كيف العمل من اجل أن نحيا بدون استبداد؟ وبأي معنى يمكن أن نفهم أن الفكر العربي ملقى في التراث؟
من التحولات الكبرى التي عرفها فضاء الأشقياء، ذلك التحول الجوهري في ماهيته الاستبداد، إذا أنه لم يعد طريقة شرسة في الحكم تعتمد على جهالة الأمة والجيوش المنظمة، بل انتقل إلى خطاب التمويه على الحقيقة، هكذا أصبح يختزل الأجساد على شكل وصفة طبية، يتناولها المرضى باطمئنان كبير في النفس، لأن خدمة الروح بأدوات الإقناع الديني والطرب تضعها في قلب النسيان. وبذلك تأخذ الحياة شكل قواعد أخلاقية يومية، منفصلة عن الشقاء اليومي للشعب، مادام أن استعمال الروح في الوجدان يجد سكينته في الأوهام.
ولعل هذا بالذات هو العائق المعرفي أمام الفكر الفلسفي الذي ينصح بتجنبه في الحمية الطبية، لأنه ضار للروح، لكن هل يتعلق الأمر بمواجهة الفكر الفلسفي لذاته؟ أم انه يشكل خطرا من خلال نشره لقواعد العقل الانواري؟، وبعبارة أخرى كيف يمكن للاستبداد أن يحمي نفسه من الهدم النقدي، بدون اختراع استراتيجية ثقافية يواجه بها الأعداد؟، هل الاختفاء وراء الثقافة يمدد عمر الاستبداد أكثر من اختفائه وراء العنف؟
وفي الحقيقة أن السيادة المطلقة تقوم على خطاب أسطوري معتم، انه خطاب القساوة والمرارة بلغة فوكو. ولكنه أيضا خطاب الأمل المختبئة في المجهول، لأنها وعود تؤجل إلى العالم الميتافيزيقي. ولذلك فان الحقيقة تعمل في الخطاب الاستبدادي بوصفها سلاحا مدمرا لإرادة الإنسان، إذا تعمل على تحطيمه من الداخل، وتحوله إلى تمثال الجهل والتعصب الديني والطائفي، ذلك أن الاستبداد يجد ترياقه في صراع الأضداد: لأنه مجرد فكر إيديولوجي ملتبس الحقيقة.
وببزوغ نهار جديد تكون أشعة أنواره مدمرة ينهار، باعتباره اقرب الجسور إلى العدمية، فمن طبيعة كل الأشياء التي تظهر في صميم العدمية أن تعود إلى أصلها مهما طال الزمان.
وبما أن الخطاب السياسي المحرض على النزعة القومية والوطنية، تنتهي صلاحيته بانتهاء الحروب، مادام أنه يحمل مطالب غير منظمة ولا يمكن أن تتحقق، فإنه يتحرك بهدوء نحو هوامش الوعي الشقي، الذي يجد حياته أفضل في الخطاب السياسي المعارض، حين يسلك طريقه إلى الوعي اليائس من اجل تحريره من عبودية الاستبداد، ومنحه بطاقة العبور نحو الوعي الذاتي، بواسطة ثورات الحرية والمساواة، بيد أن سلامه يكون هو الجدل الذي:» يقنن الصراع والحرب والمجابهة في منطق التناقض الاجتماعي، ويضمن عبر التاريخ تشكلا للذات الكونية ولحقيقة متفق عليها عالميا «. فالجدل الهيغلي قادر على تحرير الإنسان من العبودية، ولذلك فان جدل العبد والسيد ليست سوى حرب اجتماعية خاضتها الفلسفة ضد النظام الإقطاعي والاستبداد السياسي. لكن كيف يكون ذلك ممكنا في فضاء تسيطر عليه التيولوجيا أكثر من السياسة؟، كيف يمكن للجدل أن يحرر شعبا فقد ثقته في الأرض وتحول إلى مواطن للسماء؟، وهل يستطيع الجدل الفلسفي أن ينجح عندنا بعدما نجح في الغرب؟.
فن الجدل في مواجهة فن الاستبداد، صراع الحقيقة والوهم، العبد والسيد، تضاد تاريخي، مرة يكون مشعا وغاليا ما يظل في العتمة. ولذلك فان: الجدل هو المسالمة بواسطة النظام السياسي لهذا الخطاب المر والحزين للحرب الحقيقة. إذ كيف يمكن لمسيرة نحو الحرية أن لا تكون جدلية، تخضع لقوانين العقل، وتنفصل عن الوعي المأساوي الذي خلف آثاره على الروح بواسطة عنف الخطباء المتملقين للاستبداد:» فالذات الفاعلة تتحدد عن طريق الحرية وبمجهود التحرر، بدلا من أن تحدد عن طريق التدين والأخلاق. ذلك أن الوعي الذاتي لا يمكن اختبار إلا في المقاومة ضد شراسة السلطة الانضباطية التي تتحكم في العيش، والشبق، والموت. إنها مبيد للكينونة، ولذلك أن أغلب أفراد الشعب قد فقدوا كينونتهم ويتحركون طبقا لتعاليم السلطة التي تمررها عبر وسائل الإعلام والمساجد. هكذا تتم تلبية نداء الاستبداد بشكل مستمر، لأنه يخشى النسيان، كما يخشى الفكر والحرية. إنهم أخطر الأعداء.
بمقدار ما يدمر المستبد المجتمع باسم الحفاظ على السيادة، بقدر ما يتجه نحو الانهيار، لأن المرحلة بكاملها تتحول إلى فوضى، لا يمكن للسياسة المدنية أن تتحكم فيها، و لعل ما يقع الآن في بعض البلدان العربية خير شاهد على هذه الفرضية. لأن الأحداث تمرد داخل مسرح فارغ من الجمهور. لأن الذات عندما تتعود على الفردانية فان العوائق التي تعوق وجودها تكون دائما عوائق اجتماعية وسياسية: «سواء كان مصدرها العائلة أو الحياة، الاقتصادية والإدارية، السياسية أو الدينية. والحال انه كلما كانت السلطة متطرفة، كلما أنتجت التطرف في المجتمع، لأنه من الضد يكون الضد، لذلك نجد أن التاريخ يكرر نفسه في تلك الأنظمة المعتمة لأن اكبر جبهة للتطرف ظهرت في عنف الأنظمة الاستبدادية، التي كان المجتمع منقسما بالتساوي بين مؤسسة القمع، والمواطنين، الذين لم يتمتعوا بالحرية والإعلان عن حقوق الإنسان حتى على مستوى الوصلات الإشهارية، بل إن الاستبداد تحول عندهم إلى مشروع سلوك أخلاقي شرس. يحكم على ظاهريات الروح أن تتوج نحو التجلي السري في المقاومة. هكذا يقوم الارتباط بين الذات والتطرف الذي يقود إلى نظرية المقاومة السرية، انطلاقا من الايديولوجية نفسها التي يستغلها الاستبداد في نشر هيمنته.
كاتب من المغرب
عزيز الحدادي