرن التاسع عشر الطائفية.
لبناني ضد العنصرية المرفوعة في وجوه اللاجئين السوريين والفلسطينيين، وضد الممارسات الاستعبادية التي تحتل علاقة أغلبية اللبنانيين بالأيدي العاملة الآسيوية والإفريقية.
لبناني في بيروت التي كانت الذبيحة العربية الأولى في مقاومتها وحصارها وصمودها.
وسوري، مع شعب المعاناة الذي قرر مواجهة الاستبداد وحيداً، ودفع أغلى الأثمان، قاوم نظاماً حوّل الهمجية إلى طريقة حياة. سوري مع السوريات والسوريين الذين خانهم العالم، وخانتهم نخبهم وقياداتهم، فتم تسليم ثورتهم إلى قوى العتمة والعته والاستبداد، بفضل تحالف النفطين الخليجي والإيراني في صراعهما على قيادة المنطقة إلى وحول الصراع الطائفي السني- الشيعي.
سوري مع السوريات والسورييين في مآسيهم وهزائمهم، في تشردهم ودمار بلادهم، معهم في دمشق أقاوم المستبد البعثي وفي الرقة ودير الزور أقاوم الوحش الداعشي.
معهم في مخيمات اللجوء وأرصفة التشرد، ومع أن لا يموت حقهم في الحرية مهما كان الثمن.
وإيزيدي، مع هذه الأقلية الدينية التي تواجه الهول في سهل نينوى وجبال سنجار. اللعنة أيها الناس، كيف نترك هذه الطائفة من البشر لمصيرها على أيدي الوحوش؟ كيف نترك الأطفال للعطش والنساء للسبي والرجال للموت؟ يا للهول الذي وصلنا إليه، لا يقولن أحد ان المسؤولية تقع على الآخرين. السلطة الطائفية في بغداد تتحمل مسؤولية انهيار العراق في أيدي الدواعش، مثلما يتحملها الأمريكيون الذين حطموا العراق وأسلموه للغربان. هذا من دون ان نعفي أنظمة الكاز والغاز العربية، التي تنتشي بتدمير الحواضر العربية، في سياق حربها الطائفية ضد عدو وهمي هو الشيعة.
لكنها تبقى مسؤوليتنا اولاً وأخيراً، وعلينا أن نواجه الكارثة ونقاومها لا أن نكتفي بالندب وتحميل المسؤولية للآخرين.
نعم أنا اليوم إيزيدي كالإيزيديين، معهم أرثي بلادي وشعبي، وأعيش الخراب، وأتكلم كرديتهم وأموت لموتهم.
ونصراني في الموصل، أكتب النون بيدي على مدخل بيتي، وأقول للمغول تعالوا واطردوني. النون هي الحرف الأول لكلمة الناصرة، مدينة النور والحب التي ولد فيها الناصري، وهي الحرف الأخير من كلمة فلسطين، بلاد الحق ومقاومة الوحش الصهيوني، أرض الصمود التي اندحر فيها الفرنجة والمغول وعادت إلى اسمها الذي لا يمحى. أفتخر بالنون لأنها مجدي وعارهم، وامتد في بابل الحزينة المحطمة، لا لأرثي، بل لأقول ان هذه البلاد هي للجميع، وأن حروب مجانين الآلهة التي انبعثت من قبور التاريخ لا تقوى عليها.
وصابئي احتضن مياه الفراتين، ودرزي دفاعا عن الحق في الوجود، وعلوي كي لا يسرق المستبد معاناة أجيال ذاقت الاضطهاد، وتركماني وسني وشيعي وإلى آخره…
أن أكون كل هؤلاء في الوقت نفسه هو امتحاني الأكبر. لا تقولوا أيها الناس إننا ابتلينا بتاريخنا الذي لا ندري كيف نتعامل مع مآسيه ووحشيته، بل قولوا إنه امتحان لأنسانيتنا، وتحدٍ لجدارتنا بالحياة.
أن أكون كل هؤلاء، عربيا حين يُظلم العرب، وكرديا حين يُظلم الكُرد، آشورياً وكلدانياً وصابئياً ونصرانياً وإيزيدياً، مسلماً ومسيحياً، لبنانياً وفلسطينياً وسورياً، فهذا يعني أنني أصبحت إنساناً.
التحدي هو أن نكون بشراً، نتعالى عن الانتماءات الدينية والطائفية والإقوامية كي نستحق أن نُدفن في هذا التراب المجبول بآلام اجدادنا، الذين قاوموا الموت وصنعوا الحياة.
أن أكون كل هؤلاء، فهذا يعني إنني كلهم ولا أحد منهم، لأنهم ذابوا في روحي وصاروا تراثي الثقافي واللغوي والديني ، بصفته متعدداً في وحدته.
وهذا له في رأيي معنى أخير، هو أن نصير جميعاً أبناء النكبة، ليس بصفتنا فلسطينيين فقط، بل بصفتنا أبناء هذه الأرض، نحمل معها حلم الحرية وأعباء الألم.
الياس خوري
كلماتك من روح هذا الشعب التواق للخلاص مما حل به ، وهي عمليا المخرج الوحيد للمأساة التي تعيشها امتنا.
وتحياتي لك ايها الصديق الصادق
أحسنت يا أستاذ الياس – بظني أنك لست فقط كاتب
من خلط الأوراق كثير – ولكن المستفيد هو واحد
وهو من بدأ بتشريد الأبرياء من فلسطين
شكرا لغزة لأنها تذكرنا دائما بقضيتنا الأساسية وهي القدس وفلسطين
ولا حول ولا قوة الا بالله
المبدع الكبير المفكّر الياس خوري
هذا المقال قوي جداً ومهمّ جداً وجماله يفوق حتى كتابات الكتب المقدسة
شكراً جزيلاً
ـــــ
((أن أكون كل هؤلاء في الوقت نفسه هو امتحاني الأكبر. لا تقولوا أيها الناس إننا ابتلينا بتاريخنا الذي لا ندري كيف نتعامل مع مآسيه ووحشيته، بل قولوا إنه امتحان لأنسانيتنا، وتحدٍ لجدارتنا بالحياة.
أن أكون كل هؤلاء، عربيا حين يُظلم العرب، وكرديا حين يُظلم الكُرد، آشورياً وكلدانياً وصابئياً ونصرانياً وإيزيدياً، مسلماً ومسيحياً، لبنانياً وفلسطينياً وسورياً، فهذا يعني أنني أصبحت إنساناً.))
رائع جداً…
هذا هو التفاعل، هكذا تبنى الأوطان، هكذا تبنى الإنسانية…..
شكرا جزيلا اخي الياس وانا انت ونحن انت وانا فلسطينيون ولبنانيون ايزيديون ومسيحيون وسوريون يكاد يقضي عليّ الأسى لولا التأسي ومسلم سنيون وعلويون وشسعيون ودرزيون و… ون ون ون ولكنني لادعشيون ولا سعوديون ولاخامئنيون و لا اسديون ولاسيسيون ولا … وانسان ايضا
مقالة في قمة الروعة،تدل على كاتب لدية حسّ و ثقافة عالية،و وعي واصالة فكرية و انسانية.
شكرااااااااااااااااا
Thank you Elias Khuri, the new Khalil Gibran