موسم الهجرة إلى الجنوب

حجم الخط
4

■ يحب السودانيون كاتبهم الراحل الطيب صالح، وهو كما قال لي أحد الأصدقاء طيب وصالح أكثر مما ينبغي، ولعلّه قال ذلك لأنه لا يعرف عمق نظرتنا للسودان، الذي لم ينجب سوى من هم من طينته، ولعلّ الرجل رغم شهرته التي تخطت أسوار العالم العربي بقي على فطرته، محبا وبسيطا ومجتهدا ما استطاع لئلا يخترق الغرور جلدته. فقد احتفت به المحافل العربية على مدى عمر شهرته، واحتفى به القارئ العربي من الخليج إلى المحيط بكثير من الحب، وقليل من الانتقاد والكراهية، وهذا لا يحدث إلا نادرا مع كتاب من صنفه، أزالوا الغطاء السميك عن تلّة عيوبنا أمام رياح الثقافة الغربية التي فاجأتنا منذ كنا هدفا لاستعمار الغرب إلى أن أصبحنا «الورم الذي يصعب علاجه أو بتره» في الجسد الغربي نفسه.
كتب الطيب صالح روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» فغطت على باقي أعماله، وبدت كأنها عمله الوحيد المنجز على مدى ثمانين سنة، هي سنوات عمره الكاملة التي عاشها كاتبا وإعلاميا وسياسيا مسالما، تعاطى السياسة بضميره وأقلامه وهذا من عجائب أمور دنيانا بالتأكيد.
غادرنا السوداني الطيب وبقيت أعماله الصالحة لكل زمان ومكان، تذكرنا به، بل إنها مؤشر حقيقي للسودان المنسي بين الدول العربية، وقد جاءت الجائزة التي حملت اسمه جرسا رنّانا في سماء الأدب، ليس فقط لأنها تحيي تلك الروح الجميلة بيننا كل سنة، بل لأنها ولدت بفخامة لم نتوقعها، إذ لم نتوقع أن تنبعث جائزة أدبية بهذا الإقناع من السودان، الذي لا يزال يئن من جراحه. بدت الطبعة الأولى منها محيرة، ولعلها مرت بدون اهتمام كبير من الإعلام العربي، فقد نشر الخبر كخبر عادي لا كحدث استثنائي ومغامرة حقيقية في عالم الأدب، لقد اعتقدت الغالبية أن جائزة من السودان يستحيل أن تنافس الجوائز الباذخة التي تقدم في بلدان كثيرة، ولعلّ الأقلام العربية القليلة التي أشادت بالجائزة في طبعتها الأولى فعلت ذلك احتراما لذكرى الطيب صالح لا لشيء آخر، وهذا ليس بالأمر السيء، ففي النهاية الجائزة حملت اسمه، وكل المغامرة بنيت عليه وحده.
أمّا الأمر غير المتوقع فهو نمو تلك الجائزة مثل شتلة صبار شجاعة في ذلك المناخ الذي اعتقدنا جميعا أنه غير صالح للحياة، لكن سريعا وبعد عدة طبعات أزهرت تلك الشجرة الشجاعة، وأعطت ثمارا مدهشة.
في طبعتها الثامنة منذ أيام، صوبت الأنظار إلى الخرطوم، إلى تلك الشجرة وهي تتلألأ بثمارها تحت أنوار بدر مكتمل، شهية ومكتنزة بأجمل ما جادت به قرائح الكتاب والأدباء والنقاد من كل العالم العربي، وقد قيل إن عدد المشاركات فاقت
الـ626 عملا، حرصت لجنة القراءة على التعامل معها بحكمة ودقة، حتى لا تفقد الجائزة مصداقيتها كما فقدته بعض الجوائز في فترة وجيزة. وهكذا حمل العالم حقائبه وشد الرحال إلى السودان، في رحلة عكسية لم تكن متوقعة، حمل الكُتَّاب متاعهم، وتوجهوا إلى الجنوب هذه المرة، مثل الطيور المهاجرة، بحثا عن الدفء والسكينة في بلاد الشمس، رجال الثقافة بكل أنواعهم، ورجال أعمال أيضا تنوعت أعمالهم بين النشر والإعلام والاتصال، واجتمعوا جميعا تحت سماء الطيب صالح، أصغوا لحكايات تأخر سردها عنه، رواها كتاب وشعراء ونقاد التقوا به خلال رحلتهم الأدبية، أصدقاء، أحبة، أقارب تربطهم به رابطة الحرف.. حطوا رحالهم في الجنوب، في رحلة عكسية لتلك التي قام بها «مصطفى سعيد»، بعد أن تغيّرت معطيات الحكاية هذه المرة، إذ أصبح الراوي الحقيقي راقدا في مقبرة في أم درمان، صامتا، محلقا بروحه في الأعالي، متابعا ذاك الكم الهائل من المسحورين بتركته الأدبية، وهم يتوافدون على السودان كما لم يفعلوا من قبل، مصغيا بهدوئه المعهود لحكاياتهم هذه المرة، هم الرواة وهو الطفل الذي تدهشه القصص.
لا اختلال هذه المرة في مشاعر «العربي» الذي تاه بين ثقافات الشمال وثقافات الجنوب، فقد تعانق الأدباء من أصقاع العالم العربي نساء ورجالا على مسرح التتويج، وتناثرت الأضواء السعيدة على أكتافهم جميعا، وبينهم ثلاث زهرات من السودان والمغرب واليمن، هن ملكة الفاضل عمر عن روايتها «الشاعرة والمغني»، والمغربية خديجة يكن بمجموعتها القصصية «أيام بوسنية»، واليمنية آمنة محمد عبده عن دراستها النقدية «سيميائية المكان لرواية أولاد الغيتو». لا وجود لـ«جين موريس» بين الصبايا الفائزات، ولا للصراعات الحادة بين الثقافات، شيء ما حدث وجعل طبقات الجليد تذوب بين أهل شمالنا وأهل تلك البلاد في الجنوب، شيء كبير حدث، جعلنا نلتفت لنتاجنا، ونقيمه بأنفسنا، بدون مقارنات مع الآخر، بدون أي تقليل من قيمتنا أو تهجم على قيم الآخر. حلّت بركات «سيدنا الطيب الصالح» على ذلك الحفل البهيج الذي تابعت مقاطع كثيرة منه على مواقع التواصل الاجتماعي، وشاهدت جمهورا راقيا، وفعاليات ثرية حوّلت الحفل كله إلى بؤرة نور انبعثت من السودان وغمرتنا جميعا حيثما تواجدنا على الخريطة العربية الجريحة. إنّه تاريخ طويل من الخطى الحثيثة الواثقة، بدأ في اللحظة التي ولد فيها الفتى الأسمر ذات خريف من عام 1929 ولا يزال مستمرا حتى بعد رحيله في الثامن عشر من فبراير/شباط 2009 .
عودته الأخيرة ليرتاح في تربة وطنه ـ بعد رحلة عمر طويلة خبر فيها أنواعا من الهجرة ـ فيها من الحكمة الرّبانية ما يعيد للسودان بريقه الذي أفل، فليت هذه الجائزة تبقى على هذا الثبات في فضائها المكاني، حيث رفات من ألهمهم بها، ومسقط رأسه، وملعب طفولته، ومدارسه الأولى، وكل تفصيلات السودان الصغيرة والكبيرة التي أسست لملكة الإبداع في نفسه. وليت موسم الهجرة إلى الجنوب يصبح تقليدا سنويا لا تفسده تجاذبات مؤسسات أخرى فيحرم السودان من هذه النعمة. لقد قيل عن المنافي الغربية وبلدان «أكل العيش» أنها تتسع للحي حتى يموت، فتلفظه كما يلفظ البحر جثة، وهذه مصائرنا جميعا، إلى أن تحين السّاعة، فنقفل عائدين إلى قبورنا الأبدية. أليس هذا بالضبط ما حدث لعبقري الرواية السودانية؟ أليس السودان أحق به وبمجده وبجائزته؟
ختام القول إن ما وصلت إليه سمعة الجائزة اليوم يثير القلق إن قدمت كثمرة جاهزة لجهات خارج السودان لتستثمرها برؤى مختلفة، فقد قطعت الأشواط الصعبة لتبلغ اليوم مبلغا جيدا من النضج، وأرى ولو من بعيد أن النخبة في السودان يجب أن تتسمك بالطيب صالح أكثر من قبل، وتُبقِي الجائزة في كنفها وعقر دارها، إذ من الصعب أن تُبتَكر مناسبات مماثلة في شموخها لتحضن هذا العدد الكبير من مبدعي العالم العربي، تحت ظلال العاصمة السودانية، وتكسر الجمود «العاطفي والأدبي» الذي مارسناه بدون انتباه منا ضد هذا البلد على مدى عقود.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

موسم الهجرة إلى الجنوب

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    لم أزرالهند حتى الآن…لكن صديقًا دبلوماسيًا حكى لي : إنّ هناك تقليدًا يربط بين رؤيا الأحلام وتحويلها إلى وقائع في الشارع العام.فمثلًا في الصباح أجد شخصّا إلى جانب شجرة وهويصلي لها ويضع عند جذعها ورودًا…وبعد قليل يتجمّع حوله العديد من المارة وهم يضعون الورود
    مع ورده…فأسأل ماذا جرى وبالأمس كانت الشجرة لوحدها كبقية الأشجار؟ فيكون الجواب : إنّ صاحب الورد الأول رأى رؤيا منام وحلمًا أنّ
    تلك الشجرة حدثته بلسان مبين ؛ إنني شجرة مباركة تحرسني روح الآلهة ؛ فبادرذلك الرجل وحقق حلم الشجرة ؛ والمارة حققوا حلم الرجل.والآن
    بروين حبيب شجرة مثمرة وحقيقية فلماذا لا نخصص باسمها جائزة ؛ لنسميها { جائزة بروين للمبدعين }.جائزة للشعروالرّواية والقصّة والمسرحية.
    وسأضع أول الورود الطبيعية النادرة حول تلك الشجرة الباسقة النضيد ؛ ولوكانت في ( الهند ).فهكذا تبنى التقاليد الجميلة إنْ رحل عنها الحسد.
    كما بنيت جائزة الطيب صالح بتواضع الأدب ؛ من دون صخب ولا مدد.

  2. يقول جوجو:

    عبقري الرواية “العربية” وليس عبقري الرواية السودانية

  3. يقول سامح //الأردن:

    *عزيزي الدكتور جمال حياك الله والجميع.
    لو سنحت لك الفرصة وزرت الهند؛-
    عليك بزيارة(تاج محل) تحفة فنية راقية
    في بلدة ف الشمال على حدود كشمير
    تسمى (سملا ) سبحان الله جمال طبيعي
    غير عادي وهي مرتفعة جدا وتشاهد
    الغيوم بالاسفل وليس بالاعلى.
    *بالعاصمة نيودلهي اغرب شئ
    وسائل المواصلات !!!
    كل شيء يختر على بالك موجود
    * ثيران تجر عربة من خشب وعجالها من خشب !!!
    الحنطور موجود
    الركشا والسكوتر والتاكسي والباص الخ الخ
    *ف الجنوب ستجد عروس الهند بومبي
    مدينة ضخمة واسعة وفيها كل شيء.
    بس خلي بالك يا دكتورنا العزيز من (الحرامية)
    *سرقوني مرة وفي عز النهار.
    بالتوفيق.
    سلام

  4. يقول الدكتورجمال البدري:

    أشكرك أيها الصديق .وحياك الله ياسيدي العزيز؛ وعسى أنْ نلتقي ؛ فالأردن الهاشميّ في قلبي عشق.

إشترك في قائمتنا البريدية