أعراق أم نماذج؟

حجم الخط
10

عرفت دراسات «الأدب المقارن» فكرة «النماذج الأدبية» التي تعددت إلى «نماذج إنسانية» مثل «نموذج البخيل» كما عند الجاحظ وموليير، و»نماذج أسطورية» مثل «نموذج الشيطان»، كما في «فاوست» غوته، وهناك مئات النماذج الإنسانية الأخرى مثل: الفلاح والفارس والشيخ والكاهن والبغي وغيرها، ونماذج أسطورية مثل بروميثيوس وبيغماليون ونرسيس وسندباد وغيرها.
معلوم أن فكرة النموذج متعالية على معطيات الزمان والمكان والعرق. بمعنى أن البخيل يكون في كل الأزمنة والأمكنة والأمم من دون أن يختص بمكان أو عرق معينيين. وفي النص الديني- القرآن مثلاً – ترد نماذج متعددة يقوم النص ببنائها لمقاصد محددة، مثل «أخذ العبرة أو اتخاذ القدوة»، بغض النظر عن أعراق تلك النماذج، غير أن قراء النص يحاولون- أحياناً- أن يجعلوا «النموذج» خاصاً بالعرق، ومتعلقاً به، أثناء تلقي النصوص.
عندما يتحدث النص الديني عن أقوام معينة عملت عملاً صالحاً أو غير صالح، فإن القصد إبراز قيمة العمل، أو إعلاء درجة النموذج، لا الحديث عن النموذج مرتبطاً بأقوام بأعيانهم. لكن مشكلة المتلقين للنصوص، أنهم أحياناً يخلطون بين النماذج والأعراق، كما ذكر، فيسحبون عمل السابقين من العرق- خيراً أو شراً – على اللاحقين من العرق ذاته، ويحملون الأبناء أوزار آبائهم التي لم يجترحها الأبناء، ويُكسبون اللاحقين مزايا لم يفعلوها لمجرد أن أسلافهم فعلوها، ومنشأ ذلك إلى ما ذكرناه من خلط بين النموذج والعرق لدى قراء النصوص، ومؤولي النماذج.
رسم القرآن – على سبيل المثال- لبني إسرائيل «نماذج» مختلفة في حالات القوة والضعف والخير والشر، آخذاً مغزى عميقاً في وضع لوحة تاريخية أمام «الأمة المسلمة الجديدة»، في إشارة إلى أن الأمم تسير المسارات ذاتها، بغض النظر عن أعراقها، وفي ملمح لإرادة وضع «نموذج» للاقتداء إيجاباً، والتجنب سلباً. ولم يكن القرآن ليهتم ببني إسرائيل كعرق أو سلالة أو كأبناء نبي، بل اهتم بوضع «النموذج الإسرائيلي» أمام المسلمين، بغض النظر عن «العرق الإسرائيلي»، غير أن تعاطي بعض المسلمين – غالباً- اتسم كما ذكرنا بخلط «النموذج» بالعرق فألقوا على اليهود مثالب سابقيهم، في حين ألقى بعض اليهود على الإسرائيليين المعاصرين مناقب أسلافهم، وهذا يعني أن النظر حصر في العمل الذي عُمِل- خيراً أو شراً- على أساس أنه تم على يد «سلالة عرقية» لا نموذجا إنسانيا، وهنا تضيع العبرة ولا يتم تعلم الدروس.
وللتوضيح أكثر، أشار القرآن إلى بني إسرائيل بقوله «ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان». هذه الآية تخبر عن نموذج لا عرق، ومعنى ذلك أن جريمة «الإخراج من الديار» متعلقة بـ»نموذج القاتل الظالم»، الذي يمكن أن يكون في أي عرقية، وليست خاصة بسلالة بني إسرائيل، وهذا هو قصد النصوص المتسق مع مقاصد الدين الإنسانية. وتأتي الإشكالية عندما يجعل بعض المسلمين تلك الصفة تخص الإسرائيليين أو اليهود كعرق أو ديانة، مع أن العرب كعرق والمسلمين كديانة انطبقت اليوم عليهم الآية «تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم».
إن النموذج الإسرائيلي اليوم في تعاطيه مع شعبه هو أقرب إلى النموذج الإسلامي في كيفيات تعاطي الحكام مع شعوبهم، لكن النموذج الإسرائيلي اليوم في تعاطيه مع الفلسطينيين أقرب إلى «النموذج العربي» قبل الإسلام في غزو الديار واحتلال «مساقط الماء والكلأ»، وهذا يؤشر إلى تبادل الأدوار بين الأعراق البشرية في تلبسها لحالات النماذج الإنسانية المختلفة.
هناك بالمقابل نصوص دينية كثيرة حول «أهل البيت» ومكانتهم في الإسلام، وقد تحدث القرآن عنهم لإرادة التعامل معهم كنموذج إنساني لا سلالة عرقية، غير أن أنسالهم يحاولون اليوم سحب مناقب السابقين عليهم، والاستفادة من تراثهم على أساس أن السابقين ميراث اللاحقين، فحين وصف القرآن «أهل البيت» بقوله «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا»، يحاول بعض منتسبيهم- اليوم- أن يجعلوا الآية منسحبة عليهم على أساس «الانتماء العرقي»، حتى إن مارسوا أفعالاً لا تتفق ومفهوم «التطهير» في الآية، ومرجع ذلك أنهم نظروا إلى أهل البيت كسلالة عرقية أو أسرة لا كنموذج إنساني أو فكرة، وهذا مخالف لمراد النبي الذي قال «سلمان منا أهل البيت»، رغم «فارسية» سلمان، في إشارة إلى تعاطي النبي مع الفكرة لا الأسرة، في هذا الخصوص.
إن الإشكالية التي يقع فيها من يتعاطى مع الأعراق لا النماذج أنه يستمر في قدح السابقين – من عرق غير عرقه – بسبب مثالب وقع هو فيها، ويستمر في مدح السابقين- من عرقه – بسبب مناقب لم يعد يؤديها، ومرجع ذلك أن صاحب هذا المنحى نظر إلى «العرقية» لا إلى «النموذجية».
الحقيقة أن الأعراق تتبادل النماذج، كما ذكر، ولكن من دون الاعتراف أو من دون الشعور بذلك، لأن تلك الأعراق تجعل الأعمال التي بنت تلك النماذج من نصيب عرق بعينه، لا نموذجا في حد ذاته، مع أن النماذج منفصلة تماماً عن الأعراق ولا علاقة لها بالسلالات.
وللتوضح أكثر هناك إشكالية لدى الفكر السياسي الإسلامي، تأتي من بعض النصوص في الحديث التي نصت على أن «الأئمة من قريش»، وقد ورد في حديث السقيفة أن الخليفة الثاني أبا بكر احتج على الأنصار الذين طالبوا بالخلافة بأن «العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش»، وكان أبوبكر براغماتياً في ذلك، لأن العرب في ذلك الحين كانت لا تعرف السيادة إلا في النموذج القرشي، لكن أبابكر لم يقل ذلك على اعتبارات عرقية، أو لنسب قريش أو قربها من النبي، ولكن لأن هناك مجموعة خصائص سياسية واقتصادية تؤهل «قريش القرن السابع الميلادي» لتولي السلطة.
ولكي نفصل أكثر يمكن القول إن «القرشية» نموذج، وليست عرقاً، بمعنى أن أي عرق أو قبيلة أو مجموعة بشرية أو حزب سياسي تنطبق عليه اليوم خصائص «القرشية» فإنه أهل للحكم أو «الخلافة والإمامة»، فيما يخرج أنسال قريش من الحكم في حال عدم انطباق خصائص «النموذج القرشي» عليهم، رغم انتسابهم عرقياً لقريش، لأن «القرشية» المقصودة نموذج لا عرقا، وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على نموذج «الهاشمية»، أو نموذج «أهل البيت»، كما مر هنا.
إن التركيز على فكرة «النماذج» يحرر العقل المسلم من الارتهان لموروث «الأعراق»، ويخرجه من التقوقع العنصري إلى رحابة إنسانية واسعة، لا تحصر الأعمال الصالحة ولا الأعمال غير الصالحة في عرق أو سلالة بعينها، وهذا يهيئ لربط «المناقب» و»المثالب» والنجاح والفشل بالقيم والأفكار والأعمال السائدة لا بالأجناس والسلالات البائدة. ثم إن التركيز على «نظرية النموذج» مهم لفصل الدين عن «الجين»، وضروري للنظر للإسلام على أساس أنه «فكرة» لا «أسرة»، الأمر الذي يحرر الإنسان المسلم اليوم من التعالقات العنصرية، المنطلقة من كون أعمالاً معينة – سلباً أو إيجاباً – مرتبطة بأعراق معينة، وهي فكرة تناقض جوهر الإسلام، كما هي مناقضة لجوهر المدنية والقيم الحضارية المعاصرة.
أخيراً: يمكن تلخيص هذه المقالة في الآية: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون»، حيث تركز الآية على النموذج/القِسط لا على العِرق/القوم، وهذه غاية العدل والإنصاف، وهذا منتهى التعاطي الإنساني.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»

 

أعراق أم نماذج؟
د. محمد جميح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رياض- المانيا:

    رااااااائع!
    الاسلام عالمي التوجه والرسالة وهو عابر للاعراق والثقافات والازمان. ليس فيه افضلية لعرق على آخر لان ميزان الافضلية هو التقوى والتقوى مصطلح شامل يلزم العبد بالشعور  بمراقبة ربه في كل افعاله واقواله ملتزما بالمنهج وجاعله اسلوب حياة سواء في التعامل مع المسلمين او غير المسلمين. وما أجمل الحديث النبوي الشريف بهذا الخصوص ( اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). فالتقوى هنا شملت كل الازمنة والامكنة فهي عابرة شاملة. ولدينا فرصة لتصحيح الخطأ بشكل بناء وايجابي مع مراعاة طبيعة النفس البشرية. هنا بالتحديد فرصة دائمة  للقيام بحركة تصحيحة سواء على المستوى الفردي او المجتمعي او بما يشمل كل الامة. ثم اهمية خطاب الاخر من بني البشر والتعامل معهم بخلق حسن. كما قال غوته (لا يؤثر في قلوب الاخرين، الا ما خرج بصدق من القلب). نحن بحاجة بداية الى تفعيل المقاصد العليا للدين في نفس كل واحد منا وخاصة التقوى. والمتأمل للحديث النبوي الشريف الذي قال فيه عليه السلام ( التقوى ها هنا، في اشارة الى القلب) بعدها يمكن النتقل الى مستويات أخرى. لو اهتم الاسلام بالعرق لما نزلت سورة المسد ( تبت يدا ابي لهب وتب). متوعدة عم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعذاب لانه وقف في وجه الرسالة العالمية لخير البشر كافة. كذلك هي نفس الرسالة التي جعلت بلال الحبشي و صهيب الرومي وسلمان الفارسي من كبار الصحابة. جميعهم انصهروا في جسد أمة واحدة وانطلقوا في ارجاء المعمورة لنشر رسالة السماء الخالدة. وهي نفس الرسالة التي ساوت بين البشر قويهم وضعيفهم وغنيهم وفقيرهم والميزان هنا ايضا هو التقوى لهذا نرى القران العظيم يعاتب النبي عليه السلام في قصة عبد الله ابن أم مكتوم المعروفة ( عبس وتولى… ان جاءه الاعمى…وما يدريك لعله يزكى… او يذكر فتنفعه الذكرى.اما من استغنى… فانت له تصدى. وما عليك الا يزكى…وأما من جاءك يسعى…وهو يخشى. فانت عنه تلهى. كلا انها تذكرة… فمن شاء ذكره) فكان هذا الاعمى في ميزان الله خير من سادة قريش اصحاب المال والنفوذ. ابعد هذا عدل؟ ان أعظم رسالة واشرف رسالة واطهر رسالة وصلت الارض، هي تلك التي اتى بها جبريل عليه السلام من رب العالمين الى النبي الأمين عليه السلام وهو يتعبد في غار حراء. فالعالم بعد هذا اليوم لن يكون كما كان قبله ابدا ( اقرأ باسم ربك الذي خلق).

    1. يقول صوت من مراكش:

      رياض- المانيا بعد التحية

      قرأت مقال السيد محمد جميح منذ اكثر من ساعة و كنت على وشك ان

      ابدأ تعليقا ب “رائع” و لكن قوة النص و دقته دفعا بي للتوقف بحثا عن ما

      يليق ببليغ شرحه و تفصيله فلم اجد غير القول لقد عودنا صاحب المقال على

      انه دوما اللاحق من مقالاته ينسيك في السالف لذا فالأروع تعدنا به مقالاته الآتية

      تحياتي

    2. يقول رياض- المانيا:

      @ صوت من مراكش
      تحية رمضانية طيبة لك ولاهل مراكش الكرام. معك كل الحق أخي الكريم فمقالات د. جميح أكثر من رائعة وهي دوما في تألق دائم الى الافضل. وكذلك هو حال تعليقاتك الماتعة والمفيدة.
      دمت بخير.

    3. يقول رياض- المانيا:

      تصحيح بعض الاخطاء: عذرا!!!
      بحركة تصحيحية
      ثم تبدو أهمية مخاطبة
      بعدها يمكن التنقل

  2. يقول الدكتورجمال البدري:

    رمضان مبارك يا شاعرأودية العشق.كنت أقرأ لمتخصص خبيرفي علم الاجتماع وفلسفة التاريخ ؛ وليس لدكتوراه فقط بالأدب العربيّ.بعض الموضوعات التي تتناولها تحتاج لأكثرمن مقال ؛ ياليتّ تكتب سلسلة منها بالاتجاه المشترك.حفظك الله ياأخ العرب.

  3. يقول عباس الخليفة:

    مقالة أخرى أطالب بأن تدرج ضمن المناهج التعليمية في جميع المدارس العربية إبتداءً من المرحلة الوسطى لما تحمله من المعاني الراقية النابعة من القرآن الكريم وأهمها نبذ الطائفية.

  4. يقول الكروي داود:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) المؤمنون

  5. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    هو اكثر من رائع كما وصفه اخي الرائع هو بدوره د. رياض.
    .
    و بالفعل اتفق مع كافة الأخوة المعلقين المحترمين الذين وصفوا ان كل مقال للدكتور جميح يأتي هو افضل من سابقه ، و اكثر روعة
    .
    اثني ايضاً على طلب الأخ عباس الخليفة ، بإدراج مثل هذه المقالات و افكارها ضمن مناهج التعليم في الدول العربية.
    .
    الأمر واضح لكل ذي بصيرة ، و لكن الانتهازيين في كل زمان من تعمد الفصل بين الأمرين ليتاجر به ، لمصلحة شخصية او قبلية او عشائرية ضيقة و من اجل الاستحواذ على الحكم و السلطة !
    .
    هناك آية ، اظنها تحسم الأمر كله …
    .
    ” وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ”
    .
    هل هناك اوضح من هذه الآية فيما اراد الاستاذ الدكتور محمد جميح الوصول اليه و ايصاله ؟!

  6. يقول فؤاد مهاني المغرب.:

    أضم صوتي كذلك إليكم ،هو موضوع رائع للكاتب والأديب الدكتور محمد جميح لكن دعوني مع احترامي للأستاد الكريم ولآراء البعض أن اختلف معكم من حيث رؤيتي للنص الديني كما أعلم (والعلم هو لله تعالى) وهو أن النص الديني رغم أنه كما قلت هي نماذج من أجل المقاصد كأخذ العبرة واتخاد القدوة إلا أن هذه النماذج أو البعض منها حافلة لعرق خاص منذ آلاف السنين إلى الآن وهم بنو إسرائيل. فما يقرب من ربع القرآن الكريم وخاصة سورة البقرة هي سرد لقصص اليهود وأفعالهم، قتلوا الأنبياء ولعنوا على لسان دواود وعيسى بن مريم كما ورد بالقرآن الكريم وكأن الله تعالى يحذرنا منهم رغم قلتهم وما اغتصابهم لفلسطين وتشريد شعبها سوى دليل على ذلك والتاريخ مليء بالجرائم التي اقترفها هذا العرق في حق البشرية السبب الذي جعلهم مضطهدين ومنبوذين عبر العصور من قبل أمم وحضارات – أستثني منها حضارتنا الإسلامية- نظرا لخبثهم ومكرهم الشديد إلى حد الآن يتجلى ذلك في تواطؤ بني صهيون وصفيون بالعراق وسوريا
    كما تقول الآية القرآنية التالية (لتجدن أشد الناس عداوتا للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا…)

  7. يقول عيسى بن عمر ـ تونس:

    شكرا للكاتب المحترم.
    ما قلتَه من كلام بليغ يُعَد واحدا من أهم مداخل تجديد الفكر الديني خاصة، وترشيد الفكر الإنساني عامة.
    جزاك الله خيرا
    وهل من مزيد؟

إشترك في قائمتنا البريدية