كأس عصير دخلت تاريخ تونس المعاصر وصارت علامة فارقة ومسجلة يصعب محوها أو نسيانها بسهولة.
السر الذي جعلها تحظى بذلك القدر من القيمة والاهمية لم يكن في البرتقال الذي صنعت منه، وجُلب من اجود الحقول وافضلها، ولا في احتوائها اضافات أو نكهات نادرة وغير معروفة، بل فقط لان اكبر رمز في الدولة وأول رئيس لها قد اختار توقيتا استثنائيا غير عادي ولا منتظر بالمرة، حتى يبادر لشربها علنا امام حشد من الحضور، في جلسة عقدت قبل اكثر من خمسين عاما من الان، في نهار يوم من ايام رمضان. حصل ذلك المشهد الصادم في بداية الستينيات، أي في السنوات الاولى للاستقلال، التي كان خلالها الرئيس الراحل بورقيبة اشبه بمعلم يلقي المواعظ والدروس على جمهور بائس وفقير، لم يكن معظمه قادرا حتى على فك الخط. ولأجل أن يمرر الزعيم رسائله وأفكاره البعيدة والغريبة عن واقع الناس، بسلاسة وهدوء، فقد احتاج إلى تقمص تشكيلة عجيبة من الادوار التراجيدية، التي لم يتورع خلالها عن استدرار العطف بقطع خطبه والانفعال حد البكاء او الكوميديا التي حاول فيها عبر سرد بعض الروايات أو الأحداث اضحاكهم وانتزاع البسمة من شفاههم، بحسب ما كانت تفرضه الحاجة والضرورة المسرحية بالطبع. لقد كان ممثلا بارعا لا يشق له غبار وكان يبدو ايضا بنظر شعبه كقديس جاء لتخليصه من عقود طويلة من جور فرنسا وطغيانها، تحت مسمى الحماية. ولاجل ذلك فقد انتابته مثل غيره من الزعماء والقادة العرب حالة من جنون العظمة، جعلته يتصور انه صار بعد تلك المكانة الرفيعة التي استطاع نيلها بجهود ذاتية وموضوعية قادرا على أن يخرق قواعد اجتماعية ظلت راسخة لقرون، بل أن يدخل ما وصفه بالاصلاحات الضرورية والعاجلة على الفكر وحتى على قواعد الدين المعلومة والمعروفة بالضرورة. لقد بدأ فور حصوله على السلطة بالتخلص من وجوه بارزة في القضـاء الشرعي، بعدما أطلق حملة «تنظيم المصالح الادارية والعدلية»، التي تلت عملية توحيد القضاء.
وما قاده في الظاهر إلى ذلك هو إصدار مدونة الاحوال الشخصية في الشهور الاولى التي تلت حصول البلاد على الاستقلال. لكنه انصرف إلى ما هو ابعد من ذلك، بعد أن تمكن من امتصاص الصدمة التي احدثها قانون الاحوال الشخصية، ووجد من الشيوخ من ينحاز له ويبرر عدم تعارضها مع احكام الشريعة.
وبشكل مفاجئ ومخالف للتوقعات ألقى مطلع الستينيات خطابا امام كبار الشخصيات بالدولة، ليقدم لهم مشروعا اعدته الحكومة لتشغيل اكثر من مئة الف شخص، فوجد أن تلك المناسبة فرصة سانحة للحديث عن مسألة اخرى ظلت تشغله باستمرار وهي الصوم. لقد قال امام دهشة الحاضرين وصمتهم «نحن الان على ابواب رمضان لا يفصلنا عنه الا ثلاثة اسابيع. ومسألة صوم رمضان درستها طويلا ومن واجبي أن أبسطها هنا بكل صراحة، وبحضور مفتي الديار التونسية الذي اجتمعت به قبل اليوم وتحادثت معه مرات متكررة بشأن هذا الموضوع». هل كان المتحدث فقيها وعالما بشؤون الدين، أم مجرد رئيس مدني في دولة حديثة العهد بالاستقلال؟
لا أحد امتلك الشجاعة لأن يسأل الزعيم عن سر اهتمامه بالصوم، أو عما اذا كان ذلك من صميم اختصاصه او صلاحياته الدستورية. لقد استمر الجميع على صمتهم وواصل هو حديثه المتشعب عما وصفه في مرات عديدة بالجهاد الاكبر، اي جهاد التنمية والخروج من التخلف والجهل، الذي تعيقه تلك الفريضة. فهناك أمة باكملها كما قال» تسعى ما بوسعها لتنمية الانتاج القومي وتبذل جهد طاقتها في ذلك السبيل، وبين عشية وضحاها ينهار انتاجها ويكاد يضمحل تماما وتسأل عن السبب فيجيبك رمضان…». أما الحل الذي وجده للخروج من ذلك المأزق الخطير الذي كان يتهدد تونس فهو اصدار ما يشبه فتوى شرعية بأن «ديننا ويعني به الاسلام بالطبع دين جميع فروضه قائمة على العقل والمنطق، وغاياتها معروفة يتناولها التدريس… وهي تمرين وتجربة وتطهير.
ولكن ما يتعارض منها مع ضرورة الحياة والكفاح من اجل الحياة، فانها تسقط بطبيعتها ويصبح المسلم في حل منها». والمفارقة هنا أن مفتي الديار التونسية في ذلك الوقت الشيخ جعيط كان واحدا من المدعوين الذين تابعوا الخطاب وبادر بعده باسبوع واحد فقط وتنفيذا للتعليمات إلى اصدار فتوى تحت مسمى «الاعذار المبيحة للفطر في رمضان». ولأن ذلك لم يكن كافيا على ما يبدو فقد فضل الزعيم أن يحسم الامور بنفسه، حين شرب كأس العصير الشهيرة في حركة لم تحدث أي رد فعل قوي في الداخل، عدا الموقف التاريخي الحاسم للشيخ الطاهر بن عاشور الذي تحدى بورقيبة ورفض دعواه لاصدار فتوى على المقاس تؤيد افكاره، مصرحا في الاذاعة الرسمية بالحرف «صدق الله وكذب بورقيبة»، بعد قراءته الآية القرآنية التي تفرض الصوم. لقد كانت بداية الستينيات هي الاختبار الاصعب والاهم لعلاقة الدولة بالدين في تونس، ولاتزال اثار تلك المواجهة واضحة إلى الان في طبيعة الشخصية المركبة والمشوهة للتونسيين، التي فقدت صلة الوصل بجذورها الحضارية والثقافية. ومن عاش تلك السنوات بتقلباتها وصراعاتها العنيفة لا زال يذكرها بحرقة ومرارة او بفخر واعتزاز كما هو شأن رئيس الدولة الحالي الباجي قائد السبسي الذي بدأ خطابه الاخير في مناسبة الاحتفال بعيد المرأة بالترحم على بورقيبة قائلا عنه، إنه «كان له من الجرأة والتبصر وبعد النظر ما جعله يصدر مجلة الاحوال الشخصية» التي منحت التونسيات حقوقا غير مسبوقة في العالم العربي، معتبرا ذلك «أهم اصلاح عرفته تونس بعد الاستقلال». لكن الاشكال الحقيقي الان هو ان ورثة بورقيبة، ممن يطلقون على انفسهم صفة الحداثيين، صاروا يطلبون المزيد وصارت المدونة بقوانينها التحررية وما افرزته من تحولات اجتماعية وسياسية بالغة الاهمية تبدو بنظرهم شيئا من الماضي، آن الأوان لتجاوزه والمرور إلى طور اخر يعتبرونه ضروريا لتكريس الحداثة ودعمها بوجه قوى الظلام والرجعية. انهم يبحثون عن شخص اخر يقدم على شرب العصير بعد بورقيبة، ويحدث رجة تقطع الحبل السري بين البلد والدين بشكل بات ونهائي. ولكن من يكون ذلك الحداثي المنتظر؟ لقد فقدوا الامل على ما يبدو بالباجي وسقط الرئيس بنظرهم في اصعب الاختبارات واكثرها دقة ووعورة، لمجرد انه اكتفى مساء الثالث عشر من اغسطس الحالي، في احتفالية عيد المرأة بتقديم الاوسمة والعصائر لضيفاته في قصر قرطاج، ثم الاعلان فقط عن قرار بالغاء التمييز بين الجنسين في منح الترخيص لاستخراج جواز سفر للقاصر. انهم يرون ذلك «ذر رماد في الاعين»، مثلما قالت ناشطات نسويات في مؤتمر صحافي طالبن فيه بالاعلى والاكثر. والاعلى والاكثر هو إلغاء ولاية الرجل على المرأة والتخلي عن المهر عند الزواج، ثم المساواة التامة في الارث. ولأن السبسي غير قادر على منحهن تلك المطالب فهو بنظر الناشطات، وحتى بنظر زعيم الجبهة الشعبية «ضيع فرصة في مجال حقوق المرأة… ولم يمتلك جرأة بورقيبة والحداد»، مثلما قال عنه حمة الحمامي في تصريح لاحدى الاذاعات الخاصة. اما المعني بالامر والمتهم بالتقصير فقد اكتفى في الخطاب ذاته بالاشارة إلى أن «بورقيبة لم يكن مغامرا او مخالفا للنص القرآني»، وبأن ما يطالبن به، خصوصا مسألة الارث، لم يحن وقتها بعد. مما يعني عمليا انه لن يكون المبادر لتجاوز ما وقف عنده بورقيبة. هل تحتاج تونس اذن لرجل اخر يمتلك مواصفات الزعيم وجرأته وتهوره في شرب العصير؟ أم انها بحاجة إلى رجال اخرين حتى يصلحوا خطأ تاريخيا جسيما ارتكبه اب «الامة التونسية» منذ ما يقارب الستين عاما في حق الدولة والدين؟ بقطع النظر عن طبيعة الجواب يظل الاشكال الاكبر هنا هو أن تونس لم تعرف بعد ماضيها القريب باخطائه وانجازاته ولا حددت ايضا ما تريده وترغب به للمستقبل، ولاجل ذلك فــهــي مســتــمـــرة بالمضي على غير هــدى ولن يهــمــها أو يزعجها على الاطلاق أن تدخل التاريخ أو تخرج منه بكأس عصير مادام الماضي والمستقبل بنظرها سيان.
٭ كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
تحية خاصة للأستاذ نزار وشكرا على عمق الفكر ونقاوة الأسلوب ومتعة القراءة. كلام في الصميم ولامزيد عليه.
“هل تحتاج تونس اذن لرجل اخر يمتلك مواصفات الزعيم وجرأته وتهوره في شرب العصير؟ أم انها بحاجة إلى رجال اخرين حتى يصلحوا خطأ تاريخيا جسيما ارتكبه اب «الامة التونسية» منذ ما يقارب الستين عاما في حق الدولة والدين؟”
رحم الله الحبيب اضاء الكثير من الشموع ولكن رقعة الظلام واسعة
حادثة شرب بورقيبة كأس العصير في نهار رمضان نتائجها باقية الى اليوم..هناك صنف من التونسيين لا يعترفون بفريضة الصيام..تراهم يصرون على الافطار جهرة أمام الناس و يعتبرون ذلك من صميم الحرية الشخصية مما شكل اضطرابا في الشارع التونسي..أما الحديث عمن يشرب كأس العصير بعد بورقيبة فهذا غير وارد في مجتمع الحراك فيه كبير و يومي..
الحبيب هو الزعيم العربي الوحيد الذي حاول أن يعالج هذا الوطن الذي يرقد على فراش الموت, وكاسك يا حبيب.
الزعيم بورقيبة رحمه الله يبقى احببنا او كرهنا من بنى تونس الحديثة معولا في ذلك على الراسمال البشري التونسي وقد نجح في ذلك مهما اختلفت الاراء او تباينت
نجاح بورقيبة في تنوير الشعب التونسي و اخراجه من الظلمات لا يعني انه تم دون نقائص او هنات لكن اعتقد ان نجاحاته فاقت كل التوقعات
لقد كانت الشخصية التونسية منذ 3000 سنة هي القائدة و البانية و ما فعله بورقيبة سبقه و عاصره فيه كثيرون و هي بلد الزيتونة المحمي من الله …لله درك يا تونس يا حبيبتنا …بقي ا ناشير الى ان الاخلاق في تونس قد انحدرت و هذا نذير شؤم عندي فاللهم سلم و لا بد من العودة لاخلاقنا الراقية و السامية
على نخب كأس عصير بورقيبة
ما سبق كأس عصير بورقيبة وافطاره جهرا في شهر رمضان ( 13 فيفري 1960)
20 مارس 1956 تاريخ اعلان استقلال تونس عن المستعمر الفرنسي.
بعد شهرين …
31 ماي 1956 تم الغاء الوقف الإسلامي ..في تونس
13 اوت 1956 أُصدرت مجلة الأحوال الشخصية ..
25 سبتمبر 1956 وقع الغاء المحاكم الشرعية و اغلاق الديوان الشرعي تحت شعار توحيد القضاء.
18 اوت 1957 أصبحت تونس خالية من كل وقف أو نظام قانوني للأوقاف.
4 مارس 1958 اصدر قانون التبني- حجر على الرجل ان ينزوج من مطلقته ثلاثا (بدعوى سد ذريعة المحلل)
ما بعد شرب كأس العصير
*بلغ عدد العوانس في تونس 2 مليون و 900 الف امرأة وهو ما يمثل 62% من النساء الغير متزوجات الذين وصلوا للسن الأفضل للخصوبة
*تونس الأولى عربيا والرابعة عالميا في نسبة الطلاق..
*ازدياد عدد الولادات غير شرعيّة في تونس 1060 ولادة سنويا.
*. بروز ظاهرة الزواج العرفي في الجامعات
*ظاهرة تفشي ترقيع غشاء البكارة في تونس وزدهارها صيفا
أخيرا رحل بوقيبة وغرقت تونس في كأس عصيره
رحم الله الزعيم بورقيبة وكان الله في عون تونس الخضراء
لم تستطع فرنسا الأستعمارية أن تنال من الدين الأسلامي المتجذر في نفوس المسلمين طيلة إستعمارها الغاشم وبما إتبعته من إساليب وحيل ماكرة ومن البطش والأرهاب ما ناله هذا الدين بعد إستقلال .. بل كانت تونس بجامع الزيتونة منارا للعلوم الشرعية الأسلامية وطالبي العلم … حتى حكم الرئيس بورقيبة الذي تولى ومن جاء بعده هدم أركان الدين بحجة الأصلاحات الضرورية على الفكر فعم الفساد وآستشرى بكل أنواعه بعد أن تفلت من تفلت من ضوابط وتعاليم هذا الديين القويم ( وأعظم أنواع الفساد إفساد العقيدة ).. وينطبق على مدعي الأصلاحات الرعناء هذه الآية 11 من سورة البقرة في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون … ) نعم تريد الأمة إصلاحاً برجال شجعان يصلحوا لأمتنا ما أفسده هؤلاء السفهاء على أن يكون على منهج الحق والعدل الذي جاء به الأسلام والذي أشار اليهم ربنا جلت قدرته في الأية ( محمد رسول اللهى والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجدا يبتغون فضلاً من الله ورضوانا …) الآية سورة الفتح الأية 29 . ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها .. والسلام