من يبيع ذاكرة جديدة لمواطنة من العالم الثالث؟

حجم الخط
38

كان علي أن أنفجر ضحكا كالمتفرج الغربي أمام الأفلام والبرامج التلفزيونية التي نرى فيها كبار النجوم يتلقون ضربات من قوالب الحلوى (الجاتوه) المغطاة (بالكريما) البيضاء..
وتتلطخ وجوههم بقشدة الحلوى.. ويردون الضربة بتلطيخ وجه (الضاربة/الضارب) بقالب حلوى آخر فآخر، وهكذا، تتسخ الثياب والوجوه وأرض الاستديو بالطعام الشهي.. ويضحك الغربي المرفه أمام المشهد. ولكن هذه المشاهد لا تضحكني، بل تسبب لي غصة حزن.

أطفال يحلمون بالرغيف ويجهلون الحلوى

على الرغم من أنني قضيت معظم حياتي في الغرب المرفه، بين لندن وجنيف ونيويورك وروما وباريس، إلا أنني مازلت أرى العالم بعين بنت عربية من العالم الثالث، سورية لبنانية فلسطينية عراقية يمنية ليبية إلى آخر قائمة الأحزان القومية الماضية والآتية.. وأتذكر أطفالا في وطني العربي ينامون بلا عشاء ويحلمون بقضمة من حلوى كهذه ويتشردون من بيوتهم المهدمة إلى أوطان صارت تضيق بهم.. وأشعر أن مشاهد رمي الطعام الشهي للتسلية تفتقد إلى الخجل الإنساني أمام البؤس الشاسع في كوكبنا.. تماما كما في (الموضة) الجديدة لبنطال (الجينز) الممزق عند الركبة ويباع كذلك، وأجد فيه سخرية سرية من الفقراء الذين يرتدون مثله لأنهم لا يملكون ثمن سواه.. أرى في كل تمزق متعمد في السروال ما يشبه اللسان الساخر من الفقراءِ.
أنتمي إلى حضارة تحترم جوع الآخر وفقره، باحترام اللقمة.. جدتي الشامية مثلا علمتني وأخي أن نَلُمَّ عن الأرض قطعة الخبز التي قد تسقط ونقبلها ونضعها على رأسنا.. إنها حضارة العالم الثالث، ولن أضحك يوما لمشهد العبث (بنعمة الله) كما كانت جدتي تدعو الطعام.

مالُهم لهم لكنني أمقت (البطر)!

في المجلة الباريسية أطالع خبرا عن النجم فابريس لوتشيني وحبه للمطبخ الفرنسي العريق وذلك عادي، ما ليس عاديا أنه طلب من الطاهي الشهير في المطعم الباريسي الراقي إعداد طبق لكلبه الذي يتذوق الطعام الشهي أيضا مثله! وأنا شخصيا أحب الحيوانات الأليفة وأحب حب الناس لها ولكنني كمواطنة من العالم الثالث لم أجد الخبر طريفا، بل تذكرت المشردين في أوطاننا العربية الذين لا يحلمون بأكثر من رغيف كل ليلة قبل النوم!.
وبدلا من الإعجاب بالنجم شعرت بالنفور وتشاجرت مع نفسي، إذ يحق لكل إنسان إنفاق نقوده كما يحلو له، وذلك النجم فابريس لوتشيني ليس مسؤولا عن مآسينا العربية، ولكنه ببساطة حين دلل كلبه إلى هذا المدى ذكرني بشعوب بينها من ينام جائعا.

نمرٌ على الرصيف الآخر

احتفظت بعادة من أيام الحرب اللبنانية، التي عاشرت في بيروت أعواما منها تتلخص في النوم، وإلى جانبي في السرير مذياع (ترانزيستور) وبندقية (كلاشينكوف) لأغراض دفاعية. وأول ما أفعله حين أستيقظ (إذا تركني القصف أنام) الاستماع ـ كأهل بيروت كلهم ـ إلى المذيع الكبير الراحل شريف الأخوي الذي يدلنا على أي الطرق (سالكة وآمنة) وفقا لتعبيره اللامنسي ولأعرف على ضوء كلماته هل بوسعي، الذهاب إلى مقر عملي أم لا. ومن يومها وبعد أعوام طوال عشتها في الغرب، ما زلت حين أصحو وقبل أن (أشعل) الضوء أو أنهض من سريري استمع إلى موجز الأخبار وهي روتينية في باريس الآمنة، باستثناء ذلك الصباح الذي أعلنوا فيه عن هرب نمر من السيرك، وفوجئت بأن ذلك يحدث في الحي حيث أقيم وتخيلت اللقاء معه وهو على الرصيف الآخر!

التقيت النّمر المسكين، مقتولا

لم ألتق النّمر على الرصيف الآخر، بل عرفت من البقال بإعدامه، لأن صاحب السيرك لم تكن لديه «طلقات مخدرة».. وهذا من حظ النّمر المسكين، فالموت خير من (الاستعمال) التجاري في سيرك كما يحدث لبعض المواطنين في غير وطن من أوطاننا العربية حيث الحاكم «صاحب السيرك»، والمواطن هو النّمر الذي تم ترويضه جزئيا وسيتم قتله إذا تمرد ولكن بأقنعة محاكمات قانونية!!
لا أعتقد أن الكثير من سكان الحي حيث أقيم وحيث هرب النّمر تعاطفوا معه بل مع خوفهم فقط كخوفهم من اللاجئين المشردين الهاربين إليهم من سيرك أوطانهم وسجونها ومعتقلاتها.. وحروبها الأخوية.

قضبان السجون وصوت السياط والانفجارات

حين كنت بنتا صغيرة، جاء إلى دمشق «سيرك» واصطحبني أبي إليه ليدخل السرور على قلبي، إذ يبدو أنني كنت طفلة كئيبة..
وكان من المفترض أن أعجب بالمدرب الذي حين تفرقع سياطه يذعن النّمر له ويقفز عبر دولاب مشتعل، أو يركع الفيل والناس تصفق. شعرت بالغم والكراهية لصوت السياط وروّعني مشهد السجون بقضبانها المعدنية التي تعاد النّمور إليها بعد أن تُقدِّم نُمرتها ويربح صاحب السيرك المال. هذا المشهد كان يجرني إلى دنيا الكوابيس، ولعل ذلك ما دفعني بعد ذلك بعقود لكتابة فصل في روايتي «ليلة المليار ـ 1985» بعنوان «السيرك العربي الكبير» حيث المواطن العربي في أقفاص مختلفة! وكل منها يرمز إلى مرض سياسي عربي أليم. وفي باريس ما زلت أرتجف خوفا حين أسمع الانفجارات الاحتفالية للألعاب النارية بدلا من الابتهاج والتصفيق، فالانفجارات تذكرني بالحروب الأهلية التي ذقت طعمها. ألَمْ أقُلْ لكم إنني مواطنة من العالم الثالث ولا شفاء لي؟
في وسعك الحصول على جنسية جديدة، ولكن ليس بوسعك شراء ذاكرة جديدة!! تُرى هل بوسع أحد القراء إهدائي ذاكرة جديدة كورقة بيضاء لم يكتب الزمن فيها تأريخا من الأحزان؟ أم أن تلك «الورقة السحرية» ليست صناعة بشرية؟

من يبيع ذاكرة جديدة لمواطنة من العالم الثالث؟

غادة السمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    لو كنت ماردا يخرج من قمقم لقلت لك شبيك لبيك
    وأمحي ذاكرتك بإصبع سحرية، لتعود كذاكرة طفلة دمشقية من عالم كان ثالثا
    لكنه اليوم انزلق إلى درجات سفلى،
    ولكن هل هو الحل؟
    لأن ذاكرتك الجديدة سرعان ما ستمتليء بذكريات الجراح والأحزان
    فنحن أمة فريدة من نوعها في هذا العالم ماضيها افضل من حاضرها
    وحاضرها افضل من مستقبلها.
    وأنا يا سيدتي وتاج رأسي وملهمتي قضيت مثلك نصف قرن في بلاد “العالم الأول”
    لكني بقيت مواطنا من العالم السفلي، وعندما رأيت النمر في شوارع الكونفانسيون شبهته بالشعب السوري الذي كسر قضبان القفص الكبير ليخرج الى الشارع مناديا بالحرية فخافوه ووجهوا إليه المجرمون كل انواع الأسلحة ليقتلوه وما أراه يوميا في شامنا الحبيبة أثقل الذاكرة بحزن ثقيل لا استطيع منه فكاكا.
    كل تقديري وسلامي لكل رواد بيتك الدافيء

  2. يقول عمرو-سلطنة عمان:

    اعتقد لو اتيحت لك الفرصة لشراء ذاكرة جديدة ستقررين الحفاظ على الذاكرة القديمة بأوجاعها بالبشر الذين مرو ومازالوا كما عرفتيهم شبانا لن تمحي الجامع الأموي وزقاق الياسمين وبحرة بيت العائلة بأرض الديار ودكانة أبو معتز وساحة النجمة وحديقة السبكي وبيروت بجمالها وجنونها وحروبها وقذائفها وصنابير الماء التي يخرج منها النمل والكهرباء المقطوعة دوما…
    كيف يمسح من الذاكرة صوت فيروز وقصائد نزار..
    في الغربة وحدها الذاكرة تحملك نحو الوطن في الحلم واليقظة
    فقدان الذاكرة غربة
    لا أريد ذاكرة جديدة
    اريد كما انشدنا دوما يا وطني العربي
    ان اراك سالما منعما وغانما مكرما
    هل أراك؟

  3. يقول عربي حر:

    تحية للكاتبة المحترمة
    كلماتك بلسم لجرحنا العربي الاليم
    اعجبني تشبيهك لحالنا بحيوانات السيرك التي تقتل ان هي فكرت بالتمرد على السجان،
    بينما همك ملايين الاطفال الذين يحلمون برغيف وليس بحلوى ،
    هناك من يرمي فضلات طعامه في البحر ،
    ومن يشتري يختا او لوحة بمبالغ فلكية،
    او يهدي احمقا مليارات اادولارات لمجرد انه سيد البيت الابيض
    وهناك من يرمي شعبه براميل متفجرة
    وفي الضفة اخرى يحترمون جوعك وشبعك ولكن لا يحترمون حقك بان تعيش حرا .

  4. يقول الكروي داود:

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    من لا يرحم لا يُرحم – متفق عليه
    و نحن لم نرحم الحيوانات ببلادنا
    و لهذا لم نرحم بعضنا بعضا !
    فالرحمة قد نزعت من قلوبنا !
    فسلط الله علينا من لا يرحمنا
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول Dr. Bashir / Ireland:

    ما اجمل كلامك يا سيدتي الكاتبة غادة. وما اجمل المرأة العربية المثقفة التى لا تنسى من أين أتت وما هو دورها من غير تمسك وتقليد وتعصب لافكار غربية بالية على حساب دينها وقوميتها. بارك الله فى قلمك وعقلك.

  6. يقول أفانين كبة - مونتريال - كندا:

    لا يزال ذلك المشهد المؤلم في بداية السبعينات عالق في ذاكرتي عندما ذهبت في احدى المرات مع خالتي لتوزيع لحوم الذبائح المقطعة ( إيفاء لنذر ) على الفقراء الذين يتواجدوا عادة حول المساجد والأماكن المقدسة في بغداد . كان هو مشهد النساء المسنات وهم يتسابقوا ويتساقطوا على الأرض ويتوسلوا في الحصول على قطعة لحم واحدة فقط . الطعام وسد الجوع هو من أوليات حقوق البشر في أية مجتمع في العالم . لكن تحت حكم الدكتاتورية ، سياسة ( جوع شعبك يتبعك ) هي من أنجح وسائل الخضوع وعيش الذل للشعوب والسيطرة عليهم .
    آسفة سيدتي النبيلة ، إن لا يستطع أحد أن يهديك ذاكرة جديدة كورقة بيضاء . فهذا هو قدرك وقدر البعض منا في أن نحمل معنا ذاكرة مملوءة بالأحزان !
    أفانين كبة
    كندا

  7. يقول ناظر لطيف - عراقي:

    نعم ان تلك الورقة السحرية ليست صناعة بشرية، بل لم نريد استبدالها وهي وجودنا!. هي تعبر عن انسانيتنا رغم سوادها لكن رقيها يطغى عليه ولربما يوما ما سيخفيه حتى عنا أو سيمحيه اصرارنا.

    مقال رائع شكرا لك

  8. يقول نجم الدراجي - العراق:

    صباح الخير سيدتي الياسمينة الشامية
    صباح الخير اصدقائي في لحظة حرية
    في احدى كتابات السيدة النبيلة غادة السمان تقول (لن أتدفق كالنهر شوقاً إلى الزمن الهارب بل سأعود إلى الكتاب الجميل ) واليوم تطلب هل بالامكان اهدائها ذاكرة بيضاء لاتحمل احزاناً ، وليس لي ياسيدتي غير استحضر ( العودة الى زمن الياسمين ) العودة الى أيام الشام ، ومثلها العودة الى بيروت وبغداد وعدن …
    عندما كان العالم العربي يعيش زمن الياسمين ولحظة حرية ، حين كانت حركة الاداب والفنون تتصاعدا فكراً وابداعاً .
    وهي تختزل بالعقود الممتدة من الثلاثينات وحتى السبعينات من القرن الماضي ، والتي للاسف لم اكن من المحظوظين الذين شاهدوا تلك اللحظة عدا مشاهد من نهاية السبعينات مرت كالحلم المستعجل ، واتذكر سألني أحد الكبار من اساتذة جامعة بغداد ماذا تتمنى في حياتك ؟
    اجبته : أن اعيش ذلك الزمن .. فضحك كثيرا وقال عليك ان تكون أكبر مني سناً كي تحصل على تذكرة مرور للسفر الى ذلك العالم ، ثم ابتسم طويلا وهو يعتقل لحظة من ذلك الزمن ويرويها لي ، وحالما انتهى الاعتقال ، تحررت الابتسامة وعاد الى زمن البخل العربي .
    قبل ثلاثة سنوات شاهدت مسلسلا سوريا اثار الحزن في كل من تابعة ( بانتظار الياسمين ) وكلنا اليوم ننشد قدوم الياسمين بلا فواتير دم وحروب ومشاهد دمار .
    ننشد الياسمين الذي يليق بشرقنا العظيم
    محبتي ومودتي لكل الاصدقاء في الصالون الادبي الافتراضي في لحظة حرية.
    تحياتي
    نجم الدراجي . بغداد

  9. يقول محمد حاج:

    عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة القلب ، فقال له صلى الله عليه وسلم : أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك . – صححه الألباني-
    تحية للكاتبة العزيزة باشارتها للجوعى والمحتاجين في عالمنا العربي ، واذكر إخواننا القراء بانه من يرد السعادة بعينها فليطعم الطعام لاي فقير محتاج او ضيف زائر ، فالسعيد من اسعد غيره .

  10. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    لا يستطيع المرء أن يخرج من جلدة، و لكل إمرء ٍ من دهره ما تعودا
    أنا الى الآن أحياناً ألتقط قطعة خبز تركها زميل لي لأنها إنحرقت قليلاً ، و لا أحب الإسراف في إستعمال الماء ، و إن كنت قبل مجيئي للعيش في هذه الديار حيث المطر ” يشجّ المزاريب” ليلاً و نهاراً و مع ذلك عالي التكلفة، لا أدفع ثمنه _ و لكن تلك كانت أيام .
    للفهم الأوسع للأخلاق ، يجد المرء أن الإقتصاد يلعب دوراً ….لذا مع كل تقديري لما يقدمه العالم المترف من مساعدات قيمة ، و بالتأكيد تلعب دوراً في تحسين حياة الملايين من البشر ، فإن هذه المساعدات هي جزء من الفائض الذي نراه و تكلمت عنه سيدتي .
    و الجائع و العاري لا يهمه إن كان ما يأتيه من الفائض ، طالما يشبهه و يكسيه. نعم فحال البشر الآن أصبح أفضل بعشرات المرات من حالهم قبل مائة عام مثلاً بفضل العقول التي عملت من أجل ذلك .
    أنا لست متشائماً فأنا أرى الرحمة في ديارنا تأتي من الكثير اللذين يعطون من أنفسهم و ليس من الفائض لديهم ….و يا ليت الإنسان يكتفي بالقليل ، و لكن شتّان !
    و شكراً لكِ سيدتي أن تطرقتِ لفكرة طالما خطرت ببالي ، و لكن كما قال برنارد شو بوصف شعر رأسه و لحيته :” غزارة في الإنتاج ، و سوء في التوزيع”

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      رائعة هذه مقولة برناردشو كما هو معروف عنه.

1 2 3 4

إشترك في قائمتنا البريدية