وقعت الواقعة، وقضي الأمر الذي فيه تختلفون، وجرى تقسيم سوريا فعليا إلى مناطق نفوذ عسكري أجنبي، تمهد ربما لتكوين كيان سياسي فيدرالي مريض، قد لا يعيش طويلا.
وتعود الانشطارات والحروب تمزق الممزق فيه، وإلى أن تنتهي كل طائفة إلى أملاكها ودويلتها الهزيلة، وبضمان حماية موثوق من رعاة دوليين وإقليميين، وعلى طريقة ما يخطط له الآن في اتفاقات «كيرى ـ لافروف»، التي تكرر ـ بعد مئة سنة ـ دواعي ومضاعفات اتفاقية «سايكس ـ بيكو».
وبدلا من أن يتغير النظام، كما طمح السوريون في البداية، تبقى جماعة بشار الأسد في دمشق كعنوان بريد لا أكثر، ومجرد لافتة لمنطقة نفوذ روسي ـ إيراني، تقوم فيها موسكو ـ طبعا ـ بالدور الأبرز، وتبلور جغرافيا موقوتة لما يسمى «سوريا المفيدة»، التي كانت قد تراجعت وانكمشت، وتقلصت حدودها قبل التدخل العسكري الروسي المباشر، ولم تكن تمثل سوى حوالى خمس مساحة سوريا كلها، وقفزت بعد التدخل الجوي الروسي إلى أكثر من الثلث، وقد تصل إلى النصف باتفاقات روسيا مع أمريكا في جنيف، وإطلاق حرية الطيران الروسي في قصف وإخلاء مناطق «جبهة النصرة» وأخواتها، ومن دون اكتراث بتغيير تسمية «النصرة» إلى «فتح الشام»، الذي وقفت وراءه دول معروفة لا تملك سوى دفع مليارات الدولارات، ثم تترك الأمر لأصحابه في موسكو وواشنطن، وروسيا لا تريد سوى استخلاص الجزء الأكثر إفادة من الكعكة السورية، ولديها سلاحها الجوي المحدد للمصائر على الأرض السورية. بينما جماعة بشار الأسد مجرد قناع، فلم يعد الجيش السوري الرسمي قادرا على كسب معركة بقوته الذاتية، ولا بالدعم غير المحدود من القوات الإيرانية وحزب الله وفصائل الشيعة الكونية، ولا يتحرك حجر من مكانه، إلا إذا كان الطيران الروسي حاضرا، يقصف بعنف، ويحول المشهد إلى دمار شامل، وإذا توقف الطيران الروسي عن القصف، ينحسر نفوذ قوات الأسد والشركاء الإيرانيين فورا، وينفسح المجال لعودة سيطرة الفصائل المسلحة على الجانب الآخر، وعلى نحو ما حدث مرات فرا وكرا في جنوب حلب، وفي شمال غرب ريف حماة مؤخرا، وموسكو تتعمد أن ترفع يدها أحيانا، وحتى يعرف كل طرف متحالف معها وزنه ومقامه الحقيقي البائس، وحتى لا ينازعها أحد في التسوية التي تريدها بعد حرب السلاح، وهي تهدف إلى استكمال جغرافيا ما يسمى «سوريا المفيدة»، أو قل «سوريا الروسية»، التي تضم المدن الكبرى من حلب شمالا إلى دمشق وملحقاتها في الجنوب، وبينها مدن ومحافظات القلب كحمص وحماة، إضافة إلى مدن ومحافظات الساحل في اللاذقية وطرطوس وبانياس بالذات، وفيها كتلة العلويين الأساسية، فضلا عن مناطق الحدود مع لبنان والأردن، ومناطق «الدروز» من حول «السويداء» التي لم تصلها نار الحرب، وهو ما يفسر عمليات التحصين العسكري والتغيير السكاني الجارية من حول دمشق، فنصف سكان سوريا نزحوا من مناطقهم، أو هربوا إلى خارج سوريا كلها، وهم في الأغلب الساحق من المسلمين السنة، ومحصلة التهجير والتغيير السكاني القسري ظاهرة، وهي خفض حجم مكون السنة العرب في «سوريا المفيدة» إلى أدنى حد، وزيادة الأوزان النسبية للمسيحيين والعلويين والدروز والشيعة، والخلاص من سوريا القديمة التي كان غالب أهلها من السنة، وخلق كيان تعدد وتوازن طائفي تحت حماية روسيا، يكون فيه للإيرانيين نفوذ محسوس من الباطن.
وخارج نصف سوريا الروسي، الذي يضمن لموسكو وجودا آمنا لقواعدها الجوية والبحرية على الساحل السوري، ودوام التحكم في اسم الجالس على كرسي السلطة الصورية في دمشق، وجعل «سوريا المفيدة» قاعدة نفوذ روسي ممتد في المشرق العربي كله، وخارج النصف الروسي، يمكن للآخرين البحث عن أدوار ومناطق نفوذ، ويجري ترك أعلى الشمال السورى للقسمة بين الأكراد والأتراك، يبنى الأكراد منطقة نفوذهم شرق نهر الفرات، ويترك غرب الفرات للنفوذ التركي، فالأكراد هم أهم حليف على الأرض السورية لواشنطن، ولا تكسب قوات الحماية الكردية معركة إلا بالغطاء الجوي الأمريكي، وهو ما يجري من وراء قناع الحرب ضد «داعش»، التي تتلمظ أطراف كثيرة لوراثة الأراضي التي تحتلها دولة الخلافة العبثية، التي حان أوان تسريحها بعد نهاية دورها الوظيفي، وقد أثبت الأكراد جاهزيتهم للقتال المرير، ولا تمانع روسيا في دورهم، ولا في مكاسب يحققونها على الأرض، ولا في وزن معتبر لهم في كيان فيدرالي مريض يخططون له في سوريا، بينما تركز أمريكا على دور الأكراد بالذات، وتنصب نفسها حاميا لهم، وتشجعهم على خوض معارك في الشرق السوري، وبهدف الإجلاء النهائي لجماعة بشار الأسد عن مدن كالحسكة والقامشلي وغيرها من نواحي الوجود الكردي، إضافة لاستخدام الأكراد مع جماعات قبلية عربية موالية لإجلاء «داعش» عن مدينة الرقة، وبهدف خلق منطقة نفوذ أمريكي في الشرق موازية لنفوذ روسيا في الغرب السوري، ثم استخدام الأكراد كورقة ضغط لضبط سلوك تركيا في أقصى الشمال السوري، وجعل إدلب وشمال حلب منطقة نفوذ أمريكي من وراء القناع التركي وجماعاته السورية، وكما تسعى روسيا بوجودها المباشر إلى دفع الحلفاء الإيرانيين للخلف، تسعى واشنطن بدورها إلى إيجاد سبل لتحجيم نفوذ التابع التركي في حلف الأطلنطي، وترويض تركيا عبر التهديد الضمني والمباشر بورقة الأكراد، ولا شيء يخيف تركيا كالأكراد، وحرب تركيا ضد الأكراد في سوريا امتداد جغرافي مباشر للحرب ذاتها في الداخل التركي، فتركيا تشارك في تمزيق سوريا لدرء خطر تمزيق تركيا ذاتها، وما من ضمان لتركيا في توقي المصير نفسه، وتبدو تركيا الراهنة في سباق دراما مهلك تخوفا من المصائر القاتلة، إذ تتراكم مشكلات السياسة الداخلية، ويتسع نطاق التمرد الكردي الداخلي، فيما يحاول أردوغان القفز في الفراغ، وتطويع الجيش لمعارك تمدد تركي في فراغ الشمالين العراقي والسوري، وعلى طريقة المشاركة في تقسيم كعكة «الموصل» بعد تحريرها المنتظر من «داعش»، ومع التركيز على أقصى الشمال السوري الرخو بالذات، وباتفاق ضمني مع روسيا يتجاوز الاعتراضات المعلنة، يتيح للأتراك حرية الحركة والتوغل على الحدود السورية التركية، وعلى طريقة المعارك السهلة التي خاضتها القوات التركية أخيرا، وانسحب فيها «داعش» من دون قتال تقريبا من مدن وبلدات سورية شمالية، وكأن القصة كلها «تسليم وتسلم»، تتيح لتركيا نصيبا في الكعكة السورية، لا يصل في العمق إلى مدينة «حلب» نفسها كما كانت تطمح تركيا، فالروس لا يريدون الأتراك في مدينة «حلب»، ويريدون ضمها إلى «سوريا المفيدة» أو «سوريا الروسية»، وساعدوا قوات الأسد والشركاء على تطويقها بالكامل، والاتفاق مع أنقرة على وقف الإمدادات العسكرية للفصائل المسلحة المحاصرة في شرق حلب، خاصة بعد أن آلت مقاليد السيطرة إلى «جبهة النصرة» باسمها الجديد «جبهة فتح الشام «، و»النصرة» ـ كما هو معروف ـ مصنفة دوليا كتنظيم إرهابي، وهو ما يدعم التصور الروسي في حرب الاستحواذ على مدينة حلب بكاملها، وحرمان الأتراك من الحلم القديم بضم حلب، والمعروف أن تركيا طالبت بضم حلب زمن الانتدابين البريطاني والفرنسي على المشرق العربي، واكتفى الفرنسيون وقتها على سبيل المجاملة بمنح تركيا «لواء الإسكندرونة» بعد سلخه من الأراضى السورية.
كانت اتفاقية «سايكس – بيكو» تواطؤا بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا، وكان الاتفاق على تقسيم المشرق العربي، وعلى التمزيق اللاحق لسوريا بالذات، وإنشاء كيان الاغتصاب الاسرائيلي في فلسطين، فقد وضعت فلسطين مع العراق وقتها تحت الانتداب البريطاني، ووضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، الذي أدارعملية فصل لبنان بصورته الحالية عن سوريا، ثم حاول تقسيم ما تبقى من سوريا على أسس طائفية، وجرى بالفعل إنشاء كيانات منفصلة للعلويين والدروز، أحبطتها الحركة الوطنية السورية وقتها، ورفضتها جماهير الدروز والعلويين ذاتها، وكان أكراد سوريا في حالة اندماج عضوي كامل في الحركة السورية ذات النفس القومي العربي، ولم يكن أحد يجادل وقتها في عروبة سوريا بكامل أطيافها، وبعكس ما يخطط له الآن من محو الصفة العربية الجامعة للفسيفساء السورية، وجعل سوريا كيانا افتراضيا تائها بلا عنوان قومي، وفي صورة فيدرالية أو كونفيدرالية تقود بالطبيعة إلى التقسيم النهائي، وعلى طريقة ما جرى ويجري في العراق الذبيح، وكانت يقظة الوطنية السورية وقت وما بعد «سايكس ـ بيكو»، مصحوبة بصبوات القومية العربية، هي التي صنعت سوريا التي نعرفها، بعد فصل لبنان، واحتلال فلسطين، وبعد مئة سنة، تتكرر القصة، وفي صورة اتفاقية روسية – أمريكية هذه المرة، ولكن بلا حوائط صد وطنيه سورية، وبلا انتباه من العرب الساكنين في عربات نقل الموتى.
كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
القومية العربية هي من دمرت بلادنا وقسمت شعوبها بعد أن كان الإسلام يجمعها ل 1300 سنة
آخر خليفة للمسلمين كان السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله الذي رفض القومية ورفض بيع فلسطين
أجبره القوميين الأتراك على الإستقالة سنة 1909 ليبدأ النداء القومي بسائر أراضي الخلافة وأولها بتركيا نفسها!
ولهذا وقف العرب بمشروع قومي آخر مضاد للمشروع القومي التركي والإستنجاد بالغرب المسيحي حتى ضاعت فلسطين
ولا حول ولا قوة الا بالله
قلَّ ما كتب مقال بهذه الموضوعية والدقة. شكراً الكاتب.
الثقافة والوعي يحتضران، بل عليهما السلام في الشرق الأدنى.
اذا كنا نسمح للجميع بالعب فينا فما ذنبهم, فهذا الكروي يحن الى العثمانيين الذين منعوا العرب من اكل خبز الحنطه ومنعوا الحياة من التقدم خلال خمسة قرون وعندما تقول لهم انك عربي يردون بالعوذ بالله. وهؤلاء الاكراد الذين خكموا سوريه الحديثه عدة مرات يريدون تقسيمها وهذا الحاكم الحالي الوارث عن ابيه حب الفرس لم يعد يعرف ان يصلي الا في داريا المحرره ولا ننسى فخامات العرب بائعي الفتوات لجر العرب الى الحضيض. كلهم شركاء في قتل الحياة ليس في سوريه فقط وانما في عالم العربان.
مقال رائع
مايحدث في سوريا أولا وأخيرا هو نتيجة الأطماع الفارسية التي تتستر خلف المذهب الشيعي
من هنا كانت البداية والمسلسل طويل لم ينته
تطورت دراميا لدخول الروس والأمريكان ومن لف لفهم من مرتزقتهم والنهاية علمها عند الله.
بداية لا بد لي من أشكر الأخ فاروق ..؛ الذي وفّر علي الرد المطول بايجازه لهذا الرد بكلمات بسيطة أدت الى أبعد مما يعتقد المتأسلمون ؛؟
ثم وللتعليق على كلمة الأخ الفاضل د. عبد الحليم قنديل ..فأبدأ محييا أصالتك ونقاء ضميرك وحسك القومي المرهف أخي عبد الحليم..؛ وأنا هنا لست بحاجة للتعريف بتقديري ومعرفتى الحقة بالأخ عبد الحليم قنديل …لقد ( رسخت ) بي وعلى مدى معرفتي بك ، رسخت ايماني ليس بسمو مكارم العربي الأصيل فقط ..بل بأن أمة محمد اليعربية ( لم تزل ) تحتفظ بخامات المكارم وفاء وعطاء للدفاع عن حرية وكرامة أمة يراد لها الزوال على أيدي العدو الخارجي والذي لم تكن تاح لها فرصة للنيل من أمتنا ( الا ) بوجود أياد وأقلام واصوات أصرت الا وأن تكون البوق النافث سمموا متوشحة ضلالة وتضليلا باسم الاسلام الحنيف وعلى اسلوب ( دس السم بالعسل ) أملا بتأدية مهمة غير مقدسة طوعا واحتسابا .؛؛ فيا للوعة أمة تقضم قلبها أيادي تصّر على انتمائها تحت أقنعة الاسلام المزور ..الضالة والمضللة ، وديننا الحنيف أعلى وأسمى مما يقبع خلف الأقنعة المهترئة التي خلفها يتقوقعون .
ان الكلمة التي تكرم بها الأخ عبد الحليم ان أدت لشيء ، فلقد أدت الى شرح واصف لكارثة الاقليم العربي السوري وبمنتهى الدقة والمعرفة الواقعية تاريخا ، تمنيت على الكثيرين من طبول الادعاء أن تصل كلمات كهذه الى ضمائرهم لتنيرها وتعطيها دافع الشرف الرفيع انتماء واعيا مخلصا وباسمى صور الوفاء .؛؛ فلك يا أخي عبد الحليم المزيد من تقديري ومحبتي آملا أن تبقى القدس الغراء منارا تبزع من خلاله أنوارا تضيء لأمتنا طريق الحرية والتحرير ولقدس أقداسنا قبل الجميع .
علي عبد الله صالح تعهد بأن لا يترك حكم اليمن الا بعد ان يحول هذا البلد الى خراب, وهذا ما يفعله الاسد الان في سوريا الذي لم يتورع عن تدميرها وتسليمها لشياطين الارض وعفاريتها على ان يتركها لاهلها. عندما يترك الطغاه والمستبدون العرب وعائلاتهم يحكمون لعشرات السنين تتحول الدوله وما عليها بوعيهم الداخلي ملكا” شخصيا” لهم, وبالتالي ينظرون الى اي محاوله للثوره عليهم واسقاطهم كمن يريد ان ينتزع منهم ملكا” خاصا” يوقظ فيهم النزعه التدميريه والاجراميه اتجاه شعوبهم ودولهم التي حكموها لعشرات السنين في حاله الثوره عليهم. وعليه فأن اصل المشكله بالاساس هي السماح لهؤلاء الطغاه من البدايه بالاستمرار في الحكم طوال هذه السنين. والنتيجه هي ان ما يحدث الان من تدمير وهلاك وتقسيم ليس اكثر من الثمن الذي على الشعوب العربيه ان تدفعه لتقاعسهم لسنين طويله عن الوقوف في وجه الطاغيه ومطالبته بالرحيل الى ان تمددت جذوره في باطن الارض وتشعب استبداده. على العرب ان لا يلوموا انفسهم لما حل باوطانهم لانهم اثروا السلامه وركعوا لاستبداد الحاكم واجرامه تفاديا” للتضحيات التي تقاعسوا عن تقديمها عندما كانت بأقل الاثمان.
الأخ رابح العربي …أشكر مشاركتك الواعية الصادقة .. لقد أصبت حقيقة رغم مرارتها ..والتي راودتني ضرورتها زمنا .؛؛ فلك الفضل مع تحياتي .
د. طارق…شكرا” لك عزيزي…هذا من لطفك الشديد
وكما تفضلك حضرتك..هذه واحده من حقائق مره لا حصر لها وهذا زمن دفع الاثمان. يخطيء من يعتقد عدم وجود منطق فيما يحدث الان في وطن العرب ( وطن العرب حتى اشعار اخر)