صفحات التنظيم الإرهابي تطوى صفحة إثر أخرى، لكن ما يتركه على الأرض وفي الأنفس أصعب من أن يمحى. الكثيرون عانوا من اضطهاد «داعش» خاصة الأقليات الدينية والعرقية، مثل المسيحيين والإيزديين والشبك والكرد، كذلك الشيعة، وكانت النساء ضحايا التعامل المتشدد في المناطق التي خضعت لسيطرة التنظيم، وهنالك شريحة الاطفال الذين اشرف التنظيم الارهابي على تعليمهم وتدريبهم وإعدادهم، ليخلق منهم ارهابيين جددا يتركهم مثل ورم سرطاني متجدد في جسد المجتمع. فهل فكرت الحكومة والمنظمات المجتمعية المستقلة بهذه المشكلة؟ وهل وضعت الخطط لمواجهة هذا الخطر الكبير؟
هنالك اكثر من زاوية يمكن النظر منها إلى مشكلة الاطفال في ظل «داعش»، الاولى هي مشكلة تسجيل الولادات التي تمت في ظل حكم ما عرف بـ»دولة الخلافة الاسلامية» فمع غياب سجلات الاحوال المدنية التي تضم تسجيل عمليات الزواج والطلاق والولادة والوفاة بشكل دقيق، فقد أشار الكثير من الاهالي المحررين إلى انهم كانوا يتخوفون من إصدار وثائق رسمية من مؤسسات، أو ما يعرف بدواوين دولة «داعش» خوفا من الملاحقة القانونية التي ستتبع ذلك بعد تحرير المدن من سيطرة التنظيم، وهذا الامر سيولد مشكلة كبيرة يجب ألا يستهان بها، كما أن هنالك المئات من الزيجات المختلطة التي تمت بين مقاتلي التنظيم الاجانب والنساء المحليات، أو بين المقاتلين المحليين ونساء أنضممن للتنظيم من جنسيات عربية وغربية، واصبحن زوجات مقاتلين في التنظيم، وما نتج عن هذه الزيجات من ولادات لم يتم تسجيلها، أو أن سجلات التنظيم تم اتلافها مع الوثائق التي أتلفها التنظيم قبيل انسحابه من المدن المحررة، فقد ذكرت وكالة «فرانس برس» في هذا الشأن أن الحكومة الفرنسية تحاول نزع فتيل أزمة أطفال مقاتلي تنظيم «داعش»، الذين باتوا يمثلون «قنبلة موقوتة»، حيث ذكرت الوكالة أن هنالك أكثر من 450 طفلاً ولدوا من آباء فرنسيين متواجدين في مناطق يسيطر عليها تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، حيث قدرت وزارة الداخلية الفرنسية عدد المقاتلين الفرنسين في صفوف التنظيم المتشدد بـ 750 مقاتلا. والأطفال حسب أجهزة مكافحة الإرهاب الفرنسية معرضون للتربية على قيم التطرف، ويمكن أن يتحولوا إلى أسلحة تستخدم في تنفيذ عمليات إرهابية في حال عودتهم إلى فرنسا، لذلك أطلقت الحكومة الفرنسية مشروعاً تشرف عليه عدة وزارات من ضمنها وزارة الأسرة والطفولة ووزارة الداخلية ووزارة التعليم يطمح إلى إعادة إدماجهم في المجتمع الفرنسي عند رجوعهم.
أما الزاوية الثانية للموضوع فتتمثل بما بات معروفا اليوم بـ»اطفال البدون» حيث توجد اعداد من الاطفال الذين لا يملكون أوراقا ثبوتية أو هويات تسهل لهم حياتهم المستقبلية، وترى منظمات تابعة للأمم المتحدة أن هؤلاء الأطفال مهددون بأن تفوتهم فرصة التمتع بحقوقهم الأساسية مثل، التعليم والرعاية الصحية، كما أنهم معرضون للاستغلال أو أن يصبحوا سلعة في تجارة الرقيق أو الجنس أو الارهاب العابر للحدود.
والزاوية الثالثة هي سعي «داعش» لفلسفة «تجنيد المماليك» حيث كان يتم في العصور الوسطى خطف اطفال الاقليات واستعبادهم، ثم اخضاعهم لتربية عسكرية مفرطة القسوة، تنتج منهم ادوات للقتل، استخدمها امراء الدويلات في الصراعات التي كانت تنشب فيما بينهم، وهذا ما تم على يد «داعش» عندما أخذ المئات من اطفال الاقليات من الإيزيديين والمسيحيين وأدخلهم في مدارس خاصة ليخلق منهم جيلا من الانغماسيين والانتحاريين والقياديين الجهاديين في مستقبل الصراع الذي تعيشه المنطقة، وقد ذكر مدير مكتب شؤون الإيزيديين المخطوفين في حكومة اقليم كردستان العراق حسين قائدي، خلال مؤتمر صحافي عام 2016 أن «2640 رجلاً وامرأة تم تحريرهم بالفعل خلال السنتين الماضيتين، وما زال نحو 3770 آخرين يعانون الاستعباد والتنكيل، من بينهم 1400 طفل زجوا في معسكرات يتلقون فيها تدريبات لتنفيذ هجمات انتحارية».
وقد دعم تنظيم «داعش» هذا التوجه بجهد اعلامي كبير، حيث كان يتم تصوير مشاهد تدريبات عنيفة يخضع لها الاطفال والفتيان، يلحقها بمشاهد لصبية إيزيديين أو مسيحيين أو أكراد سابقين ينفذون احكام القتل بأسراهم ذبحا أو بإطلاق الرصاص من أسلحة حديثة تم تدريبهم عليها، والغاية الكامنة وراء ذلك هي رسالة التنظيم لنشر الهلع والرعب في ما عرف بـ»استراتيجية التوحش» التي انتهجها التنظيم في إرعاب المجتمعات المحيطة بمناطق نفوذه.
ومن المعلوم أن مشكلة تجنيد الاطفال باتت مشكلة دولية، ولا يقتصر وجودها على منطقة الشرق الاوسط فحسب، حيث تنتشر في المناطق التي تشهد نزاعات عسكرية في مناطق كثيرة في العالم، خصوصا في اسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية، وقد عرف (اعلان باريس) عام 2007 المنبثق عن المنظمة الدولية للصليب الاحمر، تجنيد الاطفال في النزاعات العسكرية بأنه «أي شخص دون سن الثامنة عشرة من العمر، وكان مجنّداً أو مُستخدَماً بواسطة قوة عسكرية أو جماعة عسكرية، في أي صفة بما في ذلك، على سبيل المثال وليس الحصر، الأطفال والغلمان والفتيات الذين يتم استخدامهم محاربين أو طهاة أو حمّالين أو جواسيس أو لأغراض جنسية».
ومن هذا التعريف يتضح أن هناك المئات من الاطفال الذين جندهم «داعش»، وقد تعرضوا إلى معاملة قاسية نفسيا وجسديا، أدت إلى اجبارهم على عمليات القتل، وهذا الامر عادة ما يتم وهم تحت تأثير العقاقير الكيماوية أو حبوب الهلوسة التي تمنحهم جرأة وهمية، تدفعهم لتنفيذ عمليات القتل، أو حتى تنفيذ العمليات الانتحارية باندفاع غريب، وهذا الامر عادة يكون متلازما مع التعبئة الفكرية والدينية القائمة على مناهج السلفية الجهادية المتشددة، التي تخلق وهما في عقول الفتيان، حول ما ينتظرهم في السماء بعد تنفيذ ما يطلب منهم من قبل قادتهم في التنظيم، كما يمكن أن نتعرف على مهمة تجنيد الأطفال في المناطق التي خضعت لسيطرة التنظيم في سوريا والعراق، من خلال إلقاء نظرة على المناهج التعليمية في المدارس التابعة لما يعرف بـ»ديوان التعليم بدولة الخلافة» والمناهج التي كانت تعد ما عرف بـ»اشبال الخلافة»، وقد أجرت الصحافية الالمانية كاترين كانتز بحثا استقصائيا عن حال التعليم والاطفال في ظل «دولة الخلافة» في الموصل، بعد أن تحررت من سيطرة التنظيم، وقد نشر هذا البحث في صحيفة «دير شبيغل» الدولية؛ فتذكر مثلا «أمر التنظيم المعلمين بإحراق الكتب القديمة التي تمتلئ بالشعر والأغنيات، وحكايات عن تاريخ العراق. أحرقوها كافة. ولم تسلم مادة الجغرافيا من عبث التنظيم، فقد أزال الحدود بين سوريا والعراق، ليعطي انطباعًا بعظمة إمبراطوريته. واعتبروا الأكراد والشيعة «كفارًا» وجب قتلهم. واستُبدلت بكتب التاريخ أخرى تحكي سير قادة التنظيم، وعلى رأسهم أبوبكر البغدادي فضلًا عن سيرة النبي محمد (ص)، كما شمل أمر (دعشنة المناهج) كل مواد الدراسة حتى تعليم الحروف في الصف الاول الابتدائي، حيث يتخذ التنظيم من العنف والآلات الحربية منهجًا دراسيًا لأطفاله، ويقول التقرير إن التنظيم وضع مناهج تعليمية لتربية جيل من المحاربين، فبات الامر كما يلي: (د) دبابة، (ب) بندقية، (س) سيف كذلك الحال في دروس الرياضيات واللغة الانكليزية التي تكرس هذه المفاهيم.
كما أشارت صحيفة «واشنطن بوست» إلى دراسة نشرتها تحت عنوان «اطفال داعش: ارهابيون ام ضحايا؟» جاء فيها، إن دراسة جديدة قام بها باحثون في جامعة جورجيا الامريكية تشير إلى أن حوالي 60% ممن نفذوا عمليات «داعش» الانتحارية في السنة الاخيرة قام بها مراهقون تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 16 سنة، ونقل تقرير «واشنطن بوست» عن تشارلي وينتر، الذي يعمل باحثًا في معهد جورجيا والمؤلف المشارك في التقرير قوله: «من اللافت للنظر أن يتم دمج الأطفال في آلة الحرب التابعة لـ»داعش»، لا كبدائل، لكن كجنود ومهاجمين انتحاريين يقاتلون إلى جانب الكبار».
لكن كثيرا ما تنزاح غلالة الوهم عن عيني الطفل في لحظة مصيرية، كما حدث في عدد من العمليات الانتحارية في الموصل وكركوك، حيث يفاجأ الجنود العراقيين بفتى يصرخ مرعوبا انه يرتدي حزاما ناسفا وقد دسه التنظيم بين المدنيين الهاربين من خطوط القتال، هذه اللحظات الفارقة التي تنتصر فيها براءة الطفولة على كل عمليات غسيل الدماغ والتعبئة الاجرامية التي مارسها التنظيم بحق هؤلاء الاطفال، هي التي يجب أن نتمسك بها، وان تكون منطلقا لمهمة خطيرة يجب أن تتعاون كل الجهود الحكومية والمجتمعية للقيام بها للانتصار على سرطان «داعش».
كاتب عراقي
صادق الطائي