انعقد في مدينة غازي عنتاب التركية، قبل أيام، مؤتمر لائتلاف «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي» انبثقت عنه قيادة جديدة (أمانة عامة) للمرحلة المقبلة. يعرف المتابعون «المتخصصون» أن هذا المؤتمر التأم بغير موافقة أمانة عامة موجودة منذ كانون الأول 2007. أي أننا أصبحنا عملياً أمام قيادتين لكيان واحد يحمل اسم إعلان دمشق، أو كيانين بقيادتين يحملان الاسم نفسه.
هذا ما يسمى في «علم الأحزاب» بالانشقاق.
نعرف من إرث الانشقاقات في الأحزاب السياسية السورية أن الطرفين يسعيان إلى الاستيلاء على رأس المال الرمزي الخاص بالكيان الأصلي من خلال تمسكهما بالاسم، بصورة رئيسية، إذا كان يشكل «ماركة» لها شعبيتها، في بحثهما عن الشرعية. وإذا كان الانشقاق ظاهرة مألوفة بالنسبة للأحزاب، بصرف النظر عن تقييمه، فهو جديد على تحالف سياسي بين أحزاب سياسية ومستقلين كحال ائتلاف إعلان دمشق.
والحال أن إعلان دمشق الذي تأسس في تشرين الأول / أكتوبر 2005، كمظلة عريضة جمعت كل القوى والشخصيات المعارضة للنظام في سوريا، على وجه التقريب، في لحظة خاصة من تاريخ سوريا، سرعان ما دخل في نوع من العطالة بسبب تنازع داخلي بين تيارين عكسا استجابتين مختلفتين للتحديات السياسية الكبيرة التي كانت مطروحة حينذاك. تعايش التياران بصورة قسرية لمدة عامين، تغيرت خلالهما المعطيات الموضوعية إلى حد كبير، إلى أن تم الانشقاق الكبير بينهما في المؤتمر الأول للإعلان (كانون الأول/ديسمبر 2007) حين خرجت من الائتلاف أحزاب قومية ويسارية ستشكل، لاحقاً، «هيئة التنسيق الوطني لقوى المعارضة الديمقراطية» في مناخ ما بعد بداية الثورة السورية. اللافت أن ذلك الانشقاق الأول لم يشهد تنازعاً على الشرعية (الاسم) كحال الانشقاق الحالي، بل أراد المنشقون التبرؤ من الخط السياسي للإعلان الذي كان يعبر عن التيار الآخر المتشدد في مواجهة النظام. يمكن القول، بهذا المعنى، أن الانشقاق المذكور، مضافاً إلى حملة الاعتقالات التي شنها النظام على قيادة الإعلان المنتخبة، في أعقاب المؤتمر، قد تكفل بتحجيم الزخم الذي أطلقه الإعلان عند تأسيسه، وعادت سوريا إلى «مملكة الصمت» التي كانتها قبل ذلك، وفقاً لتعبير أحد أبرز مؤسسيه رياض الترك.
حاولت قيادة الإعلان، بمن تبقى من أعضاء أمانته العامة، أن تؤمّن استمرارية هذا الكيان السياسي بأساليب العمل السري القديمة للأحزاب المعارضة، فاقتصر الأمر على عقد اجتماعات غير منتظمة لهيئاته المحلية، وأخرى لمن تبقى من قيادته المركزية، وإصدار بيانات حول المستجدات السياسية، والتحضير، في فترة من الفترات، لمؤتمر ثانٍ لم ير النور أبداً. يوصف هذا الوضع بالأزمة. فالهدف الذي تأسس من أجله الإعلان (تغيير النظام بالوسائل السلمية التدريجية الآمنة) قد أصبح أبعد منالاً، لأن النظام غير القابل لأي إصلاح استعاد قوته بعد لحظة ضعف مر بها في العام 2005، وبات تغييره خارج أي جدول أعمال واقعي. ولم يبق لـ»الإعلان» ما يمكن عمله غير التمسك بهويته الإيديولوجية (الليبرالية السياسية)، وبحصته المتقلصة من المشهد السياسي المكتوم في سوريا.
حين اندلعت الثورة، منتصف آذار 2011، وجدت المعارضة السورية نفسها أمام تحد تاريخي غير مسبوق، وحاولت أن تجد لنفسها موقعاً في عملية التغيير الكبيرة التي بدأت خارج سيطرتها وتوقعاتها. شكّلت القوى المنشقة سابقاً عن إعلان دمشق «هيئة التنسيق» أمينةً لخطها «المعتدل» تجاه نظام متطرف، واتجه إعلان دمشق للانضمام، رفقة الإخوان المسلمين، إلى «المجلس الوطني» المطالب بإسقاط النظام. مع مرور الزمن تكلس المجلس الوطني عند شعار إسقاط النظام، من غير رؤية سياسية واضحة لما بعد ذلك. وتكرس تحالف الإعلان مع الإخوان رغم هيمنة هؤلاء على المشهد السياسي بالتوازي مع أسلمة متمادية لروح الثورة، لينضم المجلس، بعد ذلك، كتلةً واحدة متماسكة إلى «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» الذي تم تشكيله بضغوط دولية بديلاً من المجلس.
فشل إعلان دمشق عملياً، منذ حرب تموز 2006 التي شنتها إسرائيل على لبنان، ثم تكريس هذا الفشل بعد انشقاق الأحزاب القومية واليسارية في أواخر 2007 وحملة القمع التي استهدفت قيادته، ومأسسة الفشل المضاعف هذا بعد تجاوز صيغة المجلس الوطني إلى «الائتلاف الوطني».. كل ذلك لم يؤد إلى أي مراجعات جدية داخل الإعلان تدعو لإعلان وفاته، بل تمسكت القيادة التي فقدت شرعيتها،تنظيمياً، بهذا الكيان الوهمي كـ»ماركة» تمنحها مقعداً في مجلس ائتلاف فقد أي دور له بعدما استنفد أغراضه من زاوية نظر الدول الداعمة، بعد مسيرة طويلة من الاستتباع لتلك الدول.
من جهة أخرى، كان حزب الشعب الديمقراطي بقيادة رياض الترك ـ العمود الفقري لإعلان دمشق- يعاني أزمته الداخلية الخاصة على وقع تطورات الثورة السورية. من المجحف رد هذه الأزمة إلى مجرد تمسك قيادته بالسلطة الدكتاتورية داخل الحزب، فهذا بدوره من أعراض ما فعلته الثورة بجميع الكيانات السياسية المعارضة، وما أحدثه التكالب الدولي على الثورة. لكن العجز الموضوعي للثورة عن تحقيق أهدافها، كان لا بد أن ينعكس صراعات داخلية، حزبية وشخصية، في صفوف المعارضة وداخل كل إطار من أطرها. كان انعقاد مؤتمر المهجر لإعلان دمشق، مطلع العام 2014، مناسبةً لتفجر الصراع الداخلي لحزب الشعب، فانتهى المؤتمر المذكور إلى تكريس تبعية «الإعلان» لقيادة حزب الشعب (عملياً لشخص رياض الترك)، وأخذ «الخاسرون» يبحثون لنفسهم عن خيارات بديلة.
لدينا اليوم كيانان باسم إعلان دمشق، يتنازعان الشرعية على إرث انتهى بانتهاء شروط قيام الإعلان، في حين أن سوريا التي نعرفها ككيان جغرافي سياسي قد أصبحت في خبر كان.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي