في الإعلام الغربي تحظى بعض الأحداث المتعلقة بقضايا العنف أو الإرهاب بتغطية أكبر من غيرها. يتعلق الأمر في كثير من الأحيان بهوية المنفذ ومكان وقوع الحدث. هكذا يكون التعامل مع ما يقع في إحدى المدن العربية والإسلامية مختلفاً عن التعامل مع الحدث ذاته حين يقع في حاضرة غربية. كأن هذا الانتقاء يخبرك أن الأصل في هذا العالم الخلفي أن يكون فوضوياً وغير آمن، في حين يبدو ذلك غريباً على عواصم الحضارة في أوروبا أو الولايات المتحدة أو غيرهما من مناطق العالم الأول.
مثل ذلك الانتقاء ينطبق كذلك على هوية المنفذ، فإذا كان مسلماً فهو بالضرورة إرهابي ومنتمٍ لتنظيمات أو فكر متطرف. هذه هي الفرضية الجاهزة التي لا تهتم كثيراً بالتفاصيل، أي ما إذا كان الفاعل متديناً حقاً أو مجرد مسلم جديد يجهل حتى مبادئ الدين الأولية. يكفي أن يكون مسلماً حتى يتم التركيز على هذه النقطة التي تقود بشكل انسيابي للحديث عن أهمية غلق الحدود وطرد المهاجرين، خاصة المسلمين. أما في الحالات الأخرى التي يكون فيها المنفذ غير مسلم فسوف تتجه التغطية للقول إنه مجرد حادث معزول وإنه، مهما كانت بشاعته، فهو غير إرهابي، لأن الإرهاب هو وصف حصري اليوم يتعلق بجرائم التنظيمات الإسلامية العنيفة وتهديداتها للحضارة الغربية.
أكد كل ذلك حدثان مرا بلا ضجيج إعلامي كبير الأسبوع الماضي. تعلق الأول بحادث دهس في مدينة مونستر الألمانية حين قتل عدد من الأشخاص وأصيب قرابة الثلاثين شخصاً إثر دهسهم بواسطة حافلة. حبس كثير من المسلمين أنفاسهم بعد سماعهم الخبر، خشية أن يكون الفاعل الذي قتل نفسه بواسطة طلقة نارية منتمياً إليهم، بل شرع بعضهم في تحليل مآلات ذلك وتأثيراته على الجاليات المسلمة والعربية، خاصة في ظل حملات الانتقاد لسياسة الباب المفتوح الألمانية التي قادتها المستشارة ميركل، والتي يرى كثير من منافسيها أنها فتحت أبواباً للفوضى.
كانت الأنظار تتجه ناحية المسلمين دون غيرهم، وبدأ بعض المحللين يتحدثون بالفعل عن تقصير أمني وتسامح أكثر من اللازم تجاه أتباع هذا الدين، داعين لسن قوانين أكثر تشدداً، ربما على غرار المسار الأمريكي. لكن كل ذلك لم يستمر إلا لوقت قصير، حيث خرجت التحريات الأولى لتعلن أن المنفذ لم يكن مسلماً، وأنه لم تكن له أي علاقة بالخلايا النائمة أو اليقظة، وإنما هو مجرد رجل مختل عقلياً.
بعد التأكد من هوية المنفذ الذي لم يكن ينتمي للإرهاب، بحسب التعريف الأمني الأوروبي للكلمة، لم يعد من المهم ذكر اسمه أو تفاصيل شخصيته، كما لم يعد من المهم معرفة عقيدته، وما إذا كان ينتمي لمذهب منحرف أو مجموعة تبرر لهذه العمليات. إلا أن محاولات ربط هذا العمل العنيف بالإسلام لم تتوقف، رغم التأكد من أنه لا علاقة منطقية بينهما، حيث برز تساؤل آخر لا يخلو من خبث وهو: هل تأثر منفذ العملية بعمليات أخرى سابقة نفذها «إرهابيون»؟ إذا كانت الإجابة نعم، وهي كذلك على ما يبدو، فإنه لا مفر من اتهام الإسلام!
على الجانب الآخر من العالم، وفي التوقيت ذاته تقريباً، كان هناك مثال محرج بشكل أكبر للضمير الإعلامي، وهو المتمثل في حادثة مقتل قرابة المئة طفل وإصابة غيرهم في حفل تخريج من مدرسة قرآنية في قندوز الأفغانية. هنا تتضارب المعلومات ولا يعود الإعلام دقيقاً كما كان، فيتفرق دم هؤلاء الحفظة الذين كانوا في مقتبل العمر بين اتهامات بأنهم إرهابيون، كما يقول الإعلام المحلي أو تابعون لحركة طالبان التي تقاتل الحكومة المركزية. اتهامات نفتها الحركة نفسها موضحة أن مكان الاستهداف لم يكن معسكراً كما وصف، أو مكاناً للتجنيد، بل إنه لم يكن يحوي أي قيادات للحركة.
سوف يتفرق دمهم بين قبائل الشرق والغرب، ولن تكون تلك سوى إحدى الجرائم التي ظل يتحملها الشعب الأفغاني الصابر لعقود طويلة، تارة من قبل أبناء جلدته، وتارة من قبل من ادعوا أنهم ما جاؤوا إلا لإنقاذه وتحريره. سيصعب وصف هذه الحادثة، فسواء كان منفذها هو الجيش الرسمي أو القوات الأمريكية الحليفة فإن ذلك يخرجها من دائرة العمل الإرهابي، خاصة أن القتلى لم يكونوا من ذوي الدم الأبيض، بل من درجة بشرية أقل. مسلمون وأفغان معتادون على الحرب وعلى فقد الأبناء والأحبة. كم هو مؤلم هذا التعريف والاختزال الذي يتم نشره على أوسع نطاق، والذي يشارك بعضنا في نشره ببساطة أو سذاجة، من أجل إقناع الضمير بأن فاجعة الفقد تختلف من مكان لآخر، وبحسب تنوع الخلفيات الثقافية. هناك في عالم اليوم الكثير من المؤمنين بهذا الاختزال الغريب، هذا ما يفسر حالة تصاعد الاستخفاف بالمسلمين حين يكونون ضحية. مشكلة هذا الاستخفاف هو أنه يتعمد القفز على الحقيقة الواضحة التي لا خلاف عليها، وهي أن أكبر ضحايا العنف والإرهاب هم العرب والمسلمون، سواء كان ذلك بيد الإرهاب الرسمي المشرعن من قبل سلطةٍ حاكمةٍ ظالمةٍ أو كان بيد جماعات فوضوية ولدتها ظروف كثيرة لعب فيها الغرب نفسه وكثير من حلفائه أكبر الأدوار.
خارج إطار الإعلام الرسمي وعلى الوسائط الاجتماعية علق كثيرون على هذا الحدث الأفغاني المؤلم الذي راح فيه أطفال ضحية صراع ليسوا بأي حال وتحت أي قانون طرفاً فيه. كان من التعليقات اللافتة تعليق استوقفني للكاتبة عبير النحاس قالت فيه: «لا حزن على الشهداء، لو عاشوا ربما سيفتنون ويكونون أداة في يد الأوغاد ببراءتهم وحميّتهم». هذا الاحتمال غير مستبعد في ظل التقلبات التي نعيشها، والتي لا تجعل المرء يأمن على نفسه من الفتنة بعد أن رأى كيف تحول كثير من أصحاب القرآن، بشكل مؤسف ومحزن، لأدوات في يد الطغاة. أما هذان المثالان الحديثان فيوضحان حجم النفق المظلم الذي نجد أنفسنا فيه، والذي يبدو حتى هذه اللحظة، بلا نهاية.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح