أعرف أن المعركة التي يخوضها جاد تابت ورفاقه في نقابة المهندسين في بيروت، ليست سهلة. فهذا المعماري الكبير، هو مواطن قبل أن يكون مهندساً أو مثقفاً. مواطن يرى أن المواطنة هي العلاقة الوحيدة التي تربط الانسان بأبناء وطنه. علاقة قائمة على المساواة ورفض الطائفية وكل اشكال العنصرية. مواطنة تميز بين الدولة وآلة الحكم. فالدولة هي ملك المواطنين جميعاً، أما آلة الحكم فهي في خدمة المواطنين. الحاكم منتخب إلى وظيفة عامة، كي يخدم من يدفع له مرتبه، لا كي يستعبده.
المواطن جاد تابت، وجد نفسه ككل المواطنين اللبنانيين على هامش ما يجري في بلاده. رأى كيف حولت الطبقة السياسية اللبنانية المواطنين إلى أتباع، عبر نظام طائفي زبائني هدفه نهب الموارد العامة، باسم الدفاع عن مصالح الطوائف. هذا المواطن -المهندس، كان شاهدًا على تدمير بيروت، وتشويه معالمها، وناضل مع رفاقه المهندسين والمثقفين والفنانين من أجل وقف استباحة المدينة. وشهادته كانت عملا مثابرا منذ سنوات لا تحصى، من أجل ارساء قيم أخلاقية تنقذ لبنان من هذا المنحدر الذي تقوده إليه طبقة أمراء الحرب والمال. طبقة لا تشبع من النهب واستباحة الاملاك العامة وتحطيم القيم الأخلاقية. طبقة لا هدف لها سوى اغراق الناس في المزبلة والافقار من أجل أن تستعبدهم وتشتري ارواحهم بالفتات.
أعلن جاد تابت ترشيحه لمنصب نقيب المهندسين في وجه كل اطياف الطبقة السياسية اللبنانية التي تختلف أطرافها على كل شيء، لكنها تتفق على منع أي عمل نقابي أو سياسي مستقل، لأنها تريد أن تحتكر لنفسها العمل العام، كي تجعله جزءاً من سياسة امتهان كرامة اللبنانيين واللبنانيات وتحويلهم الى رعايا في دويلات الطوائف المنحطة.
جاد تابت ليس مرشحاً رمزياً، انه مرشح حقيقي يستقطب حوله مئات المهندسات والمهندسين، الذين حوّلوا «نقابتي» إلى تيار كبير، يخوض معركة استعادة النقابة لاستقلاليتها، ورفضها المحاصصات الحزبية والطائفية، كي تكون اطاراً يرسي من جديد قواعد احترام حقوق الناس والبيئة ويقف في وجه سرطان الجشع الذي ينهب ويشوه ويدمر الذاكرة والحاضر في آن معاً.
كما يأتي هذا الترشيح بصفته جزءاً من حركة شعبية تتنامى، وجدت اشكالاً مختلفة للتعبير، من الحراك الشبابي الشعبي في وجه المزبلة، إلى الانتخابات البلدية التي خاضتها «بيروت مدينتي»، بجدارة لافتة، كادت تخلخل مداميك الهيمنة على بيروت، لو كان هناك قانون انتخابي نسبي، إلى المظاهرات ضد الضرائب على الفئات المتوسطة والفقيرة. وهو استكمال لنضالات المعلمين، التي كان لا بد من قيام تحالف جهنمي بين كل احزاب الطوائف من اجل الهيمنة على هيئة التنسيق النقابية.
معركة جاد تابت هي معركة كل هذه النضالات التي آن الاوان كي تجد تتويجها، وتحول هذا التتويج إلى نقطة انطلاق جديدة. ترشيح تابت ورفاقه في «نقابتي للمهندسة والمهندس»، هو فرصة ذهبية لمقاومة اليأس والتيئيس، وتأسيس العمل النقابي على القيم المهنية والأخلاقية.
المعركة في نقابة المهندسين هي اليوم المؤشر على معركة شاملة تخوضها القوى الديمقراطية والعلمانية ضد نظام الفساد، وهي احد المقاييس المهمة التي تضع النخب المهنية والمثقفة أمام مسؤولياتها الوطنية والاجتماعية.
الواقع اللبناني على مستوى المؤسسات النقابية والسياسية وقع أرضاً، ولم تعد الطبقة الحاكمة التي أوصلت لبنان إلى هاوية مسلسل الأزمات قادرة على تقديم شيء للبنانيات واللبنانيين سوى التحريض على الكراهية، واحتقار الذات والاستسلام لهذا الأمر الواقع في الحضيض.
من هنا يكتسب البرنامج العقلاني الذي ينطلق من اطروحات اجتماعية واضحة أهميته الكبرى، لأنه يعيد الدور إلى النقابة كأداة للدفاع عن المهندسين وعن المهنة، وكصوت للمصلحة العامة.
المهندسات والمهندسون هم أمام تحدي اثبات دورهم، فالعمارة والتنظيم المدني وحماية البيئة، هي مقاييس سياسية واجتماعية ومهنية. ودور النقابة هو الدفاع عن هذه الأسس وتطويرها. أن تكون مهندساً يعني أن تضع المعرفة والخيال والابداع في خدمة المصلحة العامة، حيث تجتمع المعرفة بموقف اخلاقي، يؤكد على أن دور المهندس أن يبني الوطن في سياق عمله على بناء البيوت وشق الطرقات. فهذه المهنة ترتب على من يقوم بها مسؤوليات اخلاقية كبرى، لأنها جزء من مركّب ثقافي واجتماعي عليها أن تعيد انتاج قيمه بشكل دائم.
جاد تابت هو المرشح الذي يقدم عبر نتاجه وحياته العملية وانخراطه في الشأن العام، نموذجاً للمثقف الملتزم والفنان المبدع والمناضل، وهو النقيب الذي يستطيع أن يعيد للعمل النقابي هيبته وفاعليته.
من الطبيعي أن تكون معركة تابت ورفاقه صعبة، ولكن من الضروري أيضاً أن يعي المهندسات والمهندسون أن نقابتهم أمام فرصة نادرة كي تكون اطاراً نقابياً يكسر معادلة سيطرة الطوائف واحزاب السلطة على النقابات المهنية.
في صحبة جاد تابت تعلمت كيف أقرأ ابجدية المكان، فهذا المعماري الرحب الثقافة، لم يكن فقط معلما لطلابه في الجامعة، بل كان أيضاً علامة ثقافية في لبنان ربطت بين العمارة والأدب، وجعلت من الكتابة عن المدن وتاريخها، سجلاً لحكاية الانسان مع مراياه.
واليوم، اعطيه صوتي، رغم أنه لا صوت لي في النقابة، وأجد نفسي، وأنا أتابع معركته الانتخابية، أقف الى جانب زملائه وطلابه، وادعو معهم إلى أن تكون «نقابتي»، بداية جديدة في معركة اعادة تأسيس روح هذا المكان الذي لن يفقد روحه.
الياس خوري