نشيد الجبارين

هذا العنوان مقتبس من قصيد للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، الذي كان ضيفا خفيفا على الدنيا (1909 – 1934) عنوانه «نشيد الجبار» أو» هكذا غنى برومثيوس». كان الشابي عظيما لأنه نظم شعرا موزونا مقفى، وهو في عمر مبكر وترك ديوان شعر قبل أن يرحل في شرخ الشباب، ولم ينطبق عليه المثل القائل: حَالَ الجَرِيضُ (غصة الموت) دونَ القريضِ. كانت لـ«أغاني الحياة» لمسات بروميثية لأن فيها قدرة مجاوزة على الخلق هي من لمسات الآلهة. كل أغنية منها هي نشيد جبار بريشة ساحر، أليست القصائد كلاما منظوما موقعا يأتي به من كان في مهد الشعر صبيا؟ يهمنا هنا أن نطرح مسألة العبقرية المبكرة على بساط بعض النتائج العرفانية التي يتقاطع فيها اللغوي المخصوص مع الذهن المعالج للكلام.
في نهاية خمسينيات القرن الماضي وبداية ستينياته أثارت شَاعرة فرنسية صغيرة اسمها مينو درواي جدلا واسعا حول إمكان الإبداع المبكر جدا. فقد كتبت درواي وهي بنتُ ثماني سنوات أشْعارا مميزة أدخلت المجتمع الفرنسي في جدال نقلته الصحف وقتها، وانقسم المجتمع بين قائل بإمكان أن ينظم الصغار شعرا يكون نشيدا بروميثيا «الفيغارو» وقائل بأن ذلك غير ممكن وأن شعر درواي منحول قيل إنه لأمها ماري نوال درواي («آل» Elle). وكتب السيميائي الفرنسي رولان بارت مُتفاعلا مع الموضوع مقاله «الأدب وفق مينو درواي» قال فيه: «عُرضت قضية مينو درواي لمدة طويلة على أنها لغز بوليسي: هي أم ليست هي؟ وطُبقت على هذا اللغز التقنيات المألوفة لدى البوليس» ( أسطوريات).
ما من شك في أن نظم الكلام وفهمه هو من الأنشطة العرفانية العالية، وظل العلماء يعتقدون لزمن طويل، أن هذه الوظائف العرفانية ترتبط بالتمثيلات الواعية، غير أن الدراسات أثبت منذ أقل من عقد أنه من الممكن أن يرتبط النشاط العرفاني باللاوعي. فقد بين باحث فرنسي في العلوم العصبية الحسية هو فابيان باران، أنه من الممكن أن نفهم معاني الكلمات التي لا نسمعها بشكل واعٍ، وهذا يعني أن الذهن يعالج هذه المعطيات معالجة عالية الدرجة، بما أن الأمر يتطلب لفهم المعنى دخولا إلى الشبكة الدلالية التي فيها تخزن تمثيلات الكلم والمعارف المرتبطة بها (مجلة «عالم الذكاء» بالفرنسية: عدد 29، سنة 2013).
فالنتيجة المتمثلة في أن اللاوعي يمكن أن يعالج نسبا عالية من الأنشطة العرفانية، ربما هي تساوي أو تفوق نسبة المعالجة الواعية لها، وضعت الباحثين في حرج حول نظامنا الاجتماعي المبني على المسؤولية الفردية، وعلى حرية الإرادة، كما قال فرنسوا ريك أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة بوردو الفرنسية. وهذا إذا ما اتصل بموضوع الحال، جعل الإبداع وإنتاج الكلام مرتبطا بالوعي، ولكن أيضا باللاوعي، بيد أنه لا يجيب على افتراض أن كل إبداع سابق لأوانه هو إبداع ناضج بمقياس اللاوعي.
النقد العربي القديم حل مشكلة النبوغ الأدبي المبكر بالاعتماد على الأسطورة، بل إن سمة عبقري التي يوسم بها الإبداع الشعري المبكر هي في العربية منسوبة إلى «وادي عبقر» وهو وادٍ يقع في نجد قيل إن شعراء الجن تسكنه، وأن من دخل هذا الوادي منح جنيا يلقنه الشعر، ومن هنا جاءت تسمية شيطان الشعر المعروفة، بل إن التراث ليُسمي شياطين لشعراء كبار مثل لافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس وهاذر بن ماهر صاحب النابغة الذبياني وغيرهما. لكن فكرة الشياطين من أمر الأسطورة التي تجعل البيان المفارق مرتبطا بالأكوان المفارقة. بعض النقاد العرب القدامى ذكروا أشعارا نسبوها إلى الجن، والأغرب من ذلك أن العَرب نسبوا الشعر إلى مُوَسْوَسِين أو مجانين، حتى لكأن اللوثة العقلية لا تؤثر في نسيانهم لخطاطة الوزن.
المشكلة في طرح مسألة النبوغ الشعري عند العرب، أو عند غيرهم أنها وقعت في خطأ واحد هو رد الإبداع والقدرة عليه مبكرا إلى قوة أخرى غير القدرات البشرية الذهنية، سواء أكانت في عالم الجن، أم في عالم السرقة والانتحال. وما يزال الناس إلى اليوم يردون الإبداع الفني خصوصا، إلى قدرات لا يقبلون البت فيها علميا، بالنظر إلى قابلية معالجة الذهن لها أو عدم قابليته. فما زال الناس يعتقدون أن نشيد الجبارين، وهو نشيد من له قدرة بروميثية على الإبداع، يحتاج أذنا لها ذبذبات فوق الذبذبات العادية التي على ملك البشر، ويحتاج ذهنا منفيا في قمقم.. ولن يتحرر ذهن البشر العاديين قبل أن تشعر بأنها افتقدته، وهذا عسير لأنها منشغلة بالطنين: كلام الناس اليومي… يراد لإبداع الخارقين الاستثنائيين أن يكون كنشيد الجبارين نشيدا، لا توضع له نوتات ولا تحيط به الآلات، هو شيء كالسحر أو أشد سحرا يسري في الأرواح المتعالية.. هو زلزال في النفس بلا ارتداد يعيشه المرء مرة كل خمسين ألفا من سنواتهم التي يعدون.. نشيد الجبارين طعام للخلود لا يُطبخ بين قوم يراؤون ويمنعون الماعون.. وحتى لو صاموا دهرا لن تصلهم نفحة طيب من ضوع الفحم المتصاعد من الكانون الذي فيه بخور نشيد الجبارين، كانون عليه استقر قدره الهلامي الذي لا هو سحر ولا هو جنون، بل شيء إذا اطلعوا عليه قالوا من فرط الجهل به: هو هذيان محموم.
غير أننا إن وزنا نشيد الجبارين بمعيار العلوم، ألفيناه نشيدا كغيره فيه شروط وضعية دونه لا يلتئم له ركن: فمن المعلوم أنه لا صناعة للشعر من دون تمثل واع أو لا واع للخطاطة الإيقاعية، التي تتحكم في نظام الشعر الإيقاعي، هذه الخطاطة التي جعلها العروض العربي صريحة في الأوزان الخليلية. الخطاطة قواعد ذهنية إيقاعية فوق قواعد الكلام العادية، التي تجعلنا نتكلم اللغة أو اللهجة بقواعد ضمنية هي غير القواعد النحوية التي وضعها النحاة بعد ذلك.
حتى نتقن التكلم في سني حياتنا الأولى، علينا أن نتمثل ذهنيا هذه القواعد، وهي تكتمل شيئا فشيئا في سنوات الطفولة الأولى. قواعد العروض الحدسية التي سميناها الخطاطة الإيقاعية، يمكن أن تُكتسب في عمر مبكر، بشرط أن تكون قد سُمعت كثيرا كأن يسمع الطفل من أبيه ومن عمه ومن جده في كل مرة قطعا شعرية يقال له إنها شعر وستترسخ خطاطتها الإيقاعية في الذاكرة الحافظة.
ومع ترسخ القواعد الحدسية للغة الفصيحة يتم الشرطان الأساسيان في القول الموزون بلغة فصيحة. لكن ما دام الشعر الذي يتعود الشاعر على سماعه يحوي الصور والأساليب المعلومة، فإنها أيضا ستحفظ وتترسخ في الذاكرة الحافظة، وبناء عليه لا يمكن وضعيا أن يكون نبوغ من غير ترسخ في الذاكرة الحافظة لهذه العناصر التي تعالج بشكل لاواع.
نعلم أنه ليس أثقل على الساحر من أن تقول له إنك لا تصدقه ولا ترى عصاه حية وليس أثقل على الكلام الساحر من أن ترده إلى ذهن مبدعه وشروطه الوضعية بدعوى العلم: هكذا يكون العلماء ثقلاء والعلم لا يغريه الثناء.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

نشيد الجبارين

توفيق قريرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    لا شك ان أبا القاسم الشابي شاعر موهوب وذو نبوغ مبكر وأشعاره تنم عن مقدرة لغوية رفيعة رغم بساطتها ولو ان لهذا الشاب الذي اصيب بعلة في ميعان الشباب أن يكتب له عمر أطول لكان من طراز المتنبي، وأبي تمام، وشخصيا أشبه نبوغه المبكر بنبوغ طرفة بن العبد صاحب المعلقة الشهيرة.
    استاذ غريرة نصك رائع ولغتك جميلة تذكرني بمقدمات الاستاذ الجليل توفيق بكار

إشترك في قائمتنا البريدية