القاهرة ـ «القدس العربي»: ضمن عروض مهرجان «وسط البلد للفنون المعاصرة/D- Caf» عُرض فيلم The Look Of Silence إنتاج عام 2014، للمخرج الأمريكي جوشوا أوبنهايمر ، وهو الجزء الثاني من فيلمه الذي قدمه عام 2012، بعنوان The Act of Killing ــ تم التعرّض له من قبل/راجع «القدس العربي» بتاريخ 23 يوليو/تموز 2014 .
في فيلمه الجديد يستكمل Joshua حكايته عما حدث في إندونيسيا، من عمليات الإبادة الجماعية للفصائل الشيوعية، ضحايا الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1965، وأطاح بحكومة الرئيس أحمد سوكارنو، وثبّت مقاليد الحكم لسوهارتو بدلاً منه. في هذا الفيلم The Look Of Silence يبدو الأمر من الجهة الأخرى، وهي وجهة نظر الضحايا ــ الفيلم الأول كان من وجهة نظر القتلة ــ وذلك عبر شقيق أحد ضحايا المجازر، الذي يبحث عن القاتل وسط حشد من القتلة، الذين لم يزل البعض منهم يترأس مناصب عليا في البلاد، كرئيس البرلمان الإندونيسي.
مشكلات ضِعاف البصر
يقوم السرد في الفيلم عبر شخصية شقيق أحد الضحايا، الذي يعمل بالبصريات الطبية ــ يقوم بعمل نظارات لضعاف البصر ــ عواجيز من أيام المجازر، ضعف بصرهم وأصبحوا لا يرون جيداً، ويبدأ الشاب في تبديل العدسات، حتى تتضح الرؤية أمام المريض، ليقول في النهاية «نعم .. هكذا أستطيع الرؤية جيداً» هنا يبدأ الحديث عن عمليات القتل، وهل بعد كل هذه السنوات أصبح هؤلاء يرون جيداً بالفعل؟
تأتي الردود دائماً باحثة عن مُبررات، ومن خلال ترويج الأكاذيب حول الخطر الشيوعي وقتها، من أنهم … أعداء الله ودينه، هم الذين يسكرون، ولا يتورعون عن تبادل زوجاتهم في ما بينهم.
وعند السؤال.. هل رأيت ذلك؟ وهل عرفت أحداً منهم فعل ذلك؟ تأتي الإجابة بأنه لا يهم، الأهم أنهم يكفرون بالله!
يحاول الشاب البحث في قريته عن هؤلاء، والذهاب إلى أماكن أخرى تسكنها شخصيات كان لها أكبر الأثر في اتخاذ قرارات القتل، وتصفية أكثر من نصف مليون إندونيسي، ليصل إلى رجل لا يدري كم أمراً أعطاه بفعل القتل، وهو الآن يشغل منصب رئيس البرلمان الإندونيسي، ليقول الرجل في كل صلف «لابد من نسيان الماضي، والنظر إلى المستقبل، حتى يأمن هؤلاء على أنفسهم في المقام الأول، وإلا سنعود لما فعلناه من جديد، فالنسيان أفضل الحلول، ولمصلحتهم قبل كل شيء».
فقدان الذاكرة الحتمي
الأب تجاوز الـ 107 أعوام من عُمره، وبالسؤال عن سِنه الحقيقية يقول إنه في الـ17، ولا يستطيع سوى أن يغني أغنية حب قديمة، يغازل فيها حبيبته، وزوجته الآن تعدّت الـ 100 عام ــ هذه أسرة القتيل وشقيقه الباحث عن قاتله ــ الرجل مجرّد جسد هزيل، قعيد شبه فاقد السمع والبصر، انقذته ذاكرته من فقد ابنه، وقد ذهبت، فلم يعد يدري في أي مكان أو زمان يعيش، بينما المأساة تتجسد في حالة الزوجة/الأم، التي تحدث ابنها على الدوام، وقد شاهدته يأوي إليها في لحظاته الأخيرة هرباً من القتلة، الذين عادوا وأخذوه من حضنها ليقتلوه في غابة بعيدة بجوار أحد الأنهار، ويمثلون بجثته، كما العديد من الجثث التي امتلأ بها النهر، النهر الذي ارتعب الجميع من اصطياد أسماكه، نظراً لأنها تغذّت على الجثث والدماء، فأصبحت ملعونة، وكأنها تعاويذ الشيطان.
كأسان في صحة الأشباح
اعتراف آخر يأتي من أحد المرضى، وقد أصبح غير قادر على الرؤية، ومع تعدد قياس العدسات أمام عينيه، حتى يصل إلى عدسة طبية مناسبة، تتيح له الرؤية بوضوح، لكن بصيرته لم تزل في غِيّها تعْمَه. وعند سؤاله هل قتل بنفسه فعلاً، يُجيب بكل تفاخر بأنه فعلها مرّات لا تحصى، فهُم أعداء الله، وأن الرسول الكريم حذّر من هؤلاء الكفرة، وينفي أن الرسول قام بقتل الأعداء، لكن وضعه ورفاقه كان مختلفاً، وعندما يُضيّق عليه الشاب الخناق بالأسئلة، تتشنج ملامح العجوز، ويعود عصبياً كما كان، قائلاً «أنتَ تسأل أسئلة عميقة معقدة، وأنا لا أريد الإجابة، من الأفضل أن تمضي، فقد اقترب موعد الصلاة»، ثم تتوتر ملامحه وكأنه يتذكّر ما قام به من جرائم، فيُعاود الشاب السؤال عن تأنيب الضمير مثلاً أو ما شابه، فيجيب الرجل أنه ليس مُستعداً أن يقضي بقية حياته يطارد أشباح قتلاه، كصديق له لم يحتمل ما فعله، فكان يصعد في أي وقت فوق إحدى الأشجار العالية، ويؤذّن للصلاة.
لا يستطيع الحياة في مثل هذا الجنون، فقام بشرب دماء بعض من ضحاياه، وهكذا يطرد أشباحهم وأصواتهم إلى الأبد. وعن طَعم ومذاق دماء البشر يجيب الرجل «الدم البشري عذب ومالح»، وأفلحت التعويذة، وقد تبخرت ملامح الضحايا من ذاكرته، لكن لحظات صمته وتوتر ملامحه وعينه المُجهَدة من كثرة ما رأت، يبدو أنها تحتفظ بالعديد والعديد من صور القتلى في تشنجاتهم وصرخاتهم لحظة القتل، ربما لا تستطيع عينه إلا رؤية هذه الأشباح، رغم أن أصواتهم لم تعد تزوره في ليل، وكما قال الرجل بالفعل عن الدم البشري … «عذب ومالح».
نضال وخلود وتسامح موهوم
قد يبدو أن الفيلم يتحدث عن زمن مضى، إلا أن الانشغال بالحاضر كان همّاً أساسياً، يريد صانعه الكشف عنه بكل الطرق، بداية من الكلمات الصريحة التي تصر على (النسيان) والعيش في الحاضر، ولكن أي حاضر يقصده سفاكو الدماء؟ هنا يتجسد الحاضر بشكل أقوى، فهو لم يتخلص مما حدث، والجيل الجديد الذي يمثله الشاب/شقيق الضحية، والذي لم يشهد هذه المجازر ــ دلالة لافتة لجيل جديد يحمل إرث الماضي ويسير به ــ يدل على أن الحاضر نفسه هو استمرار مزمن لما حدث، ودائماً ما كانت الوصايا الحكيمة من القتلة وهم الآن على أعتاب الموت ــ في لهجة شبه آمرة ــ أن النسيان هو أفضل الطرق، وترك الماضي لحاله، وإلاّ … لم يزل الصلف ونغمة التهديد تغلف حكمة الموتى.
الزمن المستمر أيضاً، الذي لا يمكن تقسيمه لماضٍ مؤلم وحاضر حكيم ومستقبل مُتسامح، يبدو في حالة التربص بين الطرفين، أحدهما مغلوب على أمره، والأخير يرتعب من تبادل الأدوار، ويحرض على الحالة الراهنة أكثر مما كانت من قبل، الشباب المتحمس الآن/القتلة، أصبحوا أصحاب مناصب وأموال وتجارة وعلاقات متشابكة، وتاريخ نضالي ــ من وجهة نظرهم ــ يورثونه الأبناء والأحفاد، ولن يفرّطوا فيه مهما حدث، المسألة مسألة البحث عن خلود إذن، حتى إن كان من خلال الدماء، خاصة إن كان هذا الخلود يغلفه حِس ديني، أو هوس ديني يقرّب صاحبه ــ ظناً ــ من خالقه.
الأسلوب الوثائقي
رغم الحالة التي يخلقها الفيلم، والجهد المبذول في عمليات البحث والاستقصاء والتنويع ما بين الشخصيات والكشف عن المفارقة الدائمة بين ما تقوله وما تحمله ملامحها من حقائق تجاهد في إخفائها، وتفضحها الكاميرا في ذلك ــ خاصة نظرات الصمت الطويلة للشخصيات، وكأنها تتذكر كل تفاصيل ما حدث ــ إلا أن الشكل الفيلمي هنا لم يبتعد عن الشكل التقليدي للفيلم الوثائقي، من حيث الحوارات والمقابلات، ومحاولة خلق شخصية تتصدّر منصة السرد ــ الشاب خبير البصريات ــ فلا توجد مشاهد تمثيلية، أو إعادة لمشاهد حدثت بالفعل، كما في الجزء الأول The Act of Killing الذي ينتمي أكثر لشكل الدوكيوداما، أكثر من كونه فيلماً وثائقياً تقليدياً، ربما لو لم يُسبَق هذا الفيلم The Look Of Silence بالجزء الأول، لكان أكثر أثراً وتأثيراً، ربما اعتمد المخرج هنا على ما سيُقال في هذه المقابلات، ووجهة نظر القتَلة، الذين لا يتورعون أو يشعرون بأدنى لحظات الندم، لأنهم يُقاتلون ــ ظناً ــ تحت راية الله، وهم الآن يعيشون في منازل فسيحة، وتزدهر تجارة البعض منهم، وقد أصبحوا أحد اهم الرأسماليين في الدولة، إضافة إلى السياسيين المُسيطرين على الحياة هناك.
لم يغفل الفيلم الدور الأمريكي في تدريب القادة، وبث روح القتل والإبادة في نفوسهم، وكأنهم يقتلون بالوكالة عن خطر لا تستطيع مواجهته الولايات المتحدة وجهاً لوجه، خاصة بعد غرقها في مستنقع فيتنام، الذي لم يختف من ذاكرتها حتى الآن. يخلق الفيلم حالة من التواصل مع ما يحدث على الشاشة، لكنها لا تصل بأي حال إلى حالة الإدهاش التي خلقها في الجزء الأول منه.
محمد عبد الرحيم