في مستشفى صغير مخصص للمرضى الذين دخلوا في طور النهاية، كان اللقاء الأخير بصادق جلال العظم. ذهبنا الروائي والشاعر العراقي الصديق سنان انطون وأنا، في زيارة وداعية إلى صادق في مستشفى «العازر» الذي يقع في شارع برونوير في برلين. لكن زيارتنا خلت من طقوس الوداع. صادق مستلق على سريره في اغفاءته الطويلة التي صارت ملجأه الوحيد من السرطان الذي افترس دماغه، ونحن وقفنا صامتين وعاجزين عن الكلام، أمام رهبة الموت الذي كان ينتظر.
أحسست وأنا استمع إلى وصايا صادق التي روتها لنا زوجته إيمان، أنني أقف إلى جانب موتين، موت المفكر السوري الذي احتلّ مساحة كبيرة من وعي جيلنا، وموت جيلنا الذي يتجسد في حمام الدم السوري الذي لا نهاية له.
مَن يرثي مَن؟ هل يستطيع الأموات رثاء الأموات؟ أليس الرثاء حيلة الأحياء كي يَرِثوا الموتى ؟ من يَرِث اليوم وماذا يَرِث، وركام حلب يغطينا، وأنين المدينة الذبيح يحتلنا.
مات صادق بلا رثاء، لن نلفه بالكلمات التي نفدت، وبالعبارات التي لم يعد تكرارها مجدياً. مات السوري المنفي بصمت وكبرياء. سمعت صمته ورأيت كبرياءه مسجى إلى جانبه في السرير، وأحسست بحاجة إلى دموع لم تعد تأتي لتبلل الحزن بماء الحياة. كلماتنا جفت ودموعنا تلاشت، وصارت كرامتنا تشبه كلاباً ضالة تحاول اللحاق بمهجري سوريا وضحاياها، الذين يمضون إلى موتهم وغربتهم وسط طنين الصمت الذي يغلّف هذا الزمن بضجيج الهمجية.
ورغم الصمت فإن ذاكرتنا تأبى ألاّ تتذكر. أرى صادق في حرم «الجامعة الأمريكية» بعيني الفتى الذي كنته. خرجنا من محاضرة ألقاها في «الأسمبلي هول» عن الفلسفة اليونانية، فتبعته إلى الخارج وكنت أحمل في يدي كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة». التفت نحوي وأخرج قلمه من جيب سترته معتقداً أنني أريد توقيعه على الكتاب، لكن بدلاً من أن اقدم له الكتاب كي يوقّعه، سألته «والآن ماذا علينا أن نفعل»؟ نظر إلي هذا الدمشقي كأنه لم يفهم قصدي. فكررتُ سؤالي، قلتُ ان علينا أن نبدأ من جديد وسألته ماذا يقترح. لا أذكر جوابه بالضبط، هل قال ان هذه مسؤوليتكم؟ أم قال انه لا يدري؟
لكنه كان يعرف في قرارة نفسه أن الفدائيين وحدهم يستطيعون تقديم بداية الجواب. صادق صار مقرّباً من الجبهة الديمقراطية التي أسسها نايف حواتمة بعد انشقاقه عن الجبهة الشعبية، ونحن ذهبنا إلى فتح. والتقيت به مرة ثانية في مركز الأبحاث الفلسطيني، بعد انضمامي إلى أسرة المركز، حيث كان العظم يعمل كأحد كبار الباحثين.
في أثناء عمله في المركز كتب العظم «نقد فكر المقاومة الفلسطينية». أتت عاصفة هذا الكتاب بعد زوبعة كتاب «نقد الفكر الديني»، حيث واجه «الدمشقي الكافر» الملاحقة القضائية والسجن في بيروت. أذكر يوم اتصلت بنا سكرتيرة مدير المركز أنيس صايغ ودعتنا إلى اجتماع عام للباحثين في القاعة العامة. وهناك فوجئنا بوجود صلاح خلف (ابو اياد)، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح واحد كبار قادتها، وهو يقدم مرافعة دفاعية عن فتح في وجه النقد العنيف الذي كتبه صادق. كان صادق جالساً معنا يستمع إلى احدى أغرب المرافعات التي كشفت التركيبة الفكرية التي جعلت من فتح جبهة وطنية تستقبل جميع التيارات الايديولوجية في بوتقة الكفاح المسلح.
ابو اياد في مرافعته شرح لصادق كيف يفهم هو معنى الكلمات، مبرراً تناقضات الخطاب الفتحاوي، التي صرف العظم جهداً كبيراً في تحليلها، بالتكتيك ومستشهداً بلغة البدو التي تقول، حسب زعمه، عكس ما تُضمر.
لا أذكر كيف سارت المناظرة بين الرجلين، لكن نتيجتها المباشرة كانت سحب توقيع صادق عن تقريره الشهري عن القضية الفلسطينية دولياً، الذي كان يُنشر في مجلة «شؤون فلسطينية»، ثم انقطاعه عن العمل في المركز بعد ذلك بفترة قصيرة.
في الحكايتين، دلالة على علاقة الكتابة بالممارسة الاجتماعية والسياسية، وعن فرض الغُربة على المثقفين المجددين عبر أدوات القمع والاستبداد، التي حصدنا نتيجتها التباساً كبيرًا يكاد يقضي على الثورة السورية، ويدمر تضحيات هائلة قدمها الشعب السوري في بحثه عن حريته وكرامته.
تابع صادق بحوثه الفكرية والثقافية الصاخبة، كان يسعى إلى السجال العلني مع أقرانه من المثقفين، مؤكداً دائماً موقعه النقدي، وبحثه الدائم، الذي أوقعه في خلافات حادة مع أصدقائه، صارت اليوم جزءاً من ماضٍ نتذكر ترفه الفكري بحنين.
هل عبّرت الثورات العربية المجهضة، بشكل جزئي، على الأقل، عن قصور ثقافة مرحلة النقد الذاتي، في بحثها عن حرية الفكر وحرية الانسان؟ أم أن الثقافة نفسها كانت ضحية الاستبداد، وتحولت صرخة استغاثاتها في السجون والمنافي إلى نداء من أجل كسر جدار الخوف؟
أسئلة مؤجلة إلى أن يأتي أوان الرثاء، ففي لحظة عجزنا عن رثاء زمننا الغارب، نكتفي بالتقاط مَحَار الحزن من قلب المأساة، ونتذكر مع صادق العظم فضيلتي الشجاعة والتماهي.
شجاعة الدمشقي المنفي الذي أبلغ المحيطين به بعد فشل جراحة الدماغ التي أجريت له بأنه يرفض أن يعيش اصطناعياً، مطالباً بحقه في الموت.
أما التماهي ففي الوصية التي أبدى فيها رغبته الأخيرة بأن يُلقى رماده في بحر بيروت علّه يجد طريقاً للوصول إلى سوريا.
مثلما تاه المهجّرون السوريون في البحر، وها هم يبحثون عن طريقة للعودة إلى أرضهم المحترقة، قرر الدمشقي الشجاع أن يترك لرماده أن يتيه قبل أن يصل إلى أرض بلاده المغتسلة بدماء الضحايا.
أراد صادق جلال العظم أن يمضي محمولاً على شعر المنفى، فكانت قصيدة محمود درويش «لاعب النرد» التي ألقيت في حفل الوداع في برلين، رفيقه في رحلته الأخيرة.
تحية إلى صادق جلال العظم.
الياس خوري
استاذ الياس خوري
إني أشكرك على هذا المقال الرائع حول أحد مفكرينا النابغين. للأسف أن النظام الأسدي المجرم كان يحارب المثقفين والمتعلمين والمتفوقين لأنه كان يخافهم، نظام حقير يخاف من الكلمة، ومن النقد ولهذا كان ولا يزال في سورية عشرات أجهزة المخابرات التي تقتل تحت التعذيب كل من تسول له نفسه انتقاد النظام. إنه لا يرغب رؤية سوى المصفين.
لقد هجر صادق جلال العظم وكان لي الشرف أن أقابله في فندق الكونكورد في لقاء للمعارضة السورية حيث ترى هناك كل المثقفين المهجرين من أمثاله. وهذا ما حصل لشاعرنا الكبير نزار قباني ولعشرات المبدعين السوريين. ولمن لا يعرف صادق جلال العظم فهو أحد أفراد أعرق العائلات الدمشقية وهناك في دمشق بقرب المسجد الأموي قصر يدعى قصر العظم الذي بني على أنقاض منزل معاوية بن أبي سفيان وهو من أجمل القصور الدمشقية التي يجني النظام المجرم عائدات زبارته من قبل السياح الأجانب لأنه بات معلما تاريخيا. إن صادق جلال العظم سيبقى اسم في تاريخ سورية كأحد مناراتها الثقافية والعلمية. ولاشك أن هذا النظام المجرم آيل للزوال لا محالة
تحية إلى صادق جلال العظم ورحمة الله وشكرا للأخ الياس الذي كتب هذا الرثاء باسمنا ولنا جميعاً. لم أقرأ في يوم من الأيام كتاباً لصادق جلال العظم (مع أنني من المؤمنين بالفكر النقدي بلا شك) لكن شاءت الأقدار أن التقي به في المانيا في محاضرة عن الربيع العربي سألته يومها عن الإخوان المسلمين ودورهم في الربيع العربي سؤالي كان عفوياً إلا أنه يختصر وجهة نظري فأنا (سياسيا) لست من أو مع الإخوان ولست من أو مع اليسار التقليدي أو الشيوعي، ربما لأني أنتمي إلى جيل أخر حيث كان الصراع التقليدي بين القطبين الديني واليساري على أشده في جيل الأوائل. المأساة أن هذا الصراع انقلب اليوم إلى حرب دموية شنتها أنظمة الاستبداد على الشعوب ورفضها غالبية المفكرين من طرفي الصراع المذكورين أعلاه وأصبح الطريق مفتوحاً أمام التطرف من جميع الجهات بكل أسف والسبب يبدو واضحاً لأن الاستبداد لم يترك مجالاً للمفكر العربي فإما أن يكون هذا الأخير تابعاً خاضعاً للأنظمة القمعية أو سجينا أو منفياً بعيداً عن الوطن وهنا أرى ن من أروع مافعله المرحوم صادق جلال العظم هو انتصاره بإرادته على المنفى بروحه التي مشت على طريق الضحايا نحو الوطن مثلما انتصر فكره على الاستبداد ياله من مثال رائع للأجيال القادمة
تحية جلال و تقدير إلى الاستاذ الكبير صادق جلال العظم
مَنْ أَنا لأقولَ لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟