خلال قمة الأطلسي، التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي، لم يكرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقالته السابقة حول الحلف الذي «عفا عليه الزمن» والذي لم يعد وجوده مبرراً، وهي التصريحات الشهيرة إبان انتخابه، لكنه تمسك بوجهة نظره التي تضع الدول الحليفة أمام مسؤولياتها المالية، وتطالبها بسداد ديونها.
لفهم البرود الأوروبي إزاء الزيارة الأولى للرئيس الأمريكي الجديد لعاصمة الاتحاد الأوروبي ومقر الحلف، يجب التذكير بأن فوز ترامب لم يكن خبراً مفرحاً لمعظم الأوروبيين، خاصة بعد تصريحاته التي أوحت بنيته التخلي عن حلفاء بلاده التقليديين، الأمر الذي تعامل معه الأوروبيون كمهدد، ودعاهم لتخصيص أكثر من اجتماع لمناقشة البدائل إزاء أي خذلان أمريكي.
تعززت المخاوف الأوروبية أكثر، بعدما تم تداوله من أخبار عن علاقة مخفية بين فريق دونالد ترامب والإدارة الروسية، قبل وبعد الانتخاب، وهو ما لم يكن مستبعداً في ظل حديث ترامب المادح لفلاديمير بوتين، وتكراره وعدد من أركان فريقه الرئاسي لعبارات مفادها، أن زمن الحرب الباردة قد انتهى، وأن الولايات المتحدة بصدد خلق شراكات جديدة مع أطراف قد تكون روسيا من بينها.
حتى الآن يبدو الموقف الأمريكي من الحلف ضبابياً. الرئيس ترامب، الذي وجد صعوبة في إعلان نأي بلاده عن هذا التحالف التاريخي الكبير، لم يتردد في المقابل في طرح رؤيته التي تجعل من الحلف منفذاً للسياسة والمصلحة الأمريكية. هذه الرؤية ليست شيئاً خاصاً بالرئيس الحالي، بل هي اتجاه يمثل تياراً موجوداً بالفعل داخل دوائر صنع القرار، وإن كان ترامب قد عبر عن رأيه بشكل مباشر وخالٍ من الدبلوماسية، فكان غيره قد عبر عن الأفكار ذاتها، ولكن بعد تغليفها بإطار لطيف، كالعبارة التي قالها باراك أوباما من قبل: على الأوروبيين دفع الأجرة والتوقف عن الركوب مجاناً.
هذه النقطة تذكرنا بأن العلاقة الإشكالية بين ضفتي الأطلسي لم تبدأ مع انتخاب دونالد ترامب، وإنما ترسبت عبر عقود وأجيال، وتأكدت بشكل واضح خلال الفترة التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي. كان من الواضح، على سبيل المثال، اختلاف وجهتي النظر الأوروبية والأمريكية حيال مسائل مفصلية، كغزو العراق الذي لم تدعم أمريكا فيه سوى بريطانيا، وبدرجة أقل إسبانيا، في حين كانت المجموعة الأوروبية ترى تلك الحرب غير مبررة. في الواقع فإن موقع أوروبا الجغرافي والصلات التي تربطها، خاصة بالعالم العربي، كانت تبعدها عن مسايرة الرعونة الأمريكية. كان الأوروبيون يعلمون أن ضحايا «الفوضى الخلاقة» لن يكونوا فقط من سكان المنطقة، وإنما غيرهم من الأطراف القريبة وصولاً لأوروبا، التي ستكون مجبرة على استقبال ملايين اللاجئين.
أما الولايات المتحدة فقد كانت دائماً بعيدة بشكل كافٍ عن أي تداعيات كارثية لتدخلاتها العسكرية، ولذلك كانت كثيراً ما تتهور وهي تتعامل مع الساحة الدولية تعامل المختبر مع فئران التجارب، فتارة تدخّل عسكري وتارة تشجيع ثورة أو انقلاب هنا أو هناك.
هذا الاختلاف المبدئي كان له أثره الواضح أيضاً في النقاشات بشأن المسألة السورية، فعلى عكس الأمريكيين كان الأوروبيون يعتبرون أن تسوية النزاع السوري هو مسألة أمن قومي أوروبي بالدرجة الأولى، وليس فقط مسألة انسانية أو حقوقية، أما إدارة أوباما فقد كانت تتعامل ببرود وسلبية رافضة أن تتدخل بشكل جاد، أو أن تفرض حسماً قد يكلفها خسائر بشرية أو اقتصادية. سياسة لم تتغير كثيراً في العهد الجديد.
لم يمتلك الحلف، وعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة، رؤية موحدة حول قضايا تعتبر أساسية ومحورية كتعريف الإرهاب مثلاً. أضف إلى ذلك أنه وبخلاف التباين الأوروبي الأمريكي التاريخي، فإن هناك تبايناً آخر بين تركيا التي تعتبر قوة ذات وزن في داخل التجمع وغيرها من الدول الأوروبية وهو ما يصل أحياناً لحد التوتر الحاد. مع التدخل الناجح لروسيا في القرم وأوكرانيا، وفي ظل عجز منظومة ناتو عن التضامن مع تركيا ودعمها ضد مناوئي سلطتها من تنظيمات إرهابية، بدأت بعض الدول التي تربطها علاقات تاريخية مع موسكو، في التساؤل عن جدوى الانخراط في هذا الحلف، وعما إذا كان من الأجدى والأكثر واقعية الدخول مرة أخرى تحت مظلة الحماية الروسية، التي رأى الجميع كيف تستميت في الدفاع عن حلفائها.
ليس الحال في الغرب الأوروبي بأفضل من حال الشرق والشمال، فهناك تتعالى الصيحات المطالبة بالانفصال داخل عدد من الدول، إضافة إلى تلك المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، أو مجموعة اليورو. لقد تبخر حلم «الولايات المتحدة الأوروبية» تحت ضغط التنامي التاريخي للشعوبية والرجعية القومية، وأصبح طموح غالب السياسيين هو الحفاظ على قدر من التعاون، تتمتع داخله كل دولة باستقلال كامل وحرية في اتخاذ ما ينسجم مع مصلحتها الوطنية من قرارات. في ظل هذه النزعة الفردية الغالبة، كان من الصعب النفخ في روح التحالف الأطلسي الكبير وإقناع هذا الشتات من الدول والقوميات بوحدة التحديات والمصير.
ضمن هذا السياق ظهرت في أوروبا مجموعة تستند إلى مفهوم أن جذور فكرة الدفاع الغربي الجماعي تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، أي أنها لم تولد لمواجهة روسيا في المقام الأول، وإنما طرأ هذا التحول استجابة لتحديات الحرب الباردة في أواسط القرن الماضي. تريد هذه المجموعة أن تقول إنه إذا كان الأمر كذلك فسيكون تغيير الأولويات بحسب المرحلة مقبولاً ، كما تزعم أن التهديد السوفييتي الذي وحّد المعسكر الغربي لعقود لم يعد موجوداً. من أبرز أنصار هذا الاتجاه حزب اليسار الألماني، الذي يعتبر أن استبدال التوجس من روسيا السوفييتية بالتوجس من روسيا الاتحادية، التي هي جزء في نهاية المطاف من أوروبا، ليس مبرراً. أما بالنسبة لدول كاليونان وبلغاريا فإن التهديد يقترن في المقام الأول بالأتراك، الذين هم حليف مفترض. تركيا نفسها صارت قاب قوسين من الدخول في علاقة استراتيجية مع روسيا، فبعد التنسيق المتقدم على الساحة السورية، تم تداول أخبار منذ أواسط مارس الماضي عن اتفاق روسي تركي، تزود فيه الأولى تركيا بمنظومة دفاع صاروخي متقدمة من نوع S400. أخبار سوف توضح في حالة صحتها إلى أي مدى اختلطت أوراق الحلف، فتركيا ليست مجرد عضو في «ناتو» ولكنها تعتبر الجيش الثاني من حيث القوة والقدرة، ولا شك أن بناء علاقة من هذا النوع مع روسيا، خاصة في ظل الأزمات والتعالي الذي يظهره الأوروبيون، لا شك أنه يشكّل تحدياً إضافياً.
ذكّرت القمة الأخيرة بالحقيقة التي لا مفر منها، وهي أن الولايات المتحدة هي عصب هذا الحلف، وأنه لا يمكن تجاهلها أو استبدال قوتها العسكرية أو السياسية. كان الحلف علىى الدوام معبراً بشكل رئيس عن الصوت الأمريكي، كما أن كل محاولات التحرك بمعزل عن الولايات المتحدة باءت بالفشل، ولعلنا نذكر كيف انتهى العدوان الثلاثي على مصر حينما ساندت أمريكا، ضمن ظروف معقدة، وجهة النظر السوفييتية ضد حلفائها بريطانيا وفرنسا.
بوضع هذا في الاعتبار يجب ألا نستغرب من استجابة الحلف للرغبة الأمريكية في توظيفه ضمن تحالفها ضد تنظيم «الدولة»، في الوقت الذي لم يقدم فيه ترامب سوى تلك الكلمات الفضفاضة التي وجدت ارتياحاً عند حلفائه حول التهديد الروسي.
ظهرت عبر التاريخ أسماء لزعماء أوروبيين رفضوا بشكل أو بآخر الهيمنة الأمريكية على قرار الحلف. أشهرهم كان الزعيم الفرنسي شارل ديغول، الذي كان يسعى لأن يكون الصوت الفرنسي مساوياً للصوت الأمريكي، وكان قد اشتهر بمناوئته للأمريكيين في عدة ملفات، قبل أن يتجاوزه وغيره التاريخ وتعود الولايات المتحدة لقيادة الحلف بلا منازع.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح