عندما بدأ اهتمامي بالكتابة منذ أوائل السبعينيات كانت تثيرني عبارة «بقلم» التي كانت تتصدر أسماء الكتاب في المجلات الثقافية، التي كنا نستطيع الحصول عليها قديمة في الأسواق الشعبية.
لم أكن أعرف ما الذي يثيرني فيها بالضبط، ولكن العبارة ظلت تسكنني. فهل يعود ذلك إلى المنسوبة إليهم، وقد كنت أقدر في كل منهم خاصية لا أجدها في غيرهم، ورغم اختلافي مع بعضهم في بعض الأفكار التي ينادون بها، كنت أظل أحمل لكل منهم إعجابا خاصا لمكانتهم التي رسخوها في واقعنا الثقافي.
يكمن جزء أساسي من تلك العبارة، وأنا أحاول خوض غمار الكتابة، في أنني صرت أحلم بأن يكون لي «قلمي» الذي أخط به مثل ما يخطون، ويقرؤني القراء. لكن سحر العبارة ظل يراودني، وعندما بدأت أكتب مقالاتي الأولى، كنت أقلد صفحة المجلة، فأوزع الصفحة التي أكتب عليها إلى عمودين، ولا أنسى قبل أن أخط اسمي أن أكتب عبارة «بقلم:…». كنت أحس حينها بنشوة وفخر. وفعلا عندما نشرت أولى مقالاتي في جريدة «العلم»، كانت الـ»بقلم» تتصدر الاسم. لكن هذه الـ»بقلم» ستثير أحد أصدقائي في الثانوية، عندما أطلعته على أولى مقالاتي، فضحك منها وسخر ما شاء الله أن يفعل، وأنا منبهر بسلوكه. لقد كنا حين نسمع بعض التعابير أو التراكيب الجديدة علينا، سواء في العربية أو الدارجة، نترجمها حرفيا إلى الفرنسية ، ليكون ذلك مدعاة للتندر والضحك. ولعل صاحبي، قام بترجمة «بقلم» إلى الفرنسية، فاستغرب العبارة، وتساءل أي قلم؟ جافا؟ أم حبرا؟ ومع ذلك ظل للكلمة رنينها في نفسي.
كانت «بقلم» موصولة بكاتب تشير إلى نوع خاص من الكتابة، وشخصية ثقافية لها ملامحها المائزة. فعندما أربط «بقلم» باسم العقاد، أو أحمد زكي، أو توفيق الحكيم أو سلامة موسى… أرى أن دلالاتها عميقة، لأنها تشدد على صلة وثيقة بين الكاتب وما يكتب. ولست أدري هل للكلمة الفرنسية المقابلة للقلم (ستيلو) علاقة ما بالأسلوب الخاص الذي يتميز به الكاتب، رغم كون الكلمة حديثة؟ لقد ظلت هذه السابقة ترتبط بأجيال من الكتاب العرب، اتصل اسمهم وعطاؤهم بالعصر الحديث وبالصحافة أيام عزها، وبالثقافة في أزهى صورها، وأبهى عطاءاتها وأنقى رجالاتها.
بدأت نهايات الـ»بقلم» تتلاشى في الاستعمال في الإعلام العربي. وها هم رجالاتها يتخطفهم الموت واحدا بعض آخر. ففي غضون أقل من شهرين، غادرنا الغيطاني، ولحق به المسناوي. ثم ما لبث أن سمعنا اختفاء فاطمة المرنيسي، وبعدها إدوار الخراط. أرى أن الجيل الذي عايش جزءا من الاستعمار، وتجرع مرارة النكبة واهتز وجدانه وعقله لما جرته النكسة، وعاين ويلات الحرب على العراق، ورأى الأطفال يقصفون بالطائرات المتعددة الهويات في العراق وسوريا… وهو الذي عانق الشعارات والطموحات الكبرى، وساهم بأريحية وتفان في حب الوطن واللغة العربية والثقافة العربية، بدأ يسافر بعيدا، من دون أن يودعنا، وهو بلا حقائب ولا جواز سفر، إنه جيل «البقلم».
يشترك هذا الجيل في إيمانه بأن الثقافة قضية، وأن الكتابة رسالة. وكل تعامل مع القضية والرسالة وفق إمكاناته وحمولاته المعرفية والشخصية، وآمن بهما متفانيا في خدمة القضية وأداء الرسالة التي نذر لها نفسه.
من مدينة فاس خرجت فاطمة المرنيسي، وهي المتشبعة بالثقافة العربية والفرنسية لتعانق قضية المرأة فكرست لها حياتها، وحملتها معها في مدرجات الجامعة، وحلقات الندوات والمؤتمرات العالمية، وأروقة المعارض والمكتبات، والجلسات الخاصة، ودبجت بقلمها كتبا تحليلية وإبداعية، قيض لها أن تنتشر، وتترجم إلى عدة لغات. عرفت كتاباتها حول المرأة، والحريم، وشهرزاد ليست مغربية، والإسلام والديمقراطية… انتشارا واسعا بين فئات القراء العرب. وعلى غرار كل الذين ظلوا يحملون القلم هاجسا للتعبير والتفكير البعد الموسوعي وتعدد الاهتمامات، فلم تكتف فاطمة المرنيسي بالكتابة الإبداعية، والتحليل الاجتماعي للظواهر، ولكنها اهتمت أيضا بالسينما ومارست التمثيل.
ومن الإسكندرية جاء إدوار الخراط، ليجسد الفنان الحقيقي في عباراته وفي فكره وحياته. مارس التجديد ودافع عنه بوعي المفكر، وعشق المبدع، فكتب القصة القصيرة والرواية والشعر والنقد، ومارس الترجمة. وكما كان الغيطاني رائدا في الالتفات إلى أهمية التراث، وإثارة الانتباه إلى قيمته، من خلال الكتابة السردية، أثار الخراط الانتباه إلى العصر، فكانا مجددين بامتياز. ولَّد إدوار مصطلح «الحساسية الجديدة» ليكون عنوان حقبة جديدة من الإبداع والتفكير تجاوز حدود مصر إلى الوطن العربي. وكانت رائعته «رامة والتنين» تعبيرا عن نهج جديد في الكتابة الروائية. زاوج في كتاباته السردية بين الشعر والسرد، فكانت رواياته وقصصه متميزة، سواء من حيث عوالمها أو لغتها.
بدأت تزول عبارة «البقلم» التي كانت تتصدر أسماء الكُتاب. وبزوالها بدأت تبرز ظواهر لا حصر لها: صار اسم الكاتب مقرونا بالدكتور، كما صارت الأسماء، تذيل أحيانا، بصفة خاصة: «الناقد، المحلل…»، وأحيانا أخرى ينتهي اسم الكاتب ببريده الإلكتروني.
نهاية «بقلم» إيذان بنهاية حقبة كرست «الأقلام» فيها نفسها بالجدية والصدق. فما هي خصوصية «الأقلام» الجديدة؟ إنه سؤال التاريخ الثقافي العربي الحديث الذي لا نهتم بكتابته.
كاتب مغربي
سعيد يقطين
بسم الله الرحمٌن الرحيم
لقد شابهت بداياتك يأخي سعيد بدايتي , وعندما كنت أقرؤ لطه حسين وأنيس منصور وعبد القادر المازني والعقاد أشعر بالإعجاب الكبير لهؤلاء العمالقة وأتمنى لو يظهر اسمي في جريدة او مجلة ولو بمقال صغير وظلت الفكرة تراودني حتى بعثت بمقال إلى جريدة عمان المساء في بداية السبعينيات من القرن الماضي وكان املي ضعيفا في نشره ,وأصابتني فرحة كبيرة عندما قراته في الجريدة , ثم تابعت التجربة في مسابقة القصة الأردنية عام 1974 وكتبت قصة وأرسلتها إلى العنوان المعني ولم أفكر ولو أدنى تفكير بان يكون لي نصيب في هذه المسابقة وفوجئت باسمي بجانب االدكتور أحمد الزعبي ويوسف الغزو وكنا الفائزين الثلاثة من بين مئتين وخمسين قصة , وكاد يغمى علي من شدة الفرح .
وبعدها انطلقت إلىجريدة الرأي وصار ينشر لي باستمرار وكتبت عشرات المقالات في هذه الجريدة وفي الدستور وجريدة اللواء وإن كان بشكل أقل ثم بدأت بكتابة الروايات والقصة القصيرة بالإضافة إلى المقالة وصار لي الآن عشرة كتب في هذه الفنون الثلاثة ,.
ماقصدت ان أقوله : إن الإنسان يجب أن يثق بنفسه وأن يلاحق الموضوع الذي يحبه ولاييأس , شريطة أن يحتاط لما يحب من حيث القراءة والإطلاع على تجارب الآخرين .
أشكرك على إثارة هذا الموضوع وعلى إبداعك , أمد الله في عمرك وعمر كل أدبائنا وفنانينا .
” ولست أدري هل للكلمة الفرنسية المقابلة للقلم (ستيلو) علاقة ما بالأسلوب الخاص الذي يتميز به الكاتب، رغم كون الكلمة حديثة؟ ”
بالفرنسية كان يقال أيضا دون ان يكون في ذلك شيء من التنذر:
: Sous la plume de
عميق كعادتك أستاذ أدام الله قلمك وأعز به لغة أحببناها على أيدي أساتذة من طينتك الناذرة
تحية أستاذنا الفاضل على كل مقالاتك المؤثرة، برصيدها الثقافي ومقارناتها وغورها في أسئلة الذات و المثقف
أما مايبدو لي اليوم، فإن هذه الشبكة وما تتيح من مواد ثقافية حديثة وتراثية، فإن استغلالها، من طرف الجيل القادم، يتوقف عند … copier et coller
وتبقى أسئلة المثقف والواقع والثقافة في غرفة الإنعاش، خاصة مع غياب مشروع سياسي ثقافي، يصل بين أزمنتنا الحضارية