لا يدور في خلد المرء بالضرورة أن المفهوم الجغرافي للجزيرة، فضلا عن دلالاته المباشرة على واقع العزلة الترابية، فضاء يمهد لظروف قطيعة نفسية جديرة بتنمية قدرات الإبداع. ولئن استفدت من فترة إجازة توقفت فيها عن نشر مقالي المعتاد، فإنني لم أتوقف لا عن الكتابة ولا عن التفكير.
من جزيرة الجوادلوب، التابعة لمقاطعة لي زانتيي الفرنسية، رافقتني أشعة وهاجة تصاحبها رياح، تارة هوجاء، وتارة ملاطفة للخدود، دائما منعشة، وقد رافق الاثنتين ارتباطي بالقلم. تحصيل الحاصل أنّني مقبل في هذا الموسم الجديد على تغيير نمط كتابة هذه المقالات، حيث سأركز من الآن فصاعدا على فصول ينتظمها قدر المستطاع «خط سير» واحد… وهو سلسلة موضوعها: العالم العربي بعيون فرنسية.
سأبني هذه السلسلة على مجموعة من الأسئلة وجّهت لي على مر لقاءاتي، وتنقلاتي واكتشافاتي في العالم العربي، وأيضا انطلاقا من أسئلة ألقاها من هم أجانب تماما عن اللغة العربية والعالم العربي، وهو عالم طرقت أبوابه منذ فترة تزيد على ثلاثين عاما الآن، إذا أدخلنا في الحساب تاريخ وصولي إلى الديار المغربية طفلا بعد أن قررت أسرتي الاغتراب فيها لسبع سنوات.
ماذا لو بدأنا من البداية؟ ولعل البداية في مدى معرفة الفرنسيين بالعالم العربي. ولعل المدخل إلى بدايتنا يكون من أكثر عتبات الدخول إلى العالم العربي منطقا: دولها. فكثير من الناس، هنا في فرنسا، تسألهم عن عدد الدول العربية، فيعطونك رقما قد يفاجئك في البداية، لكنك سرعان ما تكتشف أنه منطقي: يعطونك، عادة، رقم «ثلاثة»، أو»أربعة» أو ربما «خمسة»، ولا نعدو أن نفهم بأن هذا الرقم، إنما وجب ربطه بعدد دول المغرب العربي الذي يجتهد صاحب السؤال في عدّه على رؤوس الأصابع… ويجتهد بالتالي في تقصير عدد الدول العربية بصورة مروعة لا يمكن لومه عليها لأن فقر المعلومات عن العالم العربي ببلادنا نفسه مذهل، لا ينجو منه إلا «الراسخون في العلم»، من أكاديميين أو صحافيين مختصين.
لكن شهرة العالم العربي بفرنسا تزايدت في العقد الأخير وبشكل مفاجئ عندما اقتحمت قناة فضائية عربية المجال الإعلامي، لتجعل بقية العالم ومنهم الفرنسيون لا يحتاجون حتى إلى معرفة العالم العربي، فما بالك بإتقان اللغة العربية، ليسمعوا عن العالم العربي. فقناة الجزيرة الآن على وشك الاحتفال بمرور خمسة عشر عاما على نشأتها، ولا بد من الإقرار بأنها ساهمت مفصليا في نقل صوت العرب إلى سواهم.
لكن الفرنسيين ـ وإن أدخلوا في حساباتهم وجود عالم عربي يتحرك مدعوما، زمن الثورات العربية، بمؤسسة إعلامية عرفت كيف تستثمر وضعا معلقا عليه أكثر من رهان، فإنهم لم يتسلموا ما ندعوه بالفرنسية «مفاتيح فهم» هذا العالم وطرق فك شيفراته. فمن شرح للأمة الفرنسية مثلا أن ثمة منعرجين تاريخيين ظل العرب يعتبرونهما مرتبطين بمصيرهم وقد أفرد لهما الإعلام مساحة غير مسبوقة: إعادة صياغة القومية العربية أولا، ثم تحقيق أنظمة ديمقراطية ليست وليدة استنساخ تشريعي أو تنفيذي وافد من إسقاطات نظريات علوم سياسية غربية. فقومية هي الجزيرة لأنها جمعت مشارب واتجاهات بين إسلامي وليبرالي وعلماني وحداثي… ومفعّلة لمبادئ النقاش الديمقراطي بتكريس نموذج المناظرة التلفزيونية الذي ما برح استثناء إعلاميا في السابق ليغدو قاعدة في صنع الرأي من الآن فصاعدا.
وناجحة باتت الجزيرة لأنها تمخضت عن نواة إعلامية تكوّن فيها السواد الأعظم من طاقمها، وهي «هيئة الإذاعة البريطانية» ـ بي بي سي». لقد أطلقت القناة في نشأتها بالون اختبار تمثل بتفعيلها مبدأ» الرأي والرأي الآخر» الذي روجته دار بوش هاوس، فكرست الجزيرة نمط المناظرة التلفزيونية باتجاه جديد مّثل سابقة. إذ حصرت بي بي سي العربية مناظراتها طويلا في تفاعل تميز بطابع أكاديمي، تفسيري، تربوي ، على نمط أحد أقدم برامجها، أضواء (Focus )، ولم تتجه لطابع المناظرة الصدامية إلا أخيرا، بعد نشأة تلفزيون الـ»بي بي سي»، نقلت «الجزيرة» منذ البداية مبدأ الرأي والرأي الآخر ـ ولا نقول رقّته ولا هبطته ـ إلى مصاف مزدوج القوام أحدهما صدامي والآخر تفسيري تربوي. وتميزت سياسة القناة بتأرجح مختار وواع يغلـــبه هذا الاتجــــاه أو ذاك حســـب طبيعة البرنامج الذي تريده للمتلقي. من هنا أتى سر النجاح: الامتثال بطيف واسع من الأشكال والألوان، أشكال وألوان نطقت بلسان اتجاهات وميول الرأي العام العربي، فصار أساس مشهد إعلامي فضائي عربي رائد.
كان صعبا على الرأي العام الفرنسي ـ خاصة من لا يتقن العربية – أن يدرك هذه الخصوصية المنبثقة عن مدرسة إعلامية غريبة عن المدرسة التلفزيونية الفرنسية التقليدية الأقل تفاعلية والأكثر توجيهية. ولكن كان سهلا عليه أن يدرك أن هناك حراكا ورهانات قائمة تسلك سكة جديدة.
السكة الجديدة، فرصة تمنحها وسائل الإعلام لتقريب المجتمعات فيما بينها. وهي فرصة لا تعوض. لكن امام تحقيقها، لا يزال الطريق بعيدا. فتقريب غير العرب من المجتمعات العربية يستدعي سابقة أخرى: تأسيس محطات فضائية ناطقة بلسان غير عربي. لقد أنشأت شبكة الجزيرة الإعلامية قناة Aljazeera english، التي يشهد بمهنيتها الكثير من أصدقائي الأكاديميين البريطانيين والأمريكيين والخبراء في الحضارة الأنكلو- ساكسونية. أما الفرنسيون، فمنتظرون نصيبهم من هذا الإبداع، أيا كانت المؤسسة، وعلى الدرجة ذاتها من المهنية. وقد سبق لصاحب هذه السطور أن عبر عن كامل استعداده للانخراط في هذا المشروع، ففرنسا أمام تحديات التثاقف الحضاري، بل في مقدمتها إذا أخذنا بعين الاعتبار دبلوماسيتها الرائدة التي نسعى إلى استرجاعها. فلا بد لوسائل الإعلام الناطقة بالفرنسيةٍ أن ترقى إلى هذا المستوى.
٭ كاتب أكاديمي وإعلامي فرنسي
بيار لوي ريمون
السيد بيار لوي،اهلًا بك من جديد بعد هذا الغياب ،انا أوافقك فيما تقدمت به ،حيث انني أعيش في دول الغرب اكثر من أربعين سنة وتجولت في بلاد كثيرة والتقيت بأناس من كل الأجناس وكل المستويات،فالعامة منهم معلوماتهم عن العالم العربي ضعيفة جدا جدا،حيث كثير منهم عندما يتكلم لي عن البلاد العربية يشمل كلامه ايران وتركيا والباكستان ،وما انزل الله من سلطان،هم يعرفون انهم مصدرون للبترول،ولا يفقهون. شيء من الحضارة او العلم،السؤال هل تعجز دول البترول عن انشاء محطات تلفزيونية بلغات اجنبية وفي معظم الدول الغربية ناطقة بلغتهم،؟