انطلق «أسبوع الكتب الممنوعة» عام 1982، من أمريكا، ويُقام سنوياً في الأسبوع الأخير من شهر أيلول/سبتمبر، وتكفي إشارة، على الفور، إلى أنّ عدد الكتب التي مُنعت أو صودرت أو تعرّضت لملاحقات قضائية بلغ، منذ ذلك التاريخ الأوّل، 11.300 كتاباً، في الولايات المتحدة وحدها.
للمرء، بالطبع، أن يقول عن العالم العربي: حدّثْ، ولا حرج! وإذا صحّ النبأ الجديد (وقد أكده لي، شخصياً، الصديق الروائي والشاعر السوري سليم بركات)، حول مصادرة روايته الأحدث «سجناء جبل إيانونو الشرقي»، التي صدرت عن المؤسسة العربية في عمّان مؤخراً، فإنّ الرقيب الأردني لم يشأ تفويت أسبوع الكتب الممنوعة دون الإدلاء بدلوه وثمة، في الواقع، سجلّ حافل هنا، سواء على صعيد الرقيب ذاته مباشرة، أو في مستوى لجوء دائرة المطبوعات والنشر إلى مقاضاة هذا الكاتب أو ذاك.
ويتوجب القول هنا إنّ سجلّ القضاء الأردني انطوى، في المقابل، على وقائع مشرّفة، ومشجعة تماماً،
كما في انتصار القاضي نذير شحادة للناشر والكاتب الأردني فتحي البس، في الشكوى التي رفعتها دائرة المطبوعات والنشر الحكومية ضدّ كتابه «إنثيال الذاكرة: هذا ما حصل»، الذي كان قد مُنع من التوزيع فور صدوره، خريف 2008، حيث خلص القاضي إلى أنّ الكتاب لم يخالف قانون المطبوعات، ومؤلفه بريء من سلسلة التهم التي ساقها الادعاء.
ثمة قضايا أخرى تفاوتت فيها حظوظ الكتّاب مع القضاة، كما في الدعاوى ضدّ إسلام سمحان ومجموعته «برشاقة ظلّ»، وموسى حوامدة، في «شجري أعلى»، وإبراهيم نصر الله في أعماله الشعرية، طبعة 2006 (لأنّ الرقيب كان قد سكت، أو تغافل، عن طبعات سابقة لنصوص تعود إلى عام 1984!)، وطاهر رياض، في «لا ينطق عن الهوى»، وشاكر النابلسي، في «بالعربي الفصيح»، وصقر أبو فخر، في «الدين والدهماء والدم»، وضافي الجمعاني (نزيل سجن المزّة السوري، طيلة 23 عاماً)، في «من الحزب إلى السجن»…
لكنّ الحكاية المفضّلة عندي، في ملفّ رقابة الكتب، هي تلك التي تعرّض لها موريس سينيه، أحد كبار رسّامي الكاريكاتير المخضرمين في فرنسا، قبل سنوات قليلة، بعد أن قاضته «رابطة مناهضة العنصرية ومعاداة السامية»، الـ Licra، بتهمة «التحريض على الكراهية العنصرية». ولقد فُصل الرجل من عمله في أسبوعية «شارلي إيبدو»، المطبوعة ذاتها التي أعادت نشر الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية المسيئة لشخص الرسول محمّد، بذريعة الدفاع عن حرّية التعبير!
أمّا الحكاية، موضوع الشكوى، فهي التالية: نشرت يومية «ليبيراسيون» تصريحاً على لسان باتريك غوبير، رئيس الـ Licra، قال فيه إنّ جان ساركوزي، نجل الرئيس الفرنسي السابق، سوف يتزوج من وريثة مخازن «دارتي» الشهيرة، وأنه يفكّر في الاهتداء إلى اليهودية والتأقلم مع ديانة خطيبته. رسّام الكاريكاتير اقتبس التصريح بالحرف، ولكنه أضاف إليه العبارة التالية: «هذا الفتى سوف يذهب بعيداً»، وكانت تلك هي خطيئته الكبرى التي استوجبت سوقه إلى محكمة الجنح. استهداف سينيه بدا وكأنه استئناف، على نحو ما، لقضية أخرى سبق للرابطة أن رفعتها ضدّ الرجل، عام 1985، بالتهمة ذاتها، لأنه اعتبر أنّ إسرائيل تتساوى مع جنوب أفريقيا في صفة الدولة العنصرية. قبلها، صُرف سينيه من عمله لأنه لم يكتف بالدفاع عن حقّ الجزائر في الاستقلال، فحسب، بل أطرى «جبهة التحرير» ذاتها.
خارج فرنسا كان سينيه ضحية واحدة من أبشع وقائع الرقابة في التاريخ الأوروبي: إعدام كتاب، عن طريق إحراق كامل النسخ المطبوعة. ففي عام 1966، أقدمت دار نشر «بنغوين»، بقرار فردي من مؤسسها ألن لين، على إحراق 50 ألف نسخة من كتاب سينيه «مجزرة»، لأنه اعتُبر إهانة لمشاعر المسيحيين، رغم أنّ الكتاب كان ترجمة عن الأصل الفرنسي. ويُروى، هنا، أنّ لين ـ الذي سبق له أن دافع، بشراسة، عن طبع «عشيق الليدي شاترلي»، رواية د. هـ. لورانس ـ ترك إدارة الدار منهمكة في مناقشة ما يتوجّب عمله بصدد كتاب سينيه، وانسلّ مع أحد مستخدمي الدار الموثوقين، و»المؤمنين»، وحمّل الطبعة كاملة على ظهر شاحنة صغيرة، ومضى بها إلى مزرعته الخاصة، فأحرقها هناك!
أهذه محاكم تفتيش معاصرة، من عيار خاصّ يناسب الديمقراطيات الغربية، حيث حرّية التعبير وقائية، أو موسمية، أو انتقائية؟ هي كذلك، أغلب الظنّ، بل أدهى، لأنها تنقل السيء إلى أسوأ، وسط التغنّي بقداسة حرّية التعبير.
صبحي حديدي
ديمقراطية الغرب هي فقط للغرب
والحرية هي الكلمة الجوفاء حين يتعلق الأمر بنا
التبادل الوحيد بيننا وبين الغرب هو المصالح
ولا حول ولا قوة الا بالله
يا عزيزي صبحي،
فيما لهُ مِساسٌ بقداسة حرّية التعبير أو حتى بـ”دناستها”، إن صحَّ التعبير، ليس ثمةَ فرقٌ عمليٌّ أو فعليٌّ يستحقُّ الذكر، حقيقةً، بين ما يُسمى، تبجُّحًا، بـ”الديمقراطيات الغربية” وبين ما يُدعى، شَماتَةً، بـ”الدكتاتوريات الشرقية”. الفرقُ الجوهريُّ الوحيد الذي خفي على الكثير الكثير من الكُتَّاب والمحلِّلين والمعلِّقين، من هذا الخصوص (خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالبتِّ الحاسم في قضايا مصيرية حاسمة)، يمكن إيجازهُ بكلِّ بساطةٍ على النحو التالي:
في الغرب “الديمقراطي” (ويا لها من “ديمقراطية”!)، يستطيعُ المواطنون أن يقولوا كلَّ شيءٍ، جهرًا، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا أيَّ شيء، حتى لو كان سِرًّا. بينما في الشرق “الدكتاتوري” (ويا لها من “دكتاتورية”!)، لا يستطيعُ المواطنون أن يقولوا أيَّ شيءٍ، جهرًا، ولكنهم يستطيعون أن يفعلوا كلَّ شيءٍ، سِرًّا وجهرًا!!!
الغرب تحت الحذاء الصهيوني،