(1) ثلاثة أيام تفصل بين الذكر المئوية الثامنة لتوقيع «الميثاق العظيم» (ماغنا كارتا) في 15 حزيران/يونيو 1215، والمئوية الثانية لموقعة واترلو (18 حزيران/يونيو 1815)، وكلاهما تعدان انتصارات عظيمة للأرستقراطية البريطانية. الأول كان انتصاراً على الملك جون، شقيق ريتشارد قلب الأسد ووريثه (ونقيضه في المخيلة البريطانية)، حيث فرض عليه النبلاء توقيع تعهد بألا يتغول على حقوقهم المكتسبة. والثاني كان نصراً على نابليون الذي مثل تهديداً أكبر لحقوق، بل وجود، الارستقراطية البريطانية بشعاراته الثورية الراديكالية. إذن حق للأرستقراطية البريطانية أن تحتفل بعيدين بدل واحد.
(2)
يذكر الماغنا كارتا على أنه أعظم خطوة في تاريخ قضية الحرية في العالم، كون تلك اول مرة يفرض فيها على ملك أن يخضع لشروط رعيته (بدلاً من خلعه أو قتله كما كان يحدث كثيراً). فلم تكن المسألة مجرد خلع ملك أو استبداله، بل تغيير مفهوم الملكية وحدود سلطاتها. وقد احتفل مؤيدو الميثاق ببعض العبارات التي وردت فيه، مثل عدم جواز اعتقال أي «انكليزي حر» بدون سند قانوني، وحكم من أقرانه. واعتبرت مثل هذه التعهدات فتحاً عظيماً في مجال إرساء حكم القانون وحقوق الإنسان.
(3)
ليس هناك توافق مماثل حول هزيمة نابليون، وإن كانت الأساطير البريطانية صورت المعركة على أنها كانت نصراً عظيماً ضد تهديدات «طاغية» أجنبي ومثير للفتنة. ولكن أهمية الانتصار من وجهة النظر البريطانية تأتي من كونه نصراً عظيماً على غريم ومنافس قديم، هو فرنسا. ولعل المفارقة هي أن فرنسا الملكية كانت قد أيدت بحماس الثورة الأمريكية ضد التاج البريطاني، ولعبت دوراً حاسماً في انتصارها. ولكن تكلفة ذلك الدعم أدت إلى إفلاس فرنسا، مما دفع الملك إلى دعوة البرلمان للانعقاد لأول مرة منذ أكثر من قرن ونصف. وكان هذا ما أشعل شرارة الثورة الفرنسية التي أنجبت نابليون.
(4)
قادت بريطانيا وحلفاؤها من «الرجعيين» (وعلى رأسهم ألمانيا وروسيا) الثورة المضادة، ولكن هزيمة نابليون لم تحقق ما كانت تصبو إليه، حتى على المدى القصير. فعندما زار خليفة دوق ويلنغتون (القائد البريطاني الذي هزم نابليون) موقع المعركة في بلجيكا بعد فترة قصيرة، وجد أن أكثر التذكارات التي كانت تباع في الموقع تحيي ذكرى نابليون!
(5)
كان نابليون «يهدد» بأنه سيقوم، لو هزم بريطانيا، بإلغاء الملكية وطبقة النبلاء ومجلس اللوردات، وهي قيم يؤيدها اليوم كثير من البريطانيين، وقد طبقت بالفعل عملياً بتحييد الملكية سياسياً وإخضاع مجلس اللوردات معها للبرلمان المنتخب. وفي مناظرة أجرتها مؤخراً كنيسة أنشئت خصيصاً للاحتفال بنصر «واترلو» ونشر قيم الثورة المضادة، صوت غالبية الحضور بـ«لا» على السؤال: هل تعتبر واترلو نصراً يستحق الاحتفال به؟
(6)
ليس هناك خلاف مماثل على أهمية «الميثاق العظيم»، رغم أنه لم يطبق أبداً في حينه. فقد أعلن البابا حينها الوثيقة خروجاً على الدين وأمر بإلغائها بعد أشهر قليلة من إكراه الملك جون على توقيعها تحت أسنة الرماح (رغم أن ممثل الكنيسة في بريطانيا، كبير أساقفة كانتربري، كان هو من أعد الوثيقة لمصالحة الملك والبارونات). وكان الملك جون قد أعلن خضوعه للبابا وتحويل بريطانيا إلى إقطاعية بابوية (هل يذكرنا هذا بقادة ثورة مضادة معاصرين سلموا رقابهم لدول خارجية غنية لمحاربة شعوبهم؟)، مما جعل البابا يقف في صفه. ولكن هذا لم يحل المشكلة، لأن النبلاء ثاروا من جديد.
(7)
في عام 1216، أصدر هنري الثالث، ابن جون ووريثه، الوثيقة في صورة مخففة حتى يحسن موقفه في الحرب، وفي عام 1217، أصبحت هذه الوثيقة أساس صلح جديد لإنهاء الحرب. وفي عام 1225، أعاد هنري إصدار الوثيقة بعد أن مر بضائقة مالية أجبرته على فرض ضرائب جديدة. وفي عام 1297، أعاد ابنه إدوارد الأول إصدار الوثيقة لأسباب مماثلة، وجعلها هذه المرة جزءاً من القانون البريطاني. وقد ظل الملوك يجددون إصدار هذه الوثيقة رغم أنها فقدت قيمتها مع مرور الزمن وزيادة نفوذ البرلمان.
(8)
حين سحق جيش نابليون قوات بروسيا في معركة ينا عام 1806، وصف الفيلسوف الألماني هيغل (الذي كان أستاذاً في جامعة ينا وقتها) تلك المواجهة بأنها «نهاية التاريخ» وانتصار نموذج الدولة الحديثة. وبعد حوالي ثلاثة عقود، كتب كارل ماركس، أحد حواريي هيغل، تعليقاً على انحياز ألمانيا إلى معسكر الثورة المضادة (وقد كان الجند الألمان هم الأغلبية في معركة واترلو): إننا لم نلتحق بركب الحرية إلا يوم دفنها!
(9)
يمكن أن نستخلص من هذه الوقائع أن دعاة الحرية قد هزموا مؤقتاً في الحالين، ولكنهم انتصروا على المدى الطويل، وحققوا انتصارات جزئية على المدى القصير والمتوسط. ذلك أن الثورة المضادة في الحالين لم يكن لها رصيد سياسي وأخلاقي لمواجهة مطالب الثوار في العزة والكرامة وحفظ الحقوق والحماية من السلطة الغاشمة. ولا جدال بأن قيم العدل والكرامة ظلت الحد الأدنى الذي توافق عليه البشر منذ أيام حمورابي. ولأمر ما ظل الطغيان والقهر ورموزه محط البغضاء والإدانة من كل عاقل، وعلى مر الأزمان. فمن يحتفل اليوم بفرعون مصر، أو جنكيزخان أو هتلر؟ فالطغاة ساقطون حتى قبل أن يسقطوا!
٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
د. عبدالوهاب الأفندي
كالعادة ، مقال عميق و ممتع و يستحق القراءة.
ابدعت يا استاذ