لا توجد في مسيرة الزمن نقطة توقف، ولا يوجد في مجرى التاريخ اول السطر، الحوادث تتابع في سير متوال، وحدث الان يتبعه حدث الغد مثلما سبقه حدث الامس.
سلسلة الأحداث يمكن فرزها وتقطيعها لاسباب دراسية أو بحثية، فالباحث يحقب الأحداث ليتسنى له فرزها وتبوبيها لاغراض دراسته فقط، بعيدا عن سيرورة الوقائع، وكلما مرت ذكرى حدث ما في عراق اليوم تتطلب النظر إلى الخلف، ثارت زوبعة الخلافات تصحبها انقسامات الرأي، ربما كنا كمجتمع بحاجة إلى قطيعة حقيقية مع ما فات، ربما ورغم صعوبة الامر يجب أن نضع نقطة لننتهي من سطر الماضي، ولنبدأ بكتابة جملة حاضرنا التي سنبنبي عبرها مستقبلنا.
مرت قبل ايام الذكرى 96 لتأسيس الجيش العراقي، وتماشيا مع ما ذكرناه من سلوكيات، تشظت المواقف بين تحيات وتهاني وتبريكات للجيش البطل سور الوطن وحاميه وبين اتهامه بانتهاكات ودخوله اتون معارك عبثية خاضها طوال تاريخه كان فيها لعبة بيد السياسيين، وهنالك من تمادى في الامر قائلا إن الجيش قتل من العراقيين اضعاف ما قتله من اعدائهم.
موقف ملتبس خصوصا بالنسبة لشباب اليوم، الذين ينظرون بإكبار واعتزاز لبطولات منتسبي القوات المسلحة، وهم يقاتلون ببطولة منقطعة النظير التنظيمات الارهابية، وهم أمل العراقيين بالتحرر واستعادة ما احتل من الوطن.
جيش تكون قبل الدولة، هذا هو حال جيش العراق، قبل تشكل الدولة الحديثة في العراق وتبلورها على شكل المملكة العراقية، تم تشكيل الفوج الاول من الجيش العراقي الذي عرف بأسم (فوج موسى الكاظم) ليكون نواة الجيش المقبل، قام ببنائه ضباط عراقيون تحت الادارة المباشرة للاحتلال البريطاني. ضباط كانوا قبل سنوات قليلة يقاتلون كمحاربين عثمانيين ضد الجيش البريطاني والفرنسي في سوريا والعراق والحجاز، لكن واقع السياسة تغير ورسم خططا جديدة فتحول ولاء الضباط من الكفة العثمانية إلى كفة الشريف حسين شريف مكة، الذي كان يدعو لمملكة عربية في الحجاز والهلال الخصيب برعاية بريطانية، وهذا ما لاقى هوى في نفوس الضباط الشباب لينقلبوا على دولتهم العلية. ضباط درسوا وتخرجوا من الاكاديمية الحربية في الاستانة تحولوا إلى ضباط حلفاء لبريطانيا يحدوهم الولاء للامير فيصل بن الحسين، الذي قاد حملات والده العسكرية، وبعد معاناة ومؤامرات ومؤتمرات دولية تشكل الجيش العراقي، الذي سيستقبل الامير فيصل ملكا على العراق في اغسطس 1921، ليقوده احد باشوات الجيش العثماني وهو الفريق جعفر باشا العسكري، تساعده مجموعة ضباط عثمانيين أو كانوا عثمانيين مثل نوري السعيد وياسين الهاشمي وعبد المحسن السعدون وعلي جودت الايوبي وغيرهم.
جيش ضعيف لا يمتلك سوى 15 الف بندقية يقابله شعب موزع إلى قبائل واعراق ومذاهب واديان ومسلح بأكثر من 100 الف بندقية، هذا ما سمحت به دولة الانتداب بريطانيا، وهذا ما كان يشكو منه الملك، وهو يسعى لبناء امة من اشتات متفرقة، كان خائفا من تمردات قبلية تحدث في اكثر من مكان في الوقت نفسه، فلا يستطع ضبط الامور والحفاظ على استقرار البلاد، وهذا ما حدث عدة مرات منذ التمرد الكبير الذي عرف بثورة العشرين حتى الاربعينيات من القرن العشرين، حيث كانت القوة الجوية الملكية البريطانية هي من يحسم الموقف عبر قنابل طائراتها، التي امطرت بها ديوان الشيخ سالم الخيون عام 1925 إبان تمرده العشائري في اهوار الجنوب، أو وهي تمطر جبال السليمانية في كردستان العراق لتقضي على تمرد الشيخ محمود الحفيد البرزنجي، الذي كان يطمح لان يكون ملك كردستان في حقبة العشرينيات من القرن الماضي.
ورغم أن الجيش العراقي المقام على انقاض أو بقايا الفيلق السادس من الجيش العثماني، الذي كان مرابطا في العراق، الا انه بالنتيجة بني على اساس العقيدة العسكرية البريطانية التي رسمت خطط الجيش ليكون جيشا احترافيا بعيدا عن السياسة، يمتثل لاوامر القيادة السياسية المدنية دون التدخل في صراعاتها ولا يكون له موقف سياسي حيث ولاؤه للعرش والوطن وحماية الدستور في المملكة الدستورية، لكن الرغبة الجامحة لبناء القوة دفعت ساسة العراق بعد الحصول على الاستقلال الناجز عام 1932 ودخول عصبة الامم إلى اعلان التجنيد الالزامي، ليرتفع عديد الجيش إلى اضعاف ما كان عليه قبل ذلك، ولينظر الساسة ذوو الميول العراقوية للامر باعتبار التجنيد الالزامي مثالا للبوتقة التي ستنصهر فيها كل مكونات المجتمع العراقي وليمثل اساس اللحمة الوطنية.
على الجانب الاخر بدأت اولى بودار استغلال الجيش سياسيا، فقد دفع بافواج الجيش لقمع تمرد الاثوريين في شمال العراق عام 1933 لترتكب مجزرة عرفت تاريخيا بـ»مجزرة سميل» بحق الاثوريين، التي نفذها جنرال طموح سيصعد نجمه بعد سنوات هو الجنرال بكر صدقي العسكري، وهو كمؤسس الجيش العراقي جعفر العسكري احد الضباط العثمانيين ممن بُني الجيش العراقي على أيديهم، والذي سيقمع تمردا قبليا في الفرات الاوسط، حركه بعض الساسة لإسقاط الحكومة عام 1935، فما كان من الجنرال الطموح الا أن قام بأول انقلاب عسكري في الشرق الاوسط عرف باسمه (انقلاب بكر صدقي)عام 1936 ليطيح بحكومة ياسين الهاشمي المنتخبة وليعين حكومة حكمت سليمان بقوة السلاح. ومنذ تلك الساعة بدأ جنرالات الجيش يعرفون قيمة وحجم القوة التي يمسكون بها ومدى سهولة اللعب السياسي، وهذا ما يعتبره البعض الخطر المدمر الذي جر العراق إلى ما مر ويمر به حتى الان.
انقلابات عسكرية غطت عقودا دامية من تاريخ العراق، بعضها نجح وبعضها فشل، انقلابات اطاحت بحكومات، ونصبت حكومات، جنرالات صعدوا سلم الحكم على اشلاء اعدائهم منذ إطاحة الجيش بالحكم الملكي، لتدور الدورة الجهنمية في الانقلابات والانقلابات المضادة، شركاء الامس اعداء اليوم الذين يحيكون الدسائس للقفز على سدة الحكم، حرب اهلية شارك فيها الجيش بقسوة ووحشية قمع فيها تمردا كرديا في شمال العراق استمر لاكثر من عقدين، ومشاركات تكاد تكون شرفية، أو في احسن الاحوال محدودة التأثير في حروب خاضها الجيش ضد اعداء الوطن في حروب العرب ضد اسرائيل في 1948 و1973، وبعد أن تحول الجيش إلى مؤسسة محكومة ومحتكرة من قبل الحزب الاوحد في عهد البعث الثاني، دخل محرقته الكبرى على مدى ثماني سنوات في حرب ضد ايران، خاضها زعيم مهووس بأكاليل النصر حتى إن كان سيحصدها على اشلاء مئات الالاف من شباب الوطن، القائد الذي ارتدى ملابس الجنرال وهو لم يخدم يوما واحدا في الجيش، ولم تتوقف المحرقة سوى سنتين ليزج بالجيش في محرقته الكبرى في غزو الكويت.
ليتحول الجيش العراقي إلى كيان نخره الفساد والرشوة عبر عقد التسعينيات تحت ظل حصار كافر، حيث ترك للجوع والعوز ففسد ضباطه وارتشوا ومصوا دماء جنودهم المساكين، بينما جيش الحاكم الذي عرف بحرسه الجمهوري كان مصانا عن كل اذى، متنعما بعطايا ومنح قائده، همه حفظ أمن الرئيس وليس الدفاع عن الوطن، ولما دقت طبول الغزو الامريكي لم يكن هنالك من هو مستعد للقتال حفاظا على امن النظام واطالة عمره، ليكون قرار الحاكم المدني الامريكي الثاني هو حل الجيش العراقي، بعد حل حزب البعث الحاكم، ليتأسس جيش عراقي جديد المفروض أن يبنى على اسس مهنية تبعده عن السياسة وتمنعه من التدخل فيها، جيش محدود العدد ببضع فرق عسكرية لكنه متقدم تقنيا وذو تدريب عال ومحترف على فنون القتال الحديثة، لذلك صرفت المليارات على الجيش الجديد ليتضح بعد ذلك أن الفساد الذي أغرقت الطبقة السياسية فيه العراق شمل الجيش وجعله نهبا للمحاصصات الطائفية ومرغ كبرياءه وشرفه العسكري في وحل هزائم على يد عصابات «داعش» عندما انسحب من ثلث مساحة العراق تاركا اسلحته نهبا لهذه العصابات.
لكل ما سبق دخلت معايير الوطنية في الحالة العراقية في حالة من التشوش، حيث يرى البعض أن الوطنية كانت تكمن في القتال في صفوف الجيش ضد العدوان الايراني وعملائه من المعارضة العراقية، والوطنية في الاستمرار في قتال الاحتلال ومن جلبهم الاحتلال ليشكلوا الحكومات المتعاقبة منذ 2003 ولحد الان، بينما يرى اخرون أن القتال في صفوف المعارضة ابان الحكم الديكتاتوري هو اهم سمات الوطنية، حتى إن كان الموقف حينها يتطلب الوقوف في خندق معاد للجيش العراقي، بينما جيش العراق الجديد هو الجيش الوطني الذي يجب أن نفخر ونعتز به، وان الوقوف ضده موقف لاوطني وان من يزج بنفسه في هذا الامر خائن دون مواربة، لنعود على بدء ونقول؛ هل نستطيع أن نضع نقطة على سيرورة ما مضى لنبدأ جملة جديدة في بناء مستقبلنا؟
كاتب عراقي
صادق الطائي