لا يشكل الحديث عن الفن والأدب في حياة الإنسان العربي هذه الأيام إلا نسبة بسيطة جداً، مقارنة بحجم الجدل الدائر حول الإسلام السياسي والتيارات الدينية وما يتداعى عن ذلك من كلام عن الإرهاب والأصولية والسلفية وخرابات ما يُسمى بالربيع العربي، وهذا عرض من أخطر الأعراض التي تنتاب المبدع العربي، بل هو أحد أبرز الأدلة الصريحة على الهزيمة التي باتت عنواناً لكل ما هو تنويري أو ثقافي، إذ استطاعت الموجة الدينية بأفكارها وأدواتها وموجهاتها الخارجية، وبالوقائع التي صنعتها على أرض الواقع أيضاً فرض خطابها وإزاحة المبدع عن أولويات حضوره إلى درجة استرقاقه.
هنالك حالة مربكة تشير إلى اختلال معادلة الإنتاج الفني والأدبي، وعدم كفاءة الصراع بين الخطابات لصالح الحالة الدموية، بما هي طقس اللحظة وإيقاعها، فعدم وجود رواية لافتة على المستوى الفني، يعني أن المتلقي سيجد في مروية الخراب التي تتناقلها الفضائيات، ما يغريه ويغنيه عن الكتاب، وهذا هو ما يحدث على مستوى المسرح والأغنية واللوحة، لأن الحواس كلها اليوم محتشدة وموجهة ومنذورة لمتابعة حالة العبث المعلنة بجغرافيا وتاريخ الوطن العربي، وتجريف مشاعره حد التجفيف، كما يبدو ذلك واضحاً ومؤسفاً في حالة اليأس والهبائية والاستسلام التي يبديها المبدع العربي، وتنعكس بشكل صريح في رداءة المنتج.
إن النصوص التي تتشكل الآن في لحظة الخراب هذه لها ملامح فنية وثقافية وتاريخية، وتشكل ظاهرة أدبية جديرة بالدراسة، لأنها نتاج مناخ أيديولوجي له خصائصه الروحية والمادية، إذ يبدو أن هذا النوع من الأدب الذي صرنا نطالعه اليوم لا يحضر في قلب المعركة المضادة لحملة الإبادة لمقدرات الإنسان العربي، المتمثلة في الثقافة والتراث والثروات المادية، بقدر ما يتخذ لنفسه زاوية صغيرة على هامش الحدث، حيث لا يمارس المثقف العربي مهمة نقد وتحليل الوقائع إلا بما يتناسب مع قدرته على الاستجابة لشراسة الهجمة الدينية، بدليل التحاق طابور طويل من المثقفين الذين كان يُنظر إليهم كتنويريين وطليعيين وتقدميين بمفاعيل القوة الظلامية التي تتخذ من الأصوليات الدينية وقوداً لحضورها وهيمنتها. على هذا الأساس يلاحظ بروز نبرة إبداعية ذات ملمح نفعي تقر ضمنياً بالهزيمة النفسية والمادية قبالة التيارات السلفية، وتتماهى مع تطلعاتها الإرتكاسية، كما تنفصل عن شروط إنتاج النص الفنية، وذلك من خلال نص مهزوم لا يرى مشروعيته ولا يكتسبها في سياق وطني، كما كانت النصوص تُنسج وتتأسس، إنما في طور مداراة القوة الغالبة، مع إلماحات هزيلة بمخالفة مشروع ذلك الفكر الأصولي، والرغبة في منازلته صورياً، بمعنى أن هذه النصوص تُكتب بلغة وإيقاع القوة الفاعلة على الأرض، أو تستجيب لمملياتها، وهو الأمر الذي يمنع بروز ثقافة أصيلة قادرة بدورها على إنتاج نصوص مناضلة ومعاندة لما يفرضه الواقع.
وأي فحص عميق للنصوص اليوم، خصوصاً تلك التي تُستولد بأقلام شبابية، سيكشف عن غياب الحس المدني الوطني فيها، وانخفاض منسوب الوعي فيها، وكأنها مجرد تهويمات رثائية لذات منهزمة وتائهة وباحثة عن خلاص أو طمأنينة داخل الكلمات، وهذه هي طبيعة النصوص التي ينتجها المنهزمون، فهي لا تتسم لا بالقوة ولا بالنضالية، بل أنها تخلو من أي بعد مقاوم بدعوى براءتها من الأيديولوجي، وكأنها بذلك التخلي عن فاعليتها التاريخية وانفصالها عن مستوجبات الفعل المضاد، تنقطع عن جذورها التأصيلية وتزهد عن التواصل مع مراسي الذات الروحية، وتكتفي بما تمليه الظروف المادية لإنتاج الأدب.
معظم النصوص العربية المتوّلدة ضمن هذا المختبر تبدو على درجة من الاستسلام، ولا تحتوي على حس المناددة، أو أي بعد عدائي للقوة الغالبة، سواء الداخلية أو الخارجية، فهي وليدة خطاب مقترن بشروط، ومسيّج باحترازات أبوية، وخاضعة لقوة تقييدية غير مفهومة مصدرها على ما يبدو إستئلاه المؤسسة بكل مركباتها الاجتماعية والدينية والسياسية، وكأن المسموح للمبدع لا يتجاوز النحيب والرثاء والوصف الأفقي البائس للواقع في أحسن الأحوال، إذ لا يمتلك المبدع حق الرد على ذلك الخراب بالفن والأدب، بالأغنية الجميلة أو المسرحية الجادة أو الرواية العميقة، في الوقت الذي تنفتح فيه الأبواب للمنتجات التافهة الملتبسة بالفن والأدب، وهذا هو أكثر ما يهدد الذات والهوية والقومية، على اعتبار أن النصوص تختزن قيم الأمة.
لم تستحوذ الأصولية الدينية على الأرض فقط، بل هيمنت على المشاعر والأفكار وصادرت اللغة، ولذلك يُلاحظ تسرب لغتها الرجعية الإرتكاسية إلى النصوص الأدبية، وكأنها قوة محتلة تستبدل اللغة التعبيرية بلغة الإمبراطورية المحتلة، وهذا مظهر خطير من مظاهر احتلال وعي المبدع وتزوير أدواته، بما يحمله ذلك الإبدال من علامات القهر والاستلاب وتشويه المنتج الأدبي والفني، فهناك اليوم معجم لغوي يفرض سطوته بشيفراته القياسية على جانب عريض من المثقفين، إذ توحي تلك الممارسات اللغوية باستسلام المبدع لإملاءات سلطة تمتلك من الرصيد المادي ما يؤهلها لفرض خطابها اللامادي.
قائمة طويلة من المصطلحات والتعبيرات والمفردات التي يتم بها اليوم تركيب النصوص الأدبية متأتية من دائرة الخطاب الديني المتطرف، حيث يقف الأدب ما بين مفترقين: إما الخنوع اللاإرادي لتلك الهجمة، أو اتخاذ موقع رد الفعل على ذلك الخطاب، وفي كلتا الحالتين تتجلى مظاهر الهزيمة، إذ لا يمكن لخطاب أن يبني مكوناته الفاعلة بدون استقلالية، فالنصوص المنشغلة بقضايا الطائفية – مثلاً – لا تمارس الرد على رذائل الخطاب التكفيري، كما قد يبدو ظاهرياً، بقدر ما هي حالة من حالات الاستجابة اللاواعية لبرنامج الحركات الأصولية، التي تمكنت من إعادة إنتاج أولويات الكتابة والجدل. كذلك استطاعت تلك التيارات احتلال المكان والزمان، فصارت بمثابة الهواء الفاسد الذي يتنفسه الإنسان، فهي موجودة في المقاهي والجامعات والشوارع والبيوت وفي مختلف الفضاءات، لدرجة أن المبدع عندما يكتب مشهداً روائياً لا يستنطق المكان بدون أن يستشعر ذلك الوجود الاحتلالي، مع التلويح بقدرة تلك القوى على طرد كل القوى من اللحظة وتداعياتها المكانية، بمعنى أنها لا تسيطر على الواقع المادي وحسب، بل تتحكم حتى في صيرورة النص، وبذلك توحي النصوص بقدرة أولئك على تدمير الذات العربية، وقطع صلتها الروحية بالأمكنة، وتفتيت هويتها.
هذا هو ما يفسر خمول الذات في معظم النصوص، أو وقوعها الصريح تحت سلطة قامعة تزيحها باتجاه التهويمات، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور أزمة وجودية تتجلى ملامحها في الاغتراب الاجتماعي واللغوي، وفي سعي الذات لاكتساب هوية مغايرة، وهذه نتيجة طبيعية للذات التي تكون عرضة للقمع، التي لا تستشعر الأمان في المكان الذي نشأت فيه، وكأنها على وشك الخروج من النص بسبب إحساسها العميق بإمكانية التشرد في المكان الفعلي، وذلك هو ما يجعل موضوعة المكان في نصوص الهزيمة على درجة من الارتباك والتلفيق.
إن نصوص ما بعد خراب الربيع العربي تفرض على المبدع تأمل المضامين الاستقلالية في نصه، سواء على مستوى اللغة أو الثقافة ذات الأبعاد النضالية، أي تطوير نموذج كتابي وطني له ملامح مضادة، يراعي العلاقة بين النص والمكان، فالفترة الماضية تسمح بالمراجعة وتعطيل حالة الانهزام على الصعيد الوطني، لصد الآداب العقائدية المتحجرة المتأتية من نماذج ذات طبيعة حربية إقصائية، فالهوية باعتبارها حالة متجددة، لا تتحرك مفاعيل بنائها إلا في طور صد الهزيمة وليس بالتكيّف مع الثقافة الغالبة.
كاتب سعودي
محمد العباس