مَن يرثي مَن؟

حجم الخط
13

في مستشفى صغير مخصص للمرضى الذين دخلوا في طور النهاية، كان اللقاء الأخير بصادق جلال العظم. ذهبنا الروائي والشاعر العراقي الصديق سنان انطون وأنا، في زيارة وداعية إلى صادق في مستشفى «العازر» الذي يقع في شارع برونوير في برلين. لكن زيارتنا خلت من طقوس الوداع. صادق مستلق على سريره في اغفاءته الطويلة التي صارت ملجأه الوحيد من السرطان الذي افترس دماغه، ونحن وقفنا صامتين وعاجزين عن الكلام، أمام رهبة الموت الذي كان ينتظر.
أحسست وأنا استمع إلى وصايا صادق التي روتها لنا زوجته إيمان، أنني أقف إلى جانب موتين، موت المفكر السوري الذي احتلّ مساحة كبيرة من وعي جيلنا، وموت جيلنا الذي يتجسد في حمام الدم السوري الذي لا نهاية له.
مَن يرثي مَن؟ هل يستطيع الأموات رثاء الأموات؟ أليس الرثاء حيلة الأحياء كي يَرِثوا الموتى ؟ من يَرِث اليوم وماذا يَرِث، وركام حلب يغطينا، وأنين المدينة الذبيح يحتلنا.
مات صادق بلا رثاء، لن نلفه بالكلمات التي نفدت، وبالعبارات التي لم يعد تكرارها مجدياً. مات السوري المنفي بصمت وكبرياء. سمعت صمته ورأيت كبرياءه مسجى إلى جانبه في السرير، وأحسست بحاجة إلى دموع لم تعد تأتي لتبلل الحزن بماء الحياة. كلماتنا جفت ودموعنا تلاشت، وصارت كرامتنا تشبه كلاباً ضالة تحاول اللحاق بمهجري سوريا وضحاياها، الذين يمضون إلى موتهم وغربتهم وسط طنين الصمت الذي يغلّف هذا الزمن بضجيج الهمجية.
ورغم الصمت فإن ذاكرتنا تأبى ألاّ تتذكر. أرى صادق في حرم «الجامعة الأمريكية» بعيني الفتى الذي كنته. خرجنا من محاضرة ألقاها في «الأسمبلي هول» عن الفلسفة اليونانية، فتبعته إلى الخارج وكنت أحمل في يدي كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة». التفت نحوي وأخرج قلمه من جيب سترته معتقداً أنني أريد توقيعه على الكتاب، لكن بدلاً من أن اقدم له الكتاب كي يوقّعه، سألته «والآن ماذا علينا أن نفعل»؟ نظر إلي هذا الدمشقي كأنه لم يفهم قصدي. فكررتُ سؤالي، قلتُ ان علينا أن نبدأ من جديد وسألته ماذا يقترح. لا أذكر جوابه بالضبط، هل قال ان هذه مسؤوليتكم؟ أم قال انه لا يدري؟
لكنه كان يعرف في قرارة نفسه أن الفدائيين وحدهم يستطيعون تقديم بداية الجواب. صادق صار مقرّباً من الجبهة الديمقراطية التي أسسها نايف حواتمة بعد انشقاقه عن الجبهة الشعبية، ونحن ذهبنا إلى فتح. والتقيت به مرة ثانية في مركز الأبحاث الفلسطيني، بعد انضمامي إلى أسرة المركز، حيث كان العظم يعمل كأحد كبار الباحثين.
في أثناء عمله في المركز كتب العظم «نقد فكر المقاومة الفلسطينية». أتت عاصفة هذا الكتاب بعد زوبعة كتاب «نقد الفكر الديني»، حيث واجه «الدمشقي الكافر» الملاحقة القضائية والسجن في بيروت. أذكر يوم اتصلت بنا سكرتيرة مدير المركز أنيس صايغ ودعتنا إلى اجتماع عام للباحثين في القاعة العامة. وهناك فوجئنا بوجود صلاح خلف (ابو اياد)، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح واحد كبار قادتها، وهو يقدم مرافعة دفاعية عن فتح في وجه النقد العنيف الذي كتبه صادق. كان صادق جالساً معنا يستمع إلى احدى أغرب المرافعات التي كشفت التركيبة الفكرية التي جعلت من فتح جبهة وطنية تستقبل جميع التيارات الايديولوجية في بوتقة الكفاح المسلح.
ابو اياد في مرافعته شرح لصادق كيف يفهم هو معنى الكلمات، مبرراً تناقضات الخطاب الفتحاوي، التي صرف العظم جهداً كبيراً في تحليلها، بالتكتيك ومستشهداً بلغة البدو التي تقول، حسب زعمه، عكس ما تُضمر.
لا أذكر كيف سارت المناظرة بين الرجلين، لكن نتيجتها المباشرة كانت سحب توقيع صادق عن تقريره الشهري عن القضية الفلسطينية دولياً، الذي كان يُنشر في مجلة «شؤون فلسطينية»، ثم انقطاعه عن العمل في المركز بعد ذلك بفترة قصيرة.
في الحكايتين، دلالة على علاقة الكتابة بالممارسة الاجتماعية والسياسية، وعن فرض الغُربة على المثقفين المجددين عبر أدوات القمع والاستبداد، التي حصدنا نتيجتها التباساً كبيرًا يكاد يقضي على الثورة السورية، ويدمر تضحيات هائلة قدمها الشعب السوري في بحثه عن حريته وكرامته.
تابع صادق بحوثه الفكرية والثقافية الصاخبة، كان يسعى إلى السجال العلني مع أقرانه من المثقفين، مؤكداً دائماً موقعه النقدي، وبحثه الدائم، الذي أوقعه في خلافات حادة مع أصدقائه، صارت اليوم جزءاً من ماضٍ نتذكر ترفه الفكري بحنين.
هل عبّرت الثورات العربية المجهضة، بشكل جزئي، على الأقل، عن قصور ثقافة مرحلة النقد الذاتي، في بحثها عن حرية الفكر وحرية الانسان؟ أم أن الثقافة نفسها كانت ضحية الاستبداد، وتحولت صرخة استغاثاتها في السجون والمنافي إلى نداء من أجل كسر جدار الخوف؟
أسئلة مؤجلة إلى أن يأتي أوان الرثاء، ففي لحظة عجزنا عن رثاء زمننا الغارب، نكتفي بالتقاط مَحَار الحزن من قلب المأساة، ونتذكر مع صادق العظم فضيلتي الشجاعة والتماهي.
شجاعة الدمشقي المنفي الذي أبلغ المحيطين به بعد فشل جراحة الدماغ التي أجريت له بأنه يرفض أن يعيش اصطناعياً، مطالباً بحقه في الموت.
أما التماهي ففي الوصية التي أبدى فيها رغبته الأخيرة بأن يُلقى رماده في بحر بيروت علّه يجد طريقاً للوصول إلى سوريا.
مثلما تاه المهجّرون السوريون في البحر، وها هم يبحثون عن طريقة للعودة إلى أرضهم المحترقة، قرر الدمشقي الشجاع أن يترك لرماده أن يتيه قبل أن يصل إلى أرض بلاده المغتسلة بدماء الضحايا.
أراد صادق جلال العظم أن يمضي محمولاً على شعر المنفى، فكانت قصيدة محمود درويش «لاعب النرد» التي ألقيت في حفل الوداع في برلين، رفيقه في رحلته الأخيرة.
تحية إلى صادق جلال العظم.

مَن يرثي مَن؟

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د.سامر راشد:

    الياس خوري وقلمه المبدع وكلماته الرائعة التي حين تسقط على أسماعنا تكون لنا برداً على الإكبادِ.
    و نحن نسألك أستاذ إلياس مع كامل الإحترام والتقدير نفس السؤال الذي سألته للراحل «والآن ماذا علينا أن نفعل»؟

  2. يقول ســــــــاميه ـ سوريا:

    تحية إلى صادق جلال العظم.

  3. يقول نهى عبد الكريم - أمريكا:

    إزاء كل هذا الخراب ماذا عسانا أن نقول فخساراتنا فادحة ولعل كلمات المقال للكاتب المبدع خوري كفيلة بتقييم المأساة التي نعيشها كلمات تجبر الدمع على الانهمار في لحظة نشعر بأننا في مسلسل خسارات متوال فالصورة بسرياليتها في العراق وسوريا وبقاع أخرى أعقد من أن نناقشها ، لكن أستطيع الجزم بأن التغيير لابد أن ينطلق من نهج التفكير الذي يقودنا الى التخطيط السليم والعمل على إنتشال ما تبقى من أوطاننا التي نهشها الطغاة والغزاة وسراق الاحلام في وضح النهار تحية لكاتب المقال والرحمة لمفكرنا الخالد صادق جلال العظم

  4. يقول كنعان - ستوكهولم:

    غياب الناقد ” د. صادق جلال العظم” أفقد ثورة الحراك الجماهيري الثوري للشعب السوري، قلما ناقدا في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة من تاريخ نضال السوريين ، قلم نقدي يفكك أسباب حدوث هذا التراجع للنهوض العظيم للشعب السوري في هذه المرحلة الفاصلة ويبين لها طريق الخلاص الوطني والديمقراطي والخروج نحو طريق النصر.
    رحمك الله يامن امتلكت سلاح النقد والنقد الذاتي طريقا للتقدم والتجدد.

  5. يقول غادة الشاويش -المنفى:

    صادق جلال العظم وابو خليل الوزير افكر واغرق وانا لست يسارية بل وكافرة كفرا شديييدا شديييييدا يا الياس الذي احب بالمادية والجدلية ومنتوجات فكرها .. افكر في الرجلين .. في رحلة الحياة .. ماذا قدم لنا الشهيد خليل الوزير الاب الروحي الحقيقي للبندقية الفلسطينية والعسكرية العاتية التي لا تضيع الوقت في الفلسفة وماذا قدم لنا العظم ..؟ هكذا يتناول ابناء جيلي يا الياس ميراث الرجلين في زمن المذبحة وفي زمن الثورة الفلسطينية .. اجدني كافرة جدا جدا وعلى نحو لا اصفه بالمتطرف لانني اجد المادية نحرا للانسان في ارقى صوره الرفيعة واجدها امتهانا لماهية الانسان .. كان العظم كافرا حقا بمذهبي وانا كافرة حقا بمذهبه .. لا احب يا الياس نهش الاموات ولا جلد الناس ولا تعليقهم على صليب من افكارهم فكل مصلوب على جذع فكره يا الياس يتحول الى شهيد بطل مهما كان هذا الفكر ظلاميا لا استطيع ان اهضم كثيرا مما كتبه الراحل الذي تبوا ارقى المناصب الادبية لانني مؤمنة عقلا وروحا بالله العظيم الذي لم يجد فكر جلال ولا فلسفته عليه بمعرفته واني لاذهل كيف لالمع العقول وابلغها قلما وفصاحة ان تكون بداءية موغلة في الغباء والعمى عندما تعتنق فكرة بضحالة المادية الجدلية لعل شمس الاتحاد السوفييتي الذي عولم ثقافته على جيل كامل من المستضعفين في الستينات والسبعينات حيث كان اليسار الثوري مدعوما واباؤه يتخرجون من موسكو موسكو بكل تلويحها لنا بدعم البروليتارية الكادحة وعشقنا وحاجتنا الى دعم ثوري من قوة كبرى كل هذا خلق منا جيلا احمرا تنفس هواء غير هواء الاقصى والقيامة يا الياس سامحني احترم ذكرياتك ولكني تعاملت فقط مع ميراث جلال العظم وها هو فني ولم تفن كتاباته فهل ماديته الكافرة والكافرة حقا من وجهة نظري عل الاقل بكل عتمتها وثقل ظلها حكمت جلال بعد ان فني جسده ام بقي جلال متجسدا بقلمه حيا في قبر الفكر المادي الذي اراه مقبرة الانسان والاخلاق وامتهانا خطييرا جدا لكرامة الانسان المفكر على المادة التي لا تعقل فكيف تجود بالكاءن العاقل المنظم الممزوج من عاطفة وعقل ؟!! وكيف يقرر هذا العقل قرارين مختلفين رغم ان المادة التي تشكله واحدة حين اعتنق فكرة ما ثم اعتنق نقيضها ! بالنسبة لي يا الياس خليل الوزير انتج اضعاف ما انتجه( الفيلسوف) الذي ابصر عمى المادة ولم يبصر خالقها ولا حتى عقله الارفع منها رحم الله الشهيد الوزير وافضى جلال العظم لله !

  6. يقول طاهر:

    تحية إلى صادق جلال العظم.

  7. يقول غادة الشاويش -المنفى:

    تتمة وانا سامارس عملا لءيما واعلن عداءي الواضح للفكر الهدام الذي قدمه العظم ليس لانه انتقد الخطاب الديني او الفكر الديني فالفكر كله ميدانه الانتقاد والانتقاد عمل طبيعي يسبق الاعتناق او الكفر بفكرة ما .. احترم ذكرياتك مع الراحل لكني لا اجد ميراثه عملا انسانيا راقيا بل شطبا للانسان وشفافية روحه امام عتمة المادة وظلاميتها صديقي الياس سامحني فانا لن اترحم على صديقك لانه لا يؤمن اصلا بخالق يجود بالرحمة عليه ! افضى جلال العظم الى ما قدم وترك لنا ميراث فكره (الذي اصمم على ظلاميته ) وهذا هو موقعي كقارءة فانا لا تربطني بالفقيد علاقات خاصة واسفة للقول بان العظم بالنسبة لي شخصية ماركسية متزمتة على نحو سلفي فانتقد كل الافكار الا فكرته ! وابصر خروقات وهمية بحسب اسقاطاته المادية لافكار عديدة لكنه لم يبصرها في فكرته ! رحل الرجل وافضى الى ما قدم وقد يصدم في عالمه الاخر انه لم يكن مادة محضة وان هناك خالقا دعا الى شطبه ! من العقول والقلوب ولاني يا الياس احب خالقي فانا اعادي صديقك السوري هذا واحترم حزنك عليه وانا كاااافرة كفرا تاما بفكره ونتاءجه الظلامية وساعيش كافرة به واموت كافرة به كما عاش كافرا بخالقي ومات كافرا به ان (كان بقي على بداءية الفكر المادي الجدلي الهدام ) تقبل احترامي لحزنك واصراري على الامانة العلمية الفكرية والتي لا تعني تمجيد فكر كل راحل ولا حتى الترحم عليه لانه ببساطة لا يؤمن بارحم الراحمين وهذا تماه مطلق ولءيم مني مع فكره !

  8. يقول Ahmad/Al soury:

    تحياتنا للكاتب الاصيل الاستاذ الياس خوري،ذكرت في المقال ;بأن شجاعة الدمشقي المنفي الذي أبلغ المحيطين به بعد فشل جراحة الدماغ التي أجريت له بأنه يرفض أن يعيش اصطناعياً، مطالباً بحقه في الموت ،تخيلت واستنتجت بعد قرأتي لهذهِ الفقرة نحن نعيش منذ زمن في الحالة الذي رفضها الفقيد جلال العظم.هزائم وضياع لا نعرف ان نتقدم و لا نستطيع ان نتحرر شعب عربي انتفض و قام بثورة سميت بريبع العربي زادت الامور سؤاً ،وانا ايضاً اسئل استاذ الياس مثل د.سامر راشد والآن ماذا نفعل؟

  9. يقول ALI EHADJ ALGERIE:

    الأستاذ خوري حياك الله، لقد فتحت لنا جراحا غير قابلة أن تندمل، سبقتنا إلي تسطير ماظلت تفيض به وحشتنا في ديار الغربة كما يطلق عليها المغتربون في مغربنا العربي، ألم يلاحقنا ألم يداهمنا والشفاء بعيد الآمال، سوريا تحترق، حلب احترقت ، اليمن مثخن بالدماء، العراق مكبل تحت رحمة الطائرات المزنجرات، الداعشون والداعشات من أين يأتينا الحلم من أين يأتينا الرجاء وكأن الزمن دار دورته إلي الوراء جاءنا طارق بن زياد، الجزيرة جزيرتكم الأرض أرضكم، السماء سماؤكم، في خضم هذه وتلك أضـع مـن الأيتــام ـ

  10. يقول منى-الجزائر:

    كان صادقا محبا لوطنه ،وأثبت صدقه في موقفه الحاسم من الثورة السورية وتبنيه لمبدأ الثورة على نظام آل الاسد ،الذين احتكروا دولة بأكملها وسعو لحكمها الى يوم يبعثون…..
    على عكس “أدونيس”…..
    أمّا سؤالك أستاذنا ،لأستاذك،أعيد وأكرره ،ربّما بغصّة نظرا “للفرق النسبي”بين الامس واليوم ،
    ماذا بعد دمار حلب ؟

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية