باريس ـ «القدس العربي» من سليم البيك: هو أحد الأفلام التي عرضتها سينماتيك تولوز ضمن برنامجها «تاريخ السينما»، إذ تعرض أفلاماً مؤثرة في تاريخ السينما، يمكن أن تكون تمثيلاً لحقبتها سينمائياً، فكان فيلم المخرج الأمريكي مايكل تشيمينو «صائد الغزلان» الذي يتناول الحرب الفيتنامية، وهو أفضل أفلام تشيمينو وقد أُنتج عام 1978، إذ تمر اليوم أربعون عاماً على واحد من أهم الأفلام الملحمية للحرب الأمريكية في فيتنام، ولهذه المناسبة قامت «ستوديوكانال» الفرنسية مؤخراً بإخراج نسخة مرممة بجودة 4K (مع ملصق وترايلر جديدين).
الفيلم ملحمي بموضوعه ومصائر الشخصيات الرئيسية فيه، وممتد لثلاث ساعات، ما يمكن أن يسمح بتتبع المصائر وتحولاتها. وكان شهادة سينمائية مناهضة للحرب الوحشية تلك، وإن ضمن زاوية واهتمامات محددة جلبت له الانتقادات من مناهضين للحرب ذاتها.
في الفيلم ما يمكن اعتباره ثلاثة فصول: الأول في مدينة عمالية فقيرة في بنسلفانيا، والثانية في فيتنام، والثالثة في المدينة الأمريكية ذاتها، إنما بأحوال مختلفة تماماً جرتها الحرب إليها من خلال الجنود العائدين وذكرى من لم يعودوا.
في القسم الأول نشاهد مجموعة من الشبان، أصدقاء في الحي ورفاق في المصنع، أمريكيين من أصول روسية، يملأ المرح والشغب حياتهم، نراهم يلعبون ويشربون ويرقصون ويصطادون الغزلان، يمضون وقتاً طويلاً في الحانات، يغنون لفرانك سيناترا، يمازحون بعضهم بعضا طوال الوقت، أحدهم سيتزوج، آخر يعد صديقته بالزواج إن عاد من الحرب، بل يستدرك قائلاً: حين أعود. ندخل في عوالم هؤلاء غير الآبهين بأنهم ذاهبون قريباً إلى فيتنام، حيث الحرب التي لا فكرة لهم عنها.
في حانة، وأحدهم يعزف على البيانو واحدة من مقطوعات «النيكتورن» لشوبان، أصدقاؤه ينظرون إليه بانفعال تُظهره الدموع. من صوت البيانو نتحول مباشرة إلى أصوات طائرات هليكوبتر وانفجارات، منتقلين إلى الحرب حيث الغابات والنيران والدمار والحرائق، الرفاق أنفسهم نجدهم في الحرب، منتقلين بالزمان والمكان بعيداً جداً عن أجواء الحانة ووقتهم الممتع فيها.
هناك، نجدهم أسرى لدى مقاتلين فيتناميين يلعبون القمار بالروليت الروسية، وهي تصويب المسدس على الرأس وفيه طلقة واحدة، ما يعني أن احتمال النجاة يكون 1/6. بطريقة ما ينجون، وتنتقل الأحداث في فيتنام إلى القسم الذي تسيطر عليه القوات الأمريكية. هناك، يضيع الرفاق عن بعضهم بعضا، منهم من يُصاب ومنهم من تختفي أخباره. صائد الغزلان بينهم، وهو الشخصية الرئيسية في الفيلم، مايك (روبيرت دي نيرو) يعود إلى مدينته ويُستقبل كالأبطال، تبدأ الأحداث تدريجياً تتركز في المدينة نفسها التي لا يعود إليها أحد الأصدقاء، ويعود آخر إنما بذراع واحدة وبدون ساقين.
لعبة الروليت هي فكرة أساسية في الفيلم، إذ أنها المحرك الذي به تتطور الحكاية بشكل متتال مرتين: مرة نرى فيها مايك ونيك (كريستوفر ووكين) مأسورين، يجربان هول الحرب الفيتنامية، ومرة أخيرة وقد صارت الروليت لعبة نيك الاعتيادية التي يربح منها مالاً وفيراً في فيتنام، المرة الأولى هي نقطة انعطاف إلى القسم الثاني من الفيلم، إلى التراجيديا وقد حلت على شخصياته إلى نهايته، والمرة الثانية كخاتمة تراجيدية أخيرة له. كأن اللعبة هنا تشير إلى حال المجتمع الأمريكي إثر الحرب، حال الخارج من لعبة كاد يُقتل فيها، بيده، مصوباً المسدد إلى رأسه، مصدوماً لما وصلت إليه حاله، كما هو حال المقتول، وقد يكون لاحتمال عدد الرصاصات هنا معنى 1/6.
فالفيلم (The Deer Hunter) ليس تماماً عن الحرب في فيتنام، فلم نر منها غير لعبة الروليت ومحاولة الهرب، بل عن آثار الحرب على الأمريكيين العائدين من هناك، وعلى أقربائهم، فمن عاد من الحرب من مايك ورفاقه تغيرت علاقته تماماً بالمجتمع المحيط، لم يعد هنالك الرفاق المرِحون المشاغبون، بل من تبقى منهم عاد بمشاكل نفسية أو بصدمات (تروما) امتدت إلى ما بعد الحرب وإلى المحيطين.
وإن لم يكن الفيلم عن الحرب، بل عن آثارها، إلا أن ما صوره من الحرب كان منحازاً إلى الجنود الأمريكيين، مقابل فيتناميين بدوا وحوشا مرعبين، وقد تلقى الفيلم انتقادات لهذه الصورة. إن كان من موقف سياسي في الفيلم تجاه الحرب فهو أنه ضدها وبقوة، إنما ليس لأن أمريكا كانت قوة احتلال هناك نكّلت بالفيتناميين، بل لأن الحرب عادت على المجتمع الأمريكي بالويلات، وهذا ما نجده في أفلام عديدة، أمريكية وغير أمريكية، تنتقد حروب بلادها في أراضي الآخرين، إنما لأسباب لا تتعلق أبداً بالضحايا من هؤلاء الآخرين، أسباب أقل إنسانية مما يمكن أن يظن المشاهد.
نال الفيلم جوائز من بينها أوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج.