في بيان لهم بعد اجتماع وزراء خارجية «مقاطعة قطر» كما أسماهم موقع RT الإخباري الروسي، وصفوا رد الدوحة بالسلبي، وأعلن الجبير أو توعد بإجراءاتٍ ستتخذها هذه الدول «في الوقت المناسب».
دول أو تكتل «مقاطعة قطر» – جديدة ومسلية، إذ يبدو أنه لا بد لنا في كل حقبةٍ أو عقدٍ منذ حرب الخليج الثانية من دولةٍ ما، عربية حتما وحصرا، تتكتل جملةٌ من الدول العربية ضدها، والملاحظ أن المملكة العربية السعودية لا بد أن تقوم بدور القطب القيادي في هذا التحالف أو ذاك التكتل، سواء أأعلن هذا أم لا. في ما قبل كان العداء لمصر الناصرية بصفةٍ خاصة.
لا تسأل عن أي تكتلٍ شكلي ناهيك عن جاد ضد إسرائيل، فذاك زمنٌ مضى. لا أنكر اهتمامي بذلك الخلاف الجديد ومتابعتي له، لكن ما يدهشني ويصيبني بالامتعاض، لأكون صريحا هو الجدية التي يتناول بها بعض مواطني حجة أي الطرفين، خاصة ما يتعلق بدعم الإرهاب أو الثورة أو الثورة المضادة، ما يدل على سوء قراءة ووعيٍ مشوش تماما.
يا عزيزي كلنا رجعيون
ولصوص بمعنى ما
إن ذلك الشقاق والخلاف بين دول الخليج العربي، لا يمت للمبادئ بأي صلة، وإن أيا من قيادات هذه الدول لا يكترث بحرية الشعوب، خاصة التي قامت فيها ثورات التحرر العربي؛ تلك الحقيقة البديهية هي ما ينبغي أن نلتفت إليه، وما يبدو أنه يغيب عن الكثيرين. ثمة تماهٍ بين كل دول الخليج العربي في الانحياز الاجتماعي- الاقتصادي والبنية الاجتماعية لحدٍ بعيد، ولما كانت جميعها تخشى الثورة وتعاديها، كما تعادي كل ما من شأنه أن يقلقل استقرار تلك العروش، بعدوى أفكار التحرر، أو يهدد بنية الاقتصاد النيوليبرالي، خاصة في ضوء الاستثمارات الضخمة، التي أصبحت تلك الدول وفي مقدمتها مصر، مصبا لفوائضها المالية، نجد أن تلك الدول إما ناصبت الثورات العداء بشكلٍ سافر، كما هي حال السعودية والإمارات في مصر، وإما احتضنتها كوسيلة لإزاحة نظامٍ بعينه تصفية لحساباتٍ قديمة، كما هي الحال في سوريا، لكن الثابت المشترك في كل هذه الأحوال أن البديل أو البدائل التي احتضنتها دول الخليج لم يكن لا ثوريا ولا تقدميا، وإنما رجعي نيوليبرالي بما يضمن لكل دولةٍ مصالحها واستثماراتها ويوسع دائرة نفوذها.
الاستثمارات والنفوذ- تلك كلمة السر
من هنا فإن قطر بإيراداتها الضخمة من مبيعات الغاز، وما يدره من ثراءٍ فاحش وفوائض مالية، تبحث عن دورٍ أكبر ترى وتعتقد أنها تستحقه، ويتناسب مع قدرتها المالية، والشاهد أنها نجحت في بناء دورٍ لها عن طريق بسط قوتها الناعمة، بدءا بقناة «الجزيرة» التي مثلت دون شك سبقا خطيرا ونقلة نوعية هي الأخطر والأعمق في تاريخ الإعلام العربي الحديث، وفي ضوء ذلك أيضا لعلنا نستطيع أن نقارب ونفهم دعم قطر للإخوان المسلمين، بما يسمح لهم بتوسيع دائرة نفوذهم لتشمل مصر، تلك الدولة الكبيرة التي لا يغيب عن أحد وقوعها منذ السبعينيات في قبضة سيطرة ونفوذ المملكة السعودية، ومؤخرا تنامي النفوذ الاستثماري الإماراتي.
ليست الخلافات إذن سوى في رهان كل دولةٍ من تلك على طرفٍ أو فصيل، لكن الأساس والانحياز واحد، مع ملاحظة لافتة وفارقة وأساسية، أن كل تلك الدول لا تناصب إسرائيل العداء، بل تنسق معها، وكل الشواهد والدلالات، وعلى رأسها التنازل عن تيران وصنافير، تدل على الخطوات الجادة والحثيثة لاستيعابها في المنطقة، بل إفساح الطريق لها لتقود عسكريا وتكنولوجيا – اقتصاديا، كما لا يخفى الدور والحضور الأمريكي وراء الصورة، دائما.
انكفاء الثورات
لن أمل من التأكيد على كون كل ما نراه هو النتيجة المنطقية لانكفاء الثورات العربية وانحسار مدها، وقد لعبت تلك الدول دورا، بل الدور بأل التعريف في ذلك، ومن ثم استأنف رأس المال الخليجي مسيرته النيوليبرالية. كأن تلك هي المرة الثانية التي تنتصر فيها الرجعية العربية على المشروع الوحدوي الحداثي، بكل ما شابه في التنظير والممارسة من إشكالياتٍ وهزائم، إذ ليس سرا أن كل تلك الدول ببنيتها القبلية – العشائرية هي أبلغ نفيٍ، بل إجهازٍ على ذلك التوق للتحرر والتقدم ونفي العشائرية الذي انبثق ذلك المشروع، بشتى أطيافه، منه. نعود مرة أخرى لسيرتنا ومسيرتنا السابقة على الثورات، لتقسيم المقسم وتهشيم المحطم، ولتؤكد قاماتٌ صغيرة أنها الأغنى وبالتالي الأكبر والأكثر ثقلا. ذهب الكبار وتضعضعت البنى الاجتماعية المتقدمة تحت وطأة الفقر والاستبداد بقمعه، حتى لم يعد للدول العربية الكبرى، أو ما تبقى منها على حاله، أي دور؛ مصر على سبيل المثال التي أخرجها السادات بإرادته من المعسكر العربي، مؤذنا بانهياره، لم تعد تملك القدرة من الناحية الفعلية على القيادة، نظرا لغرقها تحت جبالٍ من المشاكل خلقها النظام فيها، ومن ثم تكتفي الآن بدور «تابعه قفة».
على قدمٍ وساق سيمضي مشروع النظام الإقليمي الجديد المستوعب لإسرائيل المعادي لإيران. ستُحجَّم قطر آجلا أم عاجلا، وستبحث تلك القامات الصغيرة عن طرفٍ آخر تعاديه وتناكفه.
وحده انبعاثٌ جديد للمد الثوري قد يوقف تلك المسيرة الكئيبة المهينة المهزومة، لكن حتى يأتي سيستمر زحف أطماع الأقزام التي ستتكتل على هذا الطرف اليوم، وتعض في ذاك غدا، كمعارك كلاب الحواري، ومن مقاطعةٍ لأخرى سنخوض المزيد من المعارك الخائبة التي لا تعيد أرضا ولا ترد حقا، مستهلكين الناس والثروات ومدمرين البلاد.
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
“على قدمٍ وساق سيمضي مشروع النظام الإقليمي الجديد المستوعب لإسرائيل المعادي لإيران. ستُحجَّم قطر آجلا أم عاجلا، وستبحث تلك القامات الصغيرة عن طرفٍ آخر تعاديه وتناكفه.
وحده انبعاثٌ جديد للمد الثوري قد يوقف تلك المسيرة الكئيبة المهينة المهزومة، لكن حتى يأتي سيستمر زحف أطماع الأقزام التي ستتكتل على هذا الطرف اليوم، وتعض في ذاك غدا، كمعارك كلاب الحواري، ومن مقاطعةٍ لأخرى سنخوض المزيد من المعارك الخائبة التي لا تعيد أرضا ولا ترد حقا، مستهلكين الناس والثروات ومدمرين البلاد.”
انتهى الكلام…